منذ عشرة أعوام وتزيد وأنا أتوجه في كل يوم اثنين من كل أسبوع إلى مسجد أرض المعارض في منطقة مشرف؛ لأجلس إلى شباب مكتهلين بشبابهم ... متعاهدين فيما بينهم على الصوم كل يوم اثنين، فأعقد لهم مجلس علم نقرأ فيه كتاباً ( قرأنا حتى اليوم كتاب جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب، والخلاصة في أصول الفقه لشيخنا العلامة ممد حسن هيتو، ورسالة المسترشدين للإمام الحارث المحاسبي، وغيرها ) .
وكان الشيخ أحمد القطان رحمه الله يحضر في بعض الأحيان ، ويكون من جملة الضيفان ... وربما تكلم قبلي أو تكلمت قبله ، وإذا كانت الأُولى قدَّمتُ بين يدي كلمتي بالقول : " لا عطر بعد عروس" ، أو الثانيةُ فبقول المتنبي :
خُذ ما تَراهُ وَدَع شَيئاً سَمِعتَ بِهِ * في طَلعَةِ الشَمسِ ما يُغنيكَ عَن زُحَلِ
فيطرب ... والأديب طروب ...
وكان إذا تكلم شد الانتباه وأفغر الأفواه ... وإذا خطب ألهب المشاعر وأيقظ السواكن وبعث الهمم من رقادها ... ولا غرو فهو الخطيب المفوه ... والبليغ المكلام.
وأنت إذا سمعتَ الشيخ تتملَّحُ بكلامه، وتُسَرُّ بتعليقه، وتعجب من حفظه وذاكرته الحديدية، وتُؤخذُ بحضور بديهته وحسن تأتيه وروعة استدعائه للأحداث التاريخية وتوظيفها للواقع المَعيش ، وكلما قلت: هذا أواخر علمه تدفَّقَ حتى قلت: هذي أوائله .
في إحدى تلك الجلسات ... عرض للمتنبي وسرد نُتَفاً من بعض قصائده ، اذكر منها الأبيات التالية :
بِأَبي الشُموسُ الجانِحاتُ غَوارِبا * اللابِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبا
المَنهِباتُ قُلوبَنا وَعُقولَنا * وَجَناتِهِنَّ الناهِباتِ الناهِبا
الناعِماتُ القاتِلاتُ المُحيِيا * تُ المُبدِياتُ مِنَ الدَلالِ غَرائِبا
حاوَلنَ تَفدِيَتي وَخِفنَ مُراقِباً * فَوَضَعنَ أَيدِيَهُنَّ فَوقَ تَرائِبا
وَبَسَمنَ عَن بَرَدٍ خَشيتُ أُذيبَهُ * مِن حَرِّ أَنفاسي فَكُنتُ الذائِبا
يا حَبَّذا المُتَحَمَّلونَ وَحَبَّذا * وادٍ لَثَمتُ بِهِ الغَزالَةَ كاعِبا
كَيفَ الرَجاءُ مِنَ الخُطوبِ تَخَلُّصاً * مِن بَعدِ ما أَنشَبنَ فِيَّ مَخالِبا
أَوحَدنَني وَوَجَدنَ حُزناً واحِداً * مُتَناهِياً فَجَعَلنَهُ لي صاحِبا
وَنَصَبنَني غَرَضَ الرُماةِ تُصيبُني * مِحَنٌ أَحَدُّ مِنَ السُيوفِ مَضارِبا
أَظمَتنِيَ الدُنيا فَلَمّا جِئتُها * مُستَسقِياً مَطَرَت عَلَيَّ مَصائِبا
وَحُبِيتُ مِن خوصِ الرِكابِ بِأَسوَدٍ * مِن دارِشٍ فَغَدَوتُ أَمشي راكِبا
فأدركت أن هذا التدفق لم يتحقق كيفما اتفق .... وتلك البلاغة لم تأت من فراغ ... والنبوغ لم يقع عن صدفة .
ولما أقام مختار منطقة بيان العم الفاضل ( إبراهيم الشاهين) حفظه الله عشاء بمناسبة حصولي على الجنسية التركية كان من بين الحضور ، وتكلَّم فأدهش ، وقال فأمتع ، وشرق بنا في دنيا التاريخ والأدب وغرَّب.... وكان مما ذكره في ذلك المجلس القصيدة المنسوبة للخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان التي يقول فيها :
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت * ورداً وعضت على العناب بالبرد
نالت على يدها ما لم تنله يدي * نقشاً على معصمٍ أوهت به جلدي
كأنهُ طُرْقُ نملٍ في أناملها * أو روضةٌ رصعتها السُحْبُ بالبردِ
وقوسُ حاجبها مِنْ كُلِّ ناحيةٍ * وَنَبْلُ مُقْلَتِها ترمي به كبدي
مدتْ مَوَاشِطها في كفها شَرَكاً * تَصِيدُ قلبي بها مِنْ داخل الجسد
إنسيةٌ لو رأتها الشمسُ ما طلعتْ * من بعدِ رُؤيَتها يوماً على أحدِ
سَألْتُها الوصل قالتْ : لا تَغُرَّ بِنا * من رام مِنا وِصالاً مَاتَ بِالكمدِ
فَكَم قَتِيلٍ لَنا بالحبِ ماتَ جَوَىً * من الغرامِ ولم يُبْدِئ ولم يعدِ
فقلتُ : استغفرُ الرحمنَ مِنْ زَلَلٍ * إن المحبَّ قليل الصبر والجلدِ
قد خَلفتني طرِيحاً وهي قائلةٌ * تَأملوا كيف فِعْلُ الظبيِ بالأسدِ
قالتْ : لطيف خيالٍ زارني ومضى * بالله صِفهُ ولا تنقص ولا تَزِدِ
فقال : خَلَّفتُهُ لو مات مِنْ ظمَأٍ * وقلتُ : قف عن ورود الماء لم يرِدِ
قالتْ : صَدَقْتَ ألوفا في الحبِّ شِيمتُه * يا بَردَ ذاكَ الذي قالتْ على كبدي
واسترجعتْ سألتْ عَني فقيل لها * ما فيه من رمقٍ ودقتْ يداً بِيَدِ
وأمطرتْ لُؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ * ورداً وعضتْ على العِنابِ بِالبردِ
وأنشدتْ بِلِسان الحالِ قائلةً * مِنْ غيرِ كُرْهٍ ولا مَطْلٍ ولا مددِ
واللهِ ما حزنتْ أختٌ لِفقدِ أخٍ * حُزني عليه ولا أمٌ على ولدِ
إن يحسدوني على موتي فَوَا أسفي * حتى على الموتِ لا أخلو مِنَ الحسدِ
نعم سرد القصيدة كاملاً ... لم يَخْرِمْ منها بيتاً ... ناهيك عن حكمة من هنا ... وقبسة من هناك ...
واليوم إذ رحل في اليوم الذي كنت ألتقيه فيه أذكره بكلِّ جميل ، وأدعو الله له أن يفسح له في قبره ، ويجزيه عن الأقصى – الذي عرف بالدفاع عنه – كل ثوابٍ جزيل .
وأتقدم بالعزاء من ولده الحبيب الداعية عبد الله ...
ومن صهره - زوج ابنته الدكتورة عروب - الأخ الحبيب والصديق الأريب الدكتور الفاضل بدر الدريس ...
ومن سائر أبنائه وبناته وأحبائه داخل الكويت وخارجها ...
رحمك الله ... أسدَ المنابر ... وجابرَ الخواطر ... والحمد لله الأول والآخر...
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول