الشهيد عبد الله بن عمر الملا

 


بقلم :إبراهيم نور الدين العبيدي

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه أشرف الورى سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وأصحابه المصابيح الغرر، وبعد:

بلدة رأس العين :

فإن من ضمن بلاد ربيعة مدينة عريقة تقوم على بحيرة من الينابيع الجوفية، ومنها نبع الخابور، ويعود تاريخها إلى آلاف السنين، فهي في العهد الآرامي  (كابارا)، وفي العهد الآشوري (غوازيا)، و(رازينا) في العهد الروماني، وفي العهد الإسلامي (رأس العين)، وتعرف عند الكورد بـ (سري كاني)، وكانت مصيفاً للمتوكل العباسي، ومستراحاً لصلاح الدين الأيوبي، وإليها ينسب العلامة المفسر عبد الرزاق الرسعني  الحنبلي صاحب كتاب " رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز "  المتوفى سنة  661 رحمه الله تعالى .

 ولم تكن هذه البلدة الطيبة  بمعزل عن ظلم الأسد، وقد نالها من ظلمه وجوره  ما ناله أبناء سورية، وانتفض أهلها الأحرار مع المنتفضين، وقد سقطت فيها اليوم قلاع الأسد، ودكَّت معاقله على أيدي كتائب غرباء الشام.

الشهيد السعيد عبد الله بن عمر الملا الكردي :

وبهذه المناسبة السعيدة يطيب لي أن أقدم لكتائب غرباء الشام، ولشرفاء المدينة من بني الكورد وإخوانهم الأحرار من بني يعرب، ولكلِّ حرٍّ شريف في تلك المدينة سيرة بطل من أبطالها عبر نافذة وضيئة من حياة الشهيد السعيد عبد الله بن عمر الملا الكوردي ابن هذه المدينة البار الذي ثار على الظلم والظالمين قبل ثلاثة عقود من الزمن.

ولادته ونشأته ومراحل حياته :

بزغ فجر شهيدنا عبد الله في مدينة رأس العين لأسرة كوردية حرة، وتربّى في هذه المدينة وترعرع، وقضى نهمه من اللعب فيها ودرس في مدارسها حتى أتمَّ الثانوية العامَّة فيها.

التحق بكلية الآداب قسم اللغة الانكليزية في جامعة حلب فدرس فيه السنوات الثلاثة الأولى.

انتسب لجماعة الإخوان المسلمين في عام 1980 لحبِّه لدينه، وبسبب ما رآه من همجية نظام الأسد ووحشيّته واعتقالاته الجائرة وارتكابه المجازر المروّعة في مدينة حلب، فرأى من واجبه أن يلحق بركب الثائرين.

واصل الشهيد مسيرته الإيمانية مع العلماء الربَّانيين في حلب, وعلى رأسهم الشيخ عبد الله ناصح علوان رحمه الله، وكما أنه تأثَّر بمدرِّس جامع بلال في حي صلاح الدين  العالم الناصح المجاهد الشيخ الشهيد محمد خير زيتوني تقبله الله فكان يلازم خطبه ودروسه.

في سجون الظالمين :

ولنشاطه الإيماني، والتزامه الديني اعتقل في حملة الاعتقالات الجائرة عام 1982، وزجَّ به في سجن تدمر مع الآلاف من البُرءاء.

كوَّن الشهيد في سجنه علاقات مبنية على المحبة والإخوة في الله، وزاده السجن صلابة  لا تكسر, وعزيمة لا تلين، وإني إذ أكتب عن هؤلاء أشعر كأنني أعيش مع أقوام أعادوا لنا سير السلف الصالح، وجسَّدوها معنى في حياتهم، وكأني مع أطياف من الجنة نزلت إلى الأرض، فهم الذين شقوا الطريق للأجيال المقبلة التي تبحث عن الخلود، ولا تريد أن تضل الطريق فتشقى, ومنهم بطل قصتنا هذه أبو عمر.

مدرسة الإيمان والعلم والصبر :

قضى أبو عمر سجنه بالطاعة والعبادة، وحفظ كتاب الله عز وجل، وأجيز به بقراءة حفص، وكما أنه اهتم بالتحصيل العلمي الشرعي، وأجيز به حتى غدا مرجعاً لإخوانه التدمريين.

