الشهيد عبد الوهاب مصطفى


ذكريات انتفاضة الثمانين !! 



بعد يومين من استشهاده وصلتني رسالته التي يقول فيها : أخي ! لم يبق أمامنا إلا المواجهة فإما النصر وإما الشهادة ؟!!

لتعود بي الذكريات إلى سنوات مضت، عرفت فيها الشهيد معلما للرياضة، تتناسب مهنته مع بسطة في جسمه، وقوة في إرادته! يحبه الجميع ويتمنى الخير للجميع، و لم يكن يلزم نفسه مع أية جماعة، و كانت بداية تعميق الصداقة بيننا لما عرض علينا جمع كلمة الدعاة في إطار ثقافي فكري مشترك، فبدأ بدعوتنا إلى منزله ، وسارت الأمور حتى غدا هؤلاء الأحبة يدا واحدة وقلبا واحدا، لُمست آثار ذلك في الانتفاضة و تفجر الأحداث في العاشر من آذار 1980 في منطقة جسر الشغور وريفها!

كان رحمه الله ذا بصيرة نافذة ينذر ويحذر، ويطالب بالحشد والاستعداد لتكون هناك قوة ردع تتناسب مع قذارة المؤامرة التي يعد لها النظام ؟! وما أكثر ما حذر أصدقاءه من التوسع في أمور الدنيا، منذرا بأنهم يبنون لغيرهم، وأنهم سيتركون ذلك لعملاء النظام وزبانيته من الحزبيين ؟! وهكذا كان ؟!

انتفضت المدينة وسقط عدد من الشهداء رميا بالرصاص في مكتب البريد الذي اتخذ منه المجرمون وكرا ومقرا للمحكمة الميدانية برئاسة عضو القيادة القطرية توفيق صالحة والمجرم الرائد هاشم معلا ومسؤول الحزب محمد أنيس. ونامت المدينة على الجراح، و لكن نومها لم يطل فقد استجابت مرة أخرى للنداء الذي أطلقه الشهيدان صالح حسناوي ومحمد ديرك لخوض جولة الثأر ، فالتحق الشباب المجاهد بالجبال وصعب على الشهيد عبد الوهاب أن يظل في بيته آمنا ، وإخوانه في الجبال ، فمضى إليهم يتفقدهم ويسأل عن حاجاتهم ! ولكن أحد المخبرين رآه ، فآثر أن يبقى مع إخوانه وقال : لأن أموت في الجبل خير من أن أموت في أقبية المخابرات !

فانطلق مع مجموعة من الشباب الجامعي المُهدد بمستقبله وحياته إلى قاعدة حدودية بين سورية وتركية، يبذل الجهد في جمع الشمل وتوعية المزارعين وإثارة حميتهم في الدفاع عن دينهم وبلدهم.

وكان لنا لقاءات ، أزوره في عرينه وأنظر إليه فأعجب من قوة وعظمة هذا الدين الذي يجعل شابا منعما وحيدا لوالديه ، ليس مطلوبا في ذلك الوقت ، ويملك راتبا محترما ، ولديه أرض زراعية تدر على أسرته خيرا وفيرا. يترك ذلك كله ويلتحق بالمجاهدين ! وأذكر عند ذلك ما فعله الإسلام في نفوس الصحابة وقد آثر كثير منهم الحرمان على الغنى طالما أنهم يخدمون الإسلام ؟!

أقف معه عند إحدى القواعد، وقد طبخ الشباب برغلا ووضعوا معه سلطة ولبنا ، فيأخذ بيدي محتدا ويقول : يا فلان ! كم نوعا من الطعام كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ؟

فأقول : واحدا ..

فيشير إلى ما صنعوه وهو يردد : البرغل يُـكتفى أن يكون معه سلطة أو لبن ؟!

فآخذ بيده، وأهمس: يا أخي أبا عارف ! هؤلاء شباب في مقتبل العمر، وأجسامهم تحتاج إلى تغذية، ولا تنظر إلي وإلى نفسك وقد دخلنا في مرحلة الهرم..

وأمضي معه في ليلة شاتية ماطرة إلى أبي خالد الذي تحول من مجرد مهرب إلى مجاهد مؤازر ، وقد حصل على عدد كبير من البنادق الروسية التي كان حافظ أسد يمد بها اليساريين والطائفيين في تركيا ، قبل انقلاب كنعان آفرين ، فإذا هم يبيعونها ويتخلون عنها لقاء بضعة مئات من الليرات لتكون من نصيب الشباب الثائرين !!

ولكن كيف الوصول إلى أبي خالد وقد فاض النهر الأبيض ولم يعد ساقية كما كان قبل أسبوعين،فأخلع قسما من ثيابي وأرفع بندقيتي فوق رأسي ، ويدخل أبو عارف بلباسه [ البنطال المصنوع من النايلون السميك ] أمامنا يمسك بي وبأحد الأخوة حتى نعبر ، ونمضي وقد لبسنا ثيابنا ، وهو مبتل الثوب ونصل ونستريح ولكنه لم ينتظر سوى سويعات ليعود إلى قاعدته رغم التعب والجهد والبرد ، وكان ذلك اليوم آخر لقاء بيننا .

وفي يوم الخميس 12 / 2 / 1981 يستعد الشهيد وقد كان صائمًا للقاء أحد المتعاطفين في منطقة بعيدة، ليذهب وحده بسلاحه الفردي، ولا يظن أن أحدًا يرصده وقد مضى على وجوده أشهر عديدة..

كان المجرم رفعت أسد قد أعد بعض زبانيته في سرايا الدفاع لمتابعة مجاهدي جبل الزاوية وجسر الشغور، ويحضر أحد هؤلاء المرتزقة إلى قرية الحسانية الحدودية وقد وعد بخمسين ألف ليرة سورية إذا استطاع قتل عبد الوهاب!

ويشاء الله أن يمضي شهيدنا وحيدا بعد أن أقنعه الإخوة بضرورة الإفطار، فالمسافة بعيدة، وبعد أن أشاروا عليه بأن يحلق شعر رأسه، ويشذب لحيته ويبدل ملابسه فمضى وكأنه ذاهب إلى عرس!

كان المجرم [ من آل غنوم ] قد أقنع بعض أقاربه للخروج إلى الصيد ببنادقهم فأجابوه وهو في الحقيقة يبحث عن أبي عارف ..

ويشاء الله أن يروا أبا عارف، وهم يعرفونه فحاول تحاشيهم، فلحقوا به فالتفت إليهم قائلا : يا ناس ! أنا عبد الوهاب، وكان لسان حاله يقول: [ لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين] فابتعد عنهم ومعه مسدسه وقنبلتان ، وما ظن أنهم يطلقون النار عليه ، ولكن المجرم أطلق عيارات عديدة أصابت الشهيد في ظهره لتخرج من صدره ، وهوى عبد الوهاب فوق الأرض التي أحبها وأحبته ، ومضى المجرمون بعد أن نهبوا ما معه من سلاح ومال ..

واتصلوا بأسيادهم الذين خيبوا ظنهم ولم يفوا بوعودهم، فكان هذا العريف المشؤوم يردد : [ قتلنا واحدا من الإخوان ولم يعطونا شيئا ]

ويعلم المجرمون أن عبد الوهاب لم يكن يوما من الإخوان وهم الذين يشرفهم أن يُنسب إليهم مثله.

ولم ينل المجرم جائزته الموعود بها ، ولكن نال الخزي في الدنيا ، و لعذاب الآخرة أشد وأخزى.