الشهيد البطل نور الدين نسلة العربيني

نَسْل الدمعة لنَحب الشهيد البطل نور الدين نسله
 
بقلم: نور الدين إبراهيم العبيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة، والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قبل سبعة أشهر كانت تتسابق الأقلام للكتابة عمَّن اصطفاه الله شهيداً، وكانت تتنافس منابر النشر والإعلام لنشر مآرب الشهيد وذكر مناقبه وسيرته...
وأما اليوم فقد كلّت الأقلام عن إحصائهم، وغصّت المنابر بأسمائهم، فكلما تناوب الليل والنهار قرع سمعك أسماء العشرات بل المئات من الشهداء.
وفي هذا الصراع الدائر اليوم في أرض شام الرباط يدق سمعك كل يوم حكايات لا تنسى، يعتصر الفؤاد لها فما من يوم إلا وتتصاعد فيه القتلى بسورية الذين سيسرجون البلاد وينيرونها بدمائهم الزكيّة الطاهرة.
مفخرة أهل عربين:
وحكايتنا اليوم لشاب يعتبر مفخرة لأهل (عربين) قِبلة القراء في القرن الماضي، والتي قصدوها لشرف نيْل أخذ القراءة والرواية عن الشيخ عبد القادر قويدر رحمه الله.
والشهيد الذي أتشرف بالحديث عنه اليوم هو الشاب الفطن الذكي السريع البديهة نور الدين نسله تقبَّله الله.
ولادته ونشأته:
ولد نورالدين في عام 1990في مدينة (عربين ) التي تتربّع في حضن غوطة دمشق الخضراء، والتي كان يتغنّى الشعراء بظلالها وأنهارها العذبة الرقراقة، والتي مزجت اليوم بدماء الشهداء لتروي ثراها، والعالم مخدّر يشهد ما يجري في تلك الغوطة الجميلة التي حرص عليها المخرب الفرنسي أكثر من حرصه على باريس كما ذكر ذلك الغوطيون الذين عاصروا تلك المرحلة، وحرص المستخرب الفرنسي على أشجارها وطبيعتها الخلابة طيلة ربع قرن من الزمن, وأحرقها الأسد اليوم، وستنجب هذه الغوطة – بإذن الله -  أبطالا بعدد أوراق الأغصان التي أحرقها الأسد.
ولد الشهيد في هذه البلدة ، وعاش في كنف والديه, وهو من أسرة مرموقة عريقة ، فوالده طبيب الأسنان المعروف ، وأخوه الأكبر مِخْبَريٌّ في تلك البلدة.
 ترعرع  بطلنا نور الدين في أحضان هذه الأسرة الكريمة، وشبَّ في أجواء إيمانيَّة، وكما هو معروف عن أهل الغوطة تدينهم ومحافظتهم, على القيم والمبادئ السامية.
اتصل الشهيد بمجموعة من الفتية الإيمانيين، ونشط معهم في دعوة الشباب المنحرفين بجِدّ ونشاط وعزيمة صادقة، وهمّة عالية، فكان يعمل بلا كلل، ويصبر بلا ملل.
كان أبو النصر يزكّي نفسه بتعاليم الإسلام، ويترعرع فؤاده بنور الإيمان، فكانت نفسه تتشوّف لمعرفة الدين وتعاليمه مع أولئك الفتية المؤمنين فاهتموا بأشرطة الدعوة والدروس والخطب الإسلامية، فزاد ذلك من تمسُّكهم بالدين, ومعرفة أحكامه، وكانت في تلك الآونة قد انتشرت أشرطة أبي القعقاع محمود قول أغاسي بين الشباب انتشار النار في الهشيم ، فحمّس فيهم حب الشهادة، وأنعش روح الجهاد في نفوسهم لما يسمعون من خطب ناريَّة، فتمتَّعوا بمعنويات عالية، وروح جهادية قوية، وبدؤوا يعدون لذلك عدته إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، فكانوا يذهبون للأحراش بحجة الصيد للتدريب على الرمي، وكان الحبيب الشهيد متميزاً بتدريب رياضة الكاراتيه.