لازم في سجنه الشيخ العلامة هاشم المجذوب ملازمة طويلة حتى كان من أخصِّ تلاميذه، واعتنى به الشيخ غاية الاهتمام، بل إنه كان يعتمد عليه في بعض المسائل ويستذكره فيها فيقول: ماذا كنا قد قلنا في المسألة الفلانية يا أبا عمر؟

أجازه الشيخ هاشم المجذوب بالفقه الشافعي، وإعراب القرآن الكريم, وألمَّ ببقية العلوم, وكان يتمتَّع بثقافة عامَّة واسعة جناها قبل دخوله السجن.

اهتم الشيخ بعلم مباحث الإيمان والتفسير والحديث وعلومه، وحفظ خمسة آلاف حديث واقتصر على حفظ الحديث الصحيح.

كان أكثر ما يميزه في سجنه خلقه الحسن وتواضعه لإخوانه وإيثاره لهم, بل إنه كان يحمل العقوبة عن الشيخ المسن، وعن المريض السقيم يقول عنه أحد إخوانه وشريكه في المعتقل: عندما أنظر إلى أبي عمر أشعر بأنني صغير جداً فكان بالنسبة لي شخصاً مستحيلاً التشبه به.

أصيب أبو عمر بمرض السل، ومنعوا عنه الدواء، لكن أبا عمر لم يستسلم للمرض فكان يقوم بواجباته كسجين من خدمة وغيرها.

استشهاده في السجن :

تعرَّض ذات يوم لضرب مبرِّح شديد أشد من أن يحتمله جسده، فعاد إلى مهجعه وهو يبصق دماً ولم يعش بعدها إلا عشر ساعات لعدم تلقِّيه الدواء المطلوب ، وقد اجتهد الدكتور ابو الهدى للحصول على بعض الأدوية الإسعافية، والتي يمكن أن تكون سبباً لإنقاذه مستعيناً بالدكتور أحمد البيراوي، لكن المنية عاجلته بسبب تعرضه لهذا التعذيب الوحشي، وعدم تلقّيه العلاج اللازم، وقد ترك موته أثراً كبيراً حيث أنه كان فقيداً غالياً على إخوانه, وقد رثاه أحد محبيه بمرثية جميلة اقتبست منها هذه الأبيات:

الجرح أبلغ تبيانا أم الألم                      أم أنها ساكبات الموت تقتحم

صب المنون كؤوس الراح مترعة       أردى بها شادناً من طبعه الشمم

مضى صريعاً وليس السل قاتله         لكنه قدر قد خطَّه القلم

وهكذا فقد طويت حياة شهيدنا إلا أن ذكراه لن تطوى من ذاكرة الشرفاء، وإني لأتمنى على الأحرار في سورية أن تسمِّيَ معالم مدنهم وبلدانهم باسم أولئك المجاهدين الذين مضوا وخاصَّة من هددت ذكرياتهم بالانقراض، ولم يعرفهم إلا جدران المعتقلات، وإني لأتمنَّى على أحرار رأس العين عروس الجزيرة السورية أن يطلقوا على أحد معالمها اسم الشهيد (عبد الله ملا) ليكون نبراساً للأجيال المتلاحقة، ولأن استذكار هؤلاء المجاهدين الذين ضحَّوا وصبروا يبعث في النفوس الأمل، وليتهم يطلقون اسمه على المسجد الكبير في مدخل المدينة الذي يقال له : مسجد الأسد إذ لا يليق بمن دمَّر المساجد وحوّلها إلى ركام أن تسمَّى المساجد باسمه.

وفي الختام أقول: اهنأ يا عبد الله في روضاتك, وانعم مع الحور الحسان، واشرب من ينابيع السلسبيل، فهاهم إخوانك في كتائب غرباء الشام يواصلون الطريق جذلين بتطهير مدينتك، ويتابعون المسيرة مع إخوانهم المجاهدين، متشوِّقين إلى معركة أخرى، وفتحاً آخر يكون صنواً لهذا الفتح.