الشهيد محمد بن يوسف قويناتي

الحمد لله الذي شرّف بالجهاد, وبه تتطهر الأرض من الكفر والفساد, وبه ينال العبد أعلى مقام والصلاة والسلام على سيد المجاهدين بالقلب واللسان والسنان ورضي الله عن آل وصحب باعوا النفس والنفيس في سبيل الذود عن الدين وبعد:

أردت من حديثي الذي أسطر فيه بعضاً من صور حياة بطل من أبطال الإسلام, وأسدا من أسود التوحيد لأذكر به التاريخ حتى لا يمر بأولئك الفتية السوريين الذين سطّروا أروع الملاحم بدمائهم كما يمر بملايين البشر غير مكترث بهم ولا آبه.
 
حديثي اليوم عن شاب مضى إلى ربه بعد أن قدّم زهرة شبابه للإسلام والمسلمين, واشتد حرده على المجرمين وحصد ما حصد من جند الطغاة الظالمين ثائراً لدماء الأطفال والشيوخ التي سالت وليأخذ لها بحقها.
 
النشأة الصالحة:
في عام 1990 م وفي بيت متواضع، وفي أسرة مؤمنة مجاهدة ولد بطل من أبطال الإسلام إذ كان حي صلاح الدين بحلب على موعد مع فجر الشهيد محمد بن يوسف قويناتي.
نشأ الشهيد وتربى تحت رعاية أبٍ حانٍ وأمٍ عطوف تعود أصولهم إلى بلدة عنجارة بريف حلب الغربي.
نشَّأ الأبوان ابنهما النشأة الإسلامية منذ نعومة أظفاره, وأكسبوه أخلاقاً إسلامية, وروحاً جهادية, فنفذ النور إلى قلبه وهو غضٌّ طريٌّ فاستقر فيه وتمكَّن.
 
أرشد الأبوان ولدهما إلى طريق المساجد, ودفعوه لمعاهد تحفيظ القرآن الكريم منذ الصغر فحفظ فيها بعض أجزاء القرآن والأحاديث النبويَّة، وبعض الأحكام الفقهية، ولازم شهيدنا المساجد فكان يحث الخطا إليها لحضور الجماعات فيها، وليربى بين جدران جامع الزبير والحسن البصري وأويس القرني في حيِّ صلاح الدين.
 
لم تكن تربيته قاصرة على المساجد، بل كان يسمع من والده وجدِّه حديث الجهاد وفضله وهم يستذكرون صوراً من بطولات المجاهدين أيام احداث الثمانينيات, والجهاد الأفغاني. هكذا كانت حياة الأسرة حتى أن والده قصد أن يبيع داره ليرحل إلى أفغانستان كونها أضحت إمارة إسلامية في ذلك الوقت.
 
حب الجهاد والإنفاق في سبيل الله :
غرس الوالد حب الجهاد في قلب ابنه، وحب الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ولم يجاوز عمره العشر سنوات، وكان شهيدنا في طفولته يسمع دروس وخطب أبي القعقاع قول آغاسي ومع صغر سنه كان يحذر منه ويقول عنه: إنه رجل مخابرات استنتج هذا من ذكائه الوقّاد, وحرص الشهيد على ألا يتكلم بمسائل الجهاد إلا أمام الخاصة.
 
اعتقل أبوه عند أقوام يظلمون ولا يرحمون بسبب التزامه الديني, ولم يتجاوز يوسف آنذاك الرابعة عشر من عمره ، فاضطر لترك المدرسة, وبدأ يعمل ليعيل أمه وأفراد الأسرة- وكان هو بكر أبيه - طيلة فترة سجن والده التي دامت خمسة أعوام فكان نِعْم الخليفة للوالد والراعي لأمه وإخوانه الصغار.
 
مواظبته على المساجد وقراءة الكتب وسماع الأناشيد الجهادية:
واظب الشهيد على الطاعة والعبادة وملازمة المساجد، ومتابعة الدروس الدينية والعلمية, وكان كثير الاتصال بالشيخين عبد الله البكري المدرس في جامع الصبحان في حلب, والشيخ ناصر الترمانيني, ويستفتيهم في المسائل الفقهية, ومع ذلك كان يكثر من المطالعة والسماع للمحاضرات، وعلى سبيل المثال كان يكثر من قراءة كتاب "رياض الصالحين" و"الأذكار " للإمام النووي، وأكثرَ من مطالعة الكتب التي تعنى بالترغيب والحض على الجهاد ككتاب: "صور من جهاد الصحابة" للشيخ الدكتور صلاح الخالدي, وكان كلما سمع بدرس علمي نافع يقصده ولا يتوانى عنه, ولم يكتف بهذا بل كان كثير السماع للصوتيات للشيخ محمد حسان، والشيخ محمد حسين يعقوب, وعائض القرني وغيرهم, وكان كثير التردد على طلاب العلم مع والده أذكر منهم الشيخ كمال بكرو، وكذلك كان يقصد العلماء الذين اعتقلوا سابقا في سجن تدمر كالشيخ كامل العمر والشيخ محمود طويل، وكان يتعهد بزيارة كل من كتب الله له النجاة من سجون الظالمين سواء من الذين قضوا في سجن تدمر أو صيدنايا أو الأفرع الأمنية.
 
كان يتفطر قلبه لهموم المسلمين ومشاكلهم وقضاياهم فكان كثير المتابعة لأخبار المسلمين وخاصة المسلمين من غير العرب كالشيشان والأفغان والصومال، وكان يقول : هؤلاء محرومون من نصرة المسلمين العرب لأنهم أعاجم.
 