اعتقال الفتية:
خطط أولئك الفتية المؤمنون الحديثي السن- إذ أكبر واحد فيهم عمره سبعة عشر عاماً، وأصغرهم لم يتجاوز الثالثة عشر عاما- للإغارة على إذاعة دمشق بأسلحة فردية بسيطة مستقلين سيارة صغيرة (سوزوزكي) والهدف من هذ الهجوم هو نشر أشرطة أبي القعقاع عبر الإذاعة غير مدركين عواقب الأمور فوقعوا في قبضة النظام الذي استثمر هذه القضية ليثبت للعالم أنه يعاني من المتطرفين والإرهابيين.
مهزلة محكمة أمن الدولة:
أصدر فيهم قاضي محكمة الدولة حكمه بحسب عمر كل فرد منهم، فحكم على من كان عمره سبعة عشر عاما سبعة عشر سنة ، ومن كان عمره في سنِّ الثالثة عشر حكم عليه ثلاثة عشر عاما، وحكم على نور الدين اثني عشر سنة فهو لم يكن مشاركاً في هذا العمل, وإنما حكم عليه لعلمه بهذا الموضوع, ولتستُّره على عملهم، ولعدم إعلامه الأجهزة الأمنية بذلك.
في سجن صيد نايا:
فوَّض الشهيد أمره لربه عندما زُجَّ بالسجن، وصبر على قضاء ربه، وامتلأ قلبه بنور الإيمان، وأشرقت في فؤاده شمس التوحيد، فهو صاحب عقيدة صافية لا يداهن فيها أبدا، وكان يقوم الليل مصلياً متضرعاً كثير الدعاء والبكاء، محبّاً للانفراد والعزلة، يتلو كتاب ربه الذي لا يفارقه أبداً، وحفظ عشرين جزءاً منه.
وأما عن معاملته لإخوانه في السجن ، فقد كان ليِّن الجناح، هادئ الطبع، سهل العشرة، دمث الخلق، كريما متواضعا، يكثر من المزاح ولا يقول الا حقا، ولا يضحك إلا تبسما.
حرص أبو النصر على وقته في السجن فلم يصرفه في غير منفعة، فاجتهد في الطاعة والعبادة والتحصيل العلمي، فكان يلازم الشهيد أبا الزبير الشعفاطيالذي قتل في مجزرة صيد نايا تقبّله الله، وتأثّر بفكره، وكان يحضر دروس الشيخ أبي العباس التوتفي الرقائق، ودروس الدكتور فراس السخنيفي التوحيد والفقه واللغة العربية.
كان أبو النصر كثير القراءة، وكان نهماً عليها، واهتم بعلم الجغرافية والنبات وفوائد كل نبتة، حتى لازم مهندساً زراعياً ليستفيد منه في هذا المجال، واهتم بالسياسة وأخبارها، والتحليلات السياسية ، ويناقش فيها، ويقرأ الكتب التي تُعنى بالسياسة، ولا يفوت قراءة الجرائد اليومية.
محنة السجن:
 رأى في منامه أنه يأكل من شجرة الصبّار، فأولها له أحدهم: أنه سيبتلى ويكون كثير الصبر عليه, فأصابه ما أصاب إخوانه من البلاء في حدث استعصاء سجن صيدنايا لكنه لم يبال بتلك الرزايا والمحن، فقد ثبت لها ثبات الجبال الراسيات في جذور الأرض، وأصيبت عينه، وقلعت من مكانها بشظية عندما أطلق عناصر الشرطة العسكرية النار على السجن فاحتسبها عند الله عز وجل رجاء أن تكون قد سبقته الى الجنة، فأجرى له أحد إخوانه عملية جراحية بدون مخدّر فكان يبكي أبو النصر، فأراد أخوه الذي يجري له العمل الجراحية أن يخفف عنه ظناً منه أنه يبكي من ألم الجرح، فقال: أنا لا أبكي من الألم، وإنما أبكي لأني لم أرزق الشهادة في سبيل الله، وقد حرصت أن أكون في الصف الأول رجاء نيْلها، وكان يستحضر في ذهنه كلمة أحد إخوانه قبل هذا الحدث بأيام يسيرة عن فضل الشهيد وكراماته وخصاله الستّة الواردة في الحديث الشريف، فقال له الذي يعالجه: أبشرك يا أخي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من جرح جرحا في سبيل الله طبع عليه طابع الشهداء)، فطار فرحاً لذلك الحديث الذي أنساه آلامه .
