الشيخ الحافظ عبد الهادي المسوتي

أبا نزار...ولا تفي بحقك الكلمات

... وتعود بي خيوط الذاكرة إلى أكثر من نصف قرن مضى، فيتراءى لي فتىً يافعٌ لا يتجاوز العاشرة من عمره، يتأبَّط كتاب الهدية العلائية في الفقه الحنفي، ليتوسَّط حلقة من حلقات العلم في مسجد السادات بدمشق الشام، ويكتنفه طفلان غريران، يلوذان به، ويحتميان بظله، عله يشفع لهما جلوسهما في مجلس لا يجلس فيه إلا الكبار عادة.

أما شيخ المجلس فهو شيخنا الشيخ عبد اللطيف الفرفور، وأما الطفلان فأنا وأخي رضوان... وأما الغلام اليافع الناشئ في رحاب العلم فهو خالي عبد الهادي مسوتي رحمه الله وبرد مضجعه.

كان ذلك أول العهد بطلب العلم، ومجالسة العلماء، والمزاحمة بالركب... وأحسبه كان عام 1964.

وتمضي الأيام.. تتبعها الشهور والسنون، فما تزيده إلا حرصا على طلب العلم، وحبا برجالاته، وتشبثا بحباله، واحتفاء بأهله، واقتناء لكتبه.

أذكر أن والدتي - أطال الله في النعمة بقاءها - كانت تستعير منه كتب الطنطاوي، وما إن تنتهي من كتاب حتى تشرع بالآخر، وانتقلت إلينا عدوى الشغف بالمطالعة، وأكرم بها من عدوى، فبتنا عاشقين للكتب، نترقب فراغ الوالدة من أحدها لنعكف عليه قارئين مستمتعين ومفيدين.

وكان الخال الحبيب عبد الهادي مع أخويه هشام وفريد أترابا لنا وأقرانا، لا نجد دنيانا إلا بهم، ولا يروق لنا العيش إلا معهم، ولا تحلو لنا الحياة إلا في كنفهم..غادين رائحين، وعابثين لاعبين.. لا يخشى علينا الأهل شيئا من غوائل الطفولة وطيشها ما دام معنا عبد الهادي مرشدا وموجها وصمامَ أمان من كل منزلق، إذ كان الأكبر فينا.

وكم أسَّس لنا من مشاريع يختلط فيها اللعب بالجد، والأنس بالفائدة، والمتعة بالتعليم والعلم...

حتى إذا شب عن الطوق أخذ نفسه أخذا حازما بالجد والاجتهاد والعلم والعمل، فكان القدوة الصالحة لنا، وكم كنت أغبط أخي رضوان على صحبته له في صف واحد، ودراسة مشتركة، ونجاح مضطرد.

وخارَ له المولى سبحانه أن يدرس الصيدلة فكان المبرز فيها، ولم يصرفه ذلك عن طريق العلم الشرعي، بل كان ينهل من مجالسه ويتفنن في حضور حلقاته، بدءا من حلقات الشيخ عبد اللطيف صالح الفرفور، وبعض حلقات والده الشيخ صالح، ومرورا بحلقات تلامذته وعلى رأسهم شيخنا العلامة الشيخ عبد الرزاق الحلبي، وانتهاء بدروس الشيخ لطفي الفيومي، والشيخ أحمد نصيب المحاميد، والشيخ حسين الخطاب، والشيخ كريّم راجح، والشيخ هشام البرهاني والشيخ محمد سكر.. وغيرهم كثير عيهم رحمات المولى سبحانه.

وكم كان حريصا أن يأخذني إلى هذه المجالس.. لا زلت أذكر تجشمه عناء اصطحابي من بيتي في جوبر قبل الفجر لأحضر مجلس الشيخ عبد الرزاق الحلبي في الأموي، وكذا كان يكرمني بصحبته وصحبة خالي أبي وائل - حفظه المولى ورعاه - لحضور مجلس شيخ القراء الشيخ حسين الخطاب رحمه الله تعالى في بيته بالقاعة، ثم يجشم نفسه عناء توصيلي إلى مركز الدراسات والبحوث العلمية بالمزة.

وبلغ من حرصه على العلم وتفانيه في طلبه، أن انتسب إلى قسم التخصص في معهد الفتح الإسلامي، ليدرس اللغة العربية، وينال بها الإجازة من جامعة الأزهر، وكنت إذ ذاك مدرِّسا فيه، ويعلم الله ما لقيت من حرج وأنا أدرِّس شيخي، وأواجه معلمي، وهو يصبر ويصابر ، ويتلقَّى عني بنفس راضية، وجد وجلد برغم ما يعانيه من مرض وتعب.

ثم أكرمه الله سبحانه فاختصه بأكرم منزلة، حين صار من أهل القرآن، أهل الله وخاصته، فانقطع له، معلما ومرشدا، وقارئا ومقرئًا، وحافظا محفّظا.. وأنعم بها من رتبة تنتهي إليها الخيريَّة، مصداق حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

فقرأ عليه خلق كثير، وانتفع بعلمه وفضله وتجويده وترتيله أجيال وأجيال، يجتمع فيهم الآباء مع الأبناء، وتلتقي فيهم الأمهات مع البنات، وقد أكرمني المولى سبحانه بحضور بعض مجالسه والانتفاع بها والنهل من خيراتها.

رحمك الله يا أبا نزار بكل حرف قرأته أو أقرأته.. وجودته أو صححته.. في كتاب الله جل وعلا، ورحمك الله بكل صبر صبرته، وكل كأس تجرعته، وكل هم حملته.. وجعل مقامك في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجزاك عنا وعن أهلك وتلامذتك وأمتك خير ما جزى راعيا عن أهله، ومقرئا عن صحبه وتلامذته، وعالما عن قومه وأمته.

ولله الحمد في الأولى والآخرة إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

الشيخ عبد الهادي مسوتي مع فضيلة الشيخ المقرئ عبد الرزاق الحلبي