واهتم شهيدنا بمتابعة أخبار كتائب عز الدين القسام، وكان يتلقَّى أخبارها من مكتب حماس بحلب، وتعلق قلبه برموز حماس، وعلى رأسهم شيخ المجاهدين أحمد ياسين، والشيخ عبد العزيز الرنتيسي تقبلهما الله, وكان - لفترة زمنية - كثير التعلق بأبي الوليد الشيخ خالد مشعل.
 
كان يكثر من السماع للأناشيد الجهادية، وأكثرُ سماعه لمنشدي الثورة الأولى كأبي دجانة، وأبي راتب، كما سمع – فترة -لأبي الجود الأستاذ منذر سرميني.
 
نشاطه الدعوي وهمته العالية :
تميّز بنشاطه الدعوي، وهمته العالية, كان يحرص على صقل الشباب بالروح الإيمانية، فقد عرف عن الشهيد دعوته في أوساط الشباب, وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر, ومما يذكر عنه في هذا الجانب: أنه رأى صاحب المنشأة التي يعمل فيها قد شتم الله عز وجل فأخذته الغيرة على الله ورسوله فهمَّ به ليبطش به ، وكان ذلك بعد النصح لعدة مرات فهابه صاحب العمل واستغفر واعتذر فكان هذا الموقف سبباً لتوبته وإنابته, بل إن صاحب العمل تعلق قلبه بهذا الشاب الصغير فكثيرا ما كان يسترشده ويستنصحه في أمور دينه بالرغم من صعر سنه.
 
وكان رحمه الله يهجر المكان الذي يشتم فيه الله عز وجل، أو يهزأ به بدين الله خشية تنزل غضب الله عز وجل على ذلك المكان.
كان رحمه الله يتألم قلبه إن لم يستطع إنكار المنكر حتى أنه رأى ذات مرة امرأة سافرة فاحتسب وقال الله إن هذت منكر لا أستطيع تغييره.
 
التحاقه بركب الثورة السورية وتعرضه للقتل وتماثله للشفاء :
كان له الأثر البالغ في الحراك الثوري السلمي والمسلح في حي صلاح الدين والسكري, فكان في بداية الثورة يخرج مع المتظاهرين، ومعه مسدسه لحماية المتظاهرين من اعتداء الشبيحة, وفي إحدى المظاهرات انفرد به مجموعة من الشبيحة في مكان حرج فاضطر للصعود إلى سطح بناء مكوَّن من أربعة طوابق فحاصروه في ذلك المبنى فقتل منهم خمسة ونفذت ذخيرته فانهال عليه من نجى منهم ضربا بالسكاكين, ورموه من الطابق الرابع موقنين بموته فرآه أحد المارة ممن يعرفونه ملقىً بالشارع مضرجا بدمائه ووجد به رمقاً من حياة فسارع إلى إسعافه وأخبر والده ، وقدّر الله له عمراً وتحسَّنت حالته الصحية.
 
مشاركته في كتائب المجاهدين:
وبعد أن سلمه الله من المرض وعافاه أبى أن يقعد شهيدنا مع الخوالف، فالتحق بركب المجاهدين بعد أن خضع لدورة إعدادية في معسكرات حركة الفجر الإسلامية، ولم يتقيد بكتيبة معينة بل شارك في عدة كتائب، وفي عدة معارك، وكان قد جمّع مبلغاً قدره ثلاثمئة ألف ليرة سورية ليتزوج بها فعدل عن فكرة الزواج، واشترى به سلاحا وذخيرة وقال : إن السلاح أولى من الزواج.
 
استشهاده:
التحق بإحدى المجموعات الجهادية التي كانت تتصدَّى للنظام في خان العسل لمحاصرة الفوج 46 ولم يكن يقاتل بصورة اعتيادية في تلك المعركة ، بل كان مستقتلاً في قتاله وشدّ عليهم شدَّة لا هوادة فيها وفعل بهم الأفاعيل، وأكرمه الله في تلك الغزوة بتفجير دبابتين، وبعد انتهاء المعركة وفي طريق العودة رأى خمسة جنود من جند النظام فطلب من إخوانه أن يكُرَّ عليهم إلا أنهم لم يستجيبوا لطلبه فكَرَّ عليهم بمفرده فقتل ثلاثة منهم وفرَّ اثنان، ثم رأى جماعة أخرى مرابطة مع كتيبة أخرى فطلبوا منه المساعدة والعون فأقبل إليهم إقبال الظامئ على الماء دفعه لذلك إيمانه العميق واستقتاله في طلب الشهادة تخلصاً من الحياة المؤقتة للأحياء إلى الحياة الخالدة للشهداء لكن طلقة القناص الغادر كانت أسرع إليه من وصوله إلى المجموعة المرابطة ، فأصيب برأسه وبصدره بعدة طلقات كانت سبباً لرحيل الشهيد من دار الدنيا ذات المتاع الفاني إلى دار المؤمنين الموحّدين دار الشهداء والصالحين.
 
رحل الشهيد عزباً لم يتزوج ،وكأني بالحور التي يحار فيهنّ الطرف قد نافسن عليه حور الطين من خضراوات الدنيا فسبقن إليه وترجّل شهيدنا عريساً إليهن.
 
رحل الشهيد مستحقاً قول المولى وخالقه وربه : (من المؤمنين رجالٌ صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه) ولكم تمنيت أن يكون الإمام الشهيد البناء حسن البنا حياً ليشاهد بأمِّ عينه كيف أن شباب الإسلام في بلاد الشام جعلوا الموت في سبيل الله أسمى أمانيهم.
وكتبه نور الدين إبراهيم العبيدي
الأول من شهر الله المحرم 1434ه