ومن مآثره العظيمة في هذه الآونة ونتيجة للحصار المفروض على السجناء أنهم  شكلوا لجنة لجمع كل ما عندهم من طعام وماء ليتم توزيعه عليهم بالتساوي، وبقدر محدد، وآثروا المرضى بأجوده، وآثر نور الدين إخوانه المرضى بنصيبه من الطعام.
ومن مآثره رحمه الله في تلك الفترة أنه كان يطلب من أحد إخوانه أن يجلس عند رأسه ويذكّره بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويتلوها على سمعه.
في المشفى العسكري:
بعد أن أحكم المجرمون قبضتهم على السجن بعد مجزرة مروّعة نقلوا المصابين إلى مسلخ المشفى العسكري، ونالهم من الإيذاء أكثر مما نالهم من الإيذاء في السجن، فقيّدوا المرضى بسلاسل الحديد، وعصبوا عيونهم طيلة بقائهم في المشفى، حتى إن الواحد منهم ليقضى حاجته في موضعه طيلة أربعين يوما وما لامست أقدامهم الأرض كل هذه الفترة، وأسمعوهم أقذع العبارات وأشنعها، وكانت وجبات الإهانة والضرب والتعذيب أكثر من وجبات الطعام، وكان لنور الدين نصيبه من قسوة المجرمين ونكالهم ما لو أنزل على جبل لهدّه، فتلقى كل ذلك بصبر جميل لأنه يعلم أن ذلك طريقه الى الجنّة.  ومن الإيذاء الذي تعرض له الشهيد أن وضع المجرم يده في عينه المصابة بقسوة حتى سال الدم فلم يعد يحتمل الألم فصرخ نور الدين من شدّة الألم فسب المجرم شرفه فنسي نور الدين ألمه وصرخ بوجهه: إيَّاك وسبَّ الشرف فما كان من المجرم إلا أن زاد من الكلمات النابية التي توضح هُويِّته، وزاد من وضع يده في عينه حتى خرج الدم من أنفه، وسال على ثيابه، ومع كل هذا الإيذاء صبر نور الدين، ولم ينقطع عن ذكر الله عز وجل بل كان ينشد الأناشيد الجهادية ويغيظ المجرمين بها.
وأثناء وجوده في المشفى طلب منهم أن يضعوا له عينا زجاجية على نفقته الخاصة ولكنهم رفضوا ذلك، نكاية به.
العودة إلى السجن:
بعد رحلة قاسية في المشفى العسكري ذاقوا فيه أشدَّ أنواع البلاء والعذاب ، أعادوهم إلى سجن صيدنايا الصغير، وكذلك لاقى فيه ما لاقاه من العذاب والتنكيل والشدائد والمحن وخاصة هو بشكل خاص لكونه من دعوة الإذاعة، وكانوا يقتادونه للتحقيق ليبوح لهم بأسماء المشاركين بالاستعصاء فلم يثلج صدر المحقق بأي اسم من أسماء إخوانه فيغضب عليه ويزيده من العذاب وإن صوته ليسمع من شدة التعذيب، وكان الذي يتعهده بالتعذيب الرقيب مؤيد وهو من بلدة تل أبيض التابعة للرقة ، وقد ازداد حقده عليه وعلى المساجين وكان يؤذيهم ويمنعهم من الصلاة، ويتجسَّس عليهم في وقت الفجر ليقدّم تقريره بالمصلين.
