الشيخ أحمد القطان وبناته.. رؤية تربوية

العلاقة مع البنات علاقة خاصة تستمد خصوصيتها من وصف النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بالقوارير، وكذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم لهن بالمؤنسات الغاليات، ومهما بذل الأب من جهد في تربيتهن وجده عند الله تعالى.

 

خلال هذه الأسطر نتعرف على جانب مهم من جوانب شخصية الشيخ أحمد القطان في تربيته لبناته من خلال لقاء أجرته مع بعضهن مجلة "عالم حواء"، وكان ذلك قبل 19 عاماً(1). 

 

أول معالم تربية الشيخ رحمه الله تعالى لبناته التربية المشتركة بين الوالدين، تلك التربية التي يجتمع فيها عقل الأب وعاطفة الأم وخبرة الأب بالناس والحياة، وتجربة الأم في التعامل مع هذه الكائنات الرقيقة، هذه التربية المتكاملة تنشئ شخصاً متوازناً ينتمي لأسرته الصغيرة ووطنه الكبير، يحب الآخرين ويستطيع التعاون معهم، ويبادر إلى كل خير، بينما المشاكسة بين الوالدين داخل البيت تؤثر على نفسية البنات خاصة لما طبعن عليه من رقة.

 

وهذه المشاركة في التربية تجعل الأبناء والبنات قريبين من الوالدين، وتجنبهم الصراع الداخلي الذي يمزقهم ويصيبهم بمختلف الأمراض النفسية والعضوية.

 

ومن سبل تعزيز السلامة النفسية التعبير عن المشاعر المختلفة التي تنتاب الوالدين، فالصلابة النفسية لا تعني أبداً تحجر العواطف وجمود القلب، بل تعني أن تدمع العين إذا كان الموقف يتطلب ذلك، وأن يبتسم الوجه إن كان الموقف مناسباً، وقد كان الشيخ رحمه الله لا يمنع دموع عينه أن تنساب، ولا ضحكاته أن تنطلق، ولا يخل ذلك أبداً بمكان الأب ومكانته، فالأب إنسان يتقلب في المشاعر ويتأثر بالأحداث، والدرس الذي يمكن أن نقدمه لبناتنا إزاء المشاعر المختلفة هو التوازن وتعلم القدرة على التحكم في النفس، فلا يقتلها الحزن ولا يطغيها الفرح وينسيها حق ربها.

 

ومن سبل تعزيز السلامة النفسية تقدير الجمال، وكونه يشمل الحياة كلها وليس المظهر الخارجي والجسد فقط، فالجمال يجب أن يكون في الكلمة الطيبة والنظرة العفيفة والسلوك الطاهر والحوار البناء وفي الإحسان إلى الآخرين.

 

كان الشيخ رحمه الله منتبهاً لأهمية الوقت وما يمكن أن يحدث في دقيقة واحدة من خلال حكمة تقال أو حوار نبدأه بلباقة وحسن استفتاح، من خلال سؤال يطرح يتبارى الجميع في الرد عليه، أو مواصلة البحث لهذا السؤال عن إجابة أشمل وأعمق، يمكن خلال الدقيقة الواحدة إذا أحسنا استغلالها أن نعلق على مشهد رأيناه جميعاً ما بين موافق ومخالف، ونتعلم من خلال ذلك أن يحترم بعضنا بعضاً، ونكرس ممارسة مبدأ الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، نتعلم النقاش الخالي من السفسطة والجدال بالباطل، نتعلم كيف ندافع عن آرائنا ونقدم الأدلة على صحتها، وبالممارسة السوية للحوار نرسخ التحلي بآدابه.

 

يمكن استغلال تجربة الانتفاع بالدقائق القليلة التي يصاحب الأب فيها بناته خلال توصيلهن إلى المدرسة أو اللقاء على مائدة الطعام، يمكننا خلال هذه اللحظات القصيرة أن نعبر عن حبنا لبناتنا، ونتبادل معهن المشاعر الطيبة والأحاسيس الجميلة، يمكننا أن ننقل خبراتنا التي تكونت عبر السنين، وأن نوثق صلتنا ببناتنا، تلك الصلة التي قطعها الانشغال بالهاتف، يمكننا خلال هذه اللقاءات القصيرة أن نطمئن على مسار بناتنا التعليمي والنفسي والفكري والإيماني كذلك، وهل التغيرات التي نلاحظها تناسب المرحلة العمرية التي تمر بها البنت؟ يمكن خلال هذه اللقاءات القصيرة أن نقول معاً الأذكار أو آيات من القرآن الكريم أو نردد حديثاً للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وبذلك نحولها من أوقات ضائعة إلى فرصة للحب وتكوين زاد ثقافي وفكري وعاطفي.

 

وإذا تكون رصيد من الحب المتبادل بين الأب وبناته وجدت الوصية سبيلها إلى العقل والقلب، ووجدت طريقها للتنفيذ، أوصى الشيخ إحدى بناته ألا تترك طلب العلم مهما كانت مشاغلها، والعاقل هو من يستطيع تنظيم الوقت والانتفاع بأوقات الفراغ، وأوصى أخرى أن تكون مثل الشاطئ الذي يمسح الموج الآثار الموجودة عليه فتنسى المواقف السيئة حتى لا تتأثر بها.

 

كان الشيخ، رحمه الله، يقسم المسؤوليات بين بناته إذا سافر، ومسألة تكليف البنت بمسؤولية تناسب تكوينها وعمرها وقدرتها إحدى المسائل المهمة في التربية، فما أسرع أن تنضج الفتاة وتقف على أعتاب الزواج لتجد نفسها قد صارت مسؤولة عن نفسها وزوجها وبيتها وربما أقارب زوجها ممن يزورون البيت أو يقيمون معهم.