الى الفرع الأمني:
لم يكتف المجرمون من التحقيق معه في السجن بل أعادوه للفرع الأمني، وتعرَّض فيه لأبشع أساليب التحقيق القذرة والتعذيب من شبْح لساعات وصب الماء البارد عليه حتى لا ينام، والجلد بالسياط على الظهر والبطن والحمد لله الذي ثبّته.
العودة الى السجن:
أعيد الى السجن بعد الانتهاء من التحقيق ليقضيَ ما قدَّره الله له من أيام خلف القضبان في السجن، وثابر على ما كان عليه من العبادة والذكر ومتابعة تحصيله العلمي والمثابرة على الجد.
الإفراج عنه :
أفرج عنه مع بقية أفراد دعوته في 31-5-2011 بعد أن صدر عفوٌ خاص بحقهم في الأشهر الأولى من الثورة، وعاد الى بلدته عربين وهي من المدن التي أشعلت انتفاضة العز والفخار من بدايتها، وثار نور الدين ضد الظلم مع أبناء بلده.
التحاقه بركب المجاهدين:
ولما بدأت هواتف الحرب تدعو للجهاد في سبيل الله في شام الرباط لم يتخلف عنها فلبّى نداء الحق وداعي الجهاد ليدافع عن دينه وعقيدته، وليجاهد في سبيل الله وليدْحر الطغاة الظالمين الذين أحرقوا الأخضر واليابس ودمّروا المآذن ودنسوا المساجد، وأهلكوا الحرث والنسل، وأمروا بالسجود للطاغية بشار، فالتحق بالفتية الذين امتشقوا السلاح في بداية عسكرة الثورة وحمل روحه على كفِّه في سبيل الله لا في سبيل دنيا لا تليق بمن باعها أصلاً.
نفر في سبيل الله من أجل حياة الخلد والبرزخ بجوار سيد المرسلين، وحضر الى ساحات القتال غير مبال بالعذر الذي عذر فيه بقلع عينه, وكان له بابن الجموح أسوة، ولم يتأخر لحظة مع أنه كان حديث عهد بحرية لأن القتال قتال دفع، وعدوه لم يبق لأحد دنيا ولا دينا، ولم يمنعه عذره من الحضور لساحات الوغى.
أخذته الغيرة على دين الله عز وجل، وانخرط في صفوف المجاهدين من أجل إعلاء كلمة الله عز وجل واستعذب الموت من أجلها.
فلله درك يا ابن الشام التي إن فسد أهلها فلا خير إذاً في الدنيا، وإنك لتذكرني بقول الزركلي ابن دمشق صاحب "الأعلام": إن في الشام أمة لا تطيق الضيم، وأجمل منه قول طنطاوي الشام يتحدث عن أهلها: لهم في الرضا من الماء رقته وسيلانه، وفي الغضب شدته وطغيانه، بل ربما كان لهم من البركان فورانه وثورانه.
ثار حبيبنا كالبركان مع الثائرين لدحر الظالمين المعتدين، والتحق بكتيبة التوحيد والإيمان التابعة لكتائب أحرار الشام.
استشهاده
حقق له المولى عز وجل أغلى أمنياته الشهادة في سبيله فَرُزقها في 16-10-2012 أثناء تصدِّيه للرتل القادم الى معرة النعمان، وبعد أن غنم دبابة وفجّر أخرى، تطيبت تربة المعرة بطيوب دمائه الزكيَّة المسكيَّة.
فلك الله يا نور أيها الشاب الوقور الصبور فقد قمت بعمل يشفي صدور قوم مؤمنين، وتركت بصماتك في كل جبهة ذهبت اليها.
وليعلم النظام الخاسر الذي يقتّل هؤلاء الشباب أن أرحام النساء لا تزال ولوداً، وسيلدن أبطالاً أمثال أبي النصر يذكّروننا بخالد وسعد والمثنى .......

وستروي أسفار التاريخ للأجيال المتعاقبة ما فعله أبناء الشام مع الطغاة الطغام.