 

إن لم تكن مؤهلة لتحمل المسؤولية داخل منزلها قبل أن تخرج إلى الحياة العملية، إن لم تكن مزودة بتجارب أسرتها في رعاية شؤونها وما تتطلبه الحياة الجديدة؛ ستجد أعباء ثقيلة قد تنوء بها وتسعى جاهدة أن تعود إلى رحاب البيت الذي خرجت منه والذي لم يعودها على تحمل المسؤولية بعد.

 

تجربة مريرة كان يمكننا أن نجنبها كل هذه المرارات بالتدرب على تحمل المسؤولية، ومهما قصرت وهي داخل بيت والديها، ومهما كانت بطيئة التعلم، إلا أن لفت نظرها باستمرار إلى دورها في أسرتها الأم، فأحد أهم عوامل نجاحها في أسرتها الجديدة بل في حياتها كلها قيامها بتحمل مسؤولياتها بجد واجتهاد، فإن فعلت ذلك استطاعت أن تحتل مكانة مرموقة في كل مكان؛ لأنها حيث حلت كان الخير، وكان العمل، وكان الجمال.

 

إن عدم تحمل المسؤولية أحد أهم أسباب فشل الحياة الزوجية سواء استمرت أو انتهت بالطلاق.

 

ومما تميز به الشيخ، رحمه الله، أنه كان يخصص مدة من الزمن ينعزل عن الناس مع أسرته، ولعله في ذلك يستجيب لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ "أعط كل ذي حق حقه"، ومسألة القرب من البنات وإعطائهن حقهن من الصحبة والمجاورة التي تعيد مياه الود إلى مجاريها، وتكشف عن التغيرات الحسنة أو غير المرغوب فيها في الفكر والسلوك، هذا القرب يوفر فرصة للمعايشة ومخزوناً للذكريات وفرصة لتبادل الخبرات بيننا وبين بناتنا، فكما لنا تجربة ومعلومات فلهن كذلك تجربة ومعلومات، بل ربما حصلن على معلومات لم نتمكن نحن من الحصول عليها بسبب طبيعة الدراسة أو توافر الوقت والشغف بالتعرف على كل جديد، وأحد الدعاة كان يسأل ابنته عن آخر المستجدات على صعيد الأخبار السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفكرية، ولما اعتادت البنت على هذا السؤال كانت تحرص على جمع مادة أكبر لتكون مستعدة للإجابة عن أسئلة والدها حول الخبر الذي تنقله، وبهذا نصرف أوقات بناتنا في النافع المفيد، ونوثق صلتنا بهن، ولكن تقدير الزمن الذي يصاحب فيه الوالد بناته أمر مرهون بظروفه وضرورات الحياة التي يقع رعاية البنات في أولها.

 

وخلال هذه الفترة التي يصاحب الوالد بناته يستغل كل موقف ومشهد في ربطهن بالله تعالى؛ مما يزيد في إيمانهن ويحفزهن على التفكير في الكون من حولهن، بل إن هذه المعلومات الدينية أو الكونية التي تتداولها الأسرة خلال هذه اللقاءات تبقى وتؤثر، ذكرت إحدى بنات الشيخ أنه أثناء تواجده في البر أشعل ناراً لينضج عليها بعض الطعام، ثم أشار إلى أسفل النار وقال لهم: المنافق في الدرك الأسفل من النار.

 

ومع المعاني الجميلة والقيم الراقية وربط البنات بالخالق كان الشيخ، رحمه الله، يحرص على اللعب مع بناته، وخلال هذا اللعب يمسح كل ما يترسب في نفس البنت من موقف أساءت فهمه أو أساء الوالد التقدير فيه، حيث كان عنيفاً في وقت كان يمكنه معالجة الخطأ بعنف أقل، أو بتوجيه خال من النقد اللاذع، إن مشاركة الطفل طفولته مما يحقق التوازن في شخصيته ويجعله أقدر على مشاركة الكبير آلامه وآماله.

 

هذه المشاركة لا تتوقف عند العواطف أو الألعاب أو الآمال فقط، بل تتجاوزها إلى ما يراه الوالد وما يمر به من تجارب يحكي منها ما يلائم البنت فتشعر معه حق الشعور أن لها في قلب أبيها مكاناً ومكانة.

 

ومن المشاركة أيضاً تكليف البنت بمساعدة والدها في جزء من الأعمال التي تناسب طبيعتها وعمرها، كان الشيخ يكلف إحدى بناته بجمع القصائد التي سيلقيها في محاضراته، هذا العمل يشعر البنت بالثقة ويعطيها خبرة ويقربها من والدها.

 

ومما يقوي الثقة ويعززها داخل نفس الفتاة أن تعطى الفرصة للمشاركة في الحديث الأسري حتى مع وجود من هو أكبر منها سناً ومقاماً، هذا يجعلها تختار كلماتها فتتصف بالحكمة التي تغيب عن كثيرين غابوا عن مجالس الكبار والاستماع لهم والمشاركة معهم فغابت عنهم نعمة من أكبر النعم، وتجعلها كذلك تتعلم لكي تستطيع الحديث عما تتكلم فيه، ومع التشجيع والتجاوز عن الهفوات يمكننا أن نجد فتاة مثقفة قادرة على المشاركة في حوار جاد.

 

هذه الحوارات تعزز من الترابط والألفة بين أفراد الأسرة، وتعود الكبير أن يحترم الصغير، وتعود الصغير أن يوقر الكبير، وتحقق قدراً من التواصل بين الأجيال مما يحافظ على القيم الأصيلة والعادات النبيلة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين