الشهيد اسعد هلال

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الشهيد أسعد هلال تقبله الله

بقلم: ضياء الدين البرهاني

عضو رابطة العلماء السوريين

الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه الغر الميامين, وبعد:

فمنذ أن أهلَّ هلال الإسلام، اصطفى الله من خلقه رجالاً عظاماً ذادوا عن حمى الدين، اختارهم المولى وصنعهم على عينه فصفت قلوبهم وقويت عزائمهم , وبنور الرحمن شقوا  دروب الحياة، ومن فيض عطاياه وهبهم، أولئك الذين أحبهم الله وأحبوه, ومن أجل الرب بذلوا الغالي والنفيس, وعجلوا اليه ليرضى، فنقشت أسماؤهم على صفحات التاريخ (وكأين من نبي قاتل معه ربيون فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) أولئك الذين يصدق فيه قول العزيز: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).

 وممن نحسبه كذلك الشيخ أبو محمد أسعد هلال- تقبله الله- الذي عرف بطبعه الهادئ، ودماثة الخلق الرزين، والعشرة السهلة، الكريم، المتواضع، الثائر، الشجاع، المغوار، الأسد الهصور، الذلول مع الإخوان، الباطش على الأعداء، صاحب الغيرة المتميزة، والمروءة النادرة، العنيد على الحق القوي الشكيمة، والذي كان رجل المبادئ والقيم، ولم يكن في يوم من الأيام من رجال الكراسي والمناصب والأطماع، فكان همه في دنياه أن تسود مبادئه، وأن تعلو أفكاره وتسمو وتستقر وتحيا أبد الدهر مرفوعة شامخة.

الولادة والنشأة:

في عام 1950 من القرن الماضي كانت بلدة سراقب على موعد مع وليد سيغمر خيره تلك البلدة الكريمة.

نشأ أبو محمد فيها وترعرع وتعلم وتخرج في معهد إعداد المدرسين، ودرّس أبناء بلدته اللغة العربية في مدارسها.

  عرف الشيخ بخلقه الرزين وتدينه الكريم، وتشرف بالانتماء لجماعة الاخوان المسلمين فكان له نشاط واسع في مجال الدعوة بفقهه وأسلوبه الدعوي المميز، وانصبَّ اهتمامه على تربية الشباب، وجمع شملهم والحرص عليهم على اعتبار أن نواة الإسلام في مكة ثلة من الشباب كانت تجتمع في دار الأرقم.

 ولما كانت الثورة الأولى في سوريا كان هو في طليعة الثوار، وحمل السلاح مع من حمله، فكان من بواكير أعماله العسكرية الهجوم على مركز البعث في بلدة سراقب وربما تقصد هذا المركز لأنه يريد تحطيم هذا الصنم الذي كان عبارة عن سلم صعد به هؤلاء النصيريون إلى سدَّة الحكم، وباسمه حكموا  واستعبدوا العباد وأفسدوا البلاد.

اعتقاله:

وشى به أحد عملاء الأجهزة الاستخباراتية إلى رجال الأمن في إدلب، فضبط الشيخ في عمل عسكري مع سلاح وعتاد، فتمَّ تحويله إلى دمشق، وكان من لطائف قدر الله عز وجل أن هيأ له مرافقاً من عناصر أمن الدولة ليأخذه إلى دمشق فكان العنصر يعرف الشيخ، وكان متعاطفا مع الثورة فأخفى إضبارة الشيخ المدوَّن فيها ما يوجب حكم الإعدام، ولما وصل إلى دمشق نظمت له إضبارة جديدة لم يذكر فيها العمل العسكري، واكتفوا بنسبة تهمة الانتماء إلى الإخوان له فغُيِّب على إثرها خمسة عشر عاما في لظى سجن تدمر الذي كان ولا يزال سبَّة عار على جبين هيئات الأمم وحقوق الإنسان.

خروج الشيخ من السجن:

أفرج عنه مع الدفعة الأولى من سجناء تدمر عام 1996م مع ثلة مباركة من المؤمنين، فاستقر الشيخ في بلدته سراقب، وتزوج زوجة ثانية ورزق منها الأولاد، وكان عنده أولاد من زوجته الأولى، وزوّج ابنته فاطمة خريجة كلية الشريعة من صاحبه في السجن أحد طلاب العلم الذين رافقوه  في سجنه، وكان قد وعده بها قبل خروجه من السجن.

نشاطه الدعوي والاجتماعي:

عاد الشيخ إلى ما كان عليه من نشاط، ولم تكن الإحن السود وشدتها لترد الشيخ عن تبليغ رسالته بل زادته الأهوال والمصائب صلابة وإيمانا وعزما ويقينا، وكما يقول الأستاذ المودودي رحمه الله: "فقد تعرضت الحركة الإسلامية في كثير من البلدان لهزات عنيفة استخدم فيها المستبدون كل وسائل العسف من اعتقال وحبس وتعذيب وتشريد وتقتيل مما تقشعر له الأبدان, فصمد المؤمنون بالإسلام الذين يعتقدون أنه دين ودولة، وكشف اضطهادهم عن معدن الإيمان الصادق الذي يصنع الأبطال ويضرب للإنسانية أروع مثل للجهاد في سبيل الله".

ومع بداية خروج الشيخ من السجن انضمَّ إلى موكب الدعوة ذلك الفارس الباسل في ساحات القتال العبّاد القوّام القرّاء لكتاب الله عز وجل ابن المساجد وحلق الذكر فعاد إلى جمع الشباب المسلم، وكان محطّ ثقتهم بكافة أطيافهم ومشاربهم وتياراتهم الإسلامية، فكان له القبول عند الإخوان والسلفية والصوفية، وكانت رسالته لهم الحض على العمل الدعوي والجهادي والإعداد له. وكان شديد الحرص على تهيئة الشباب للعمل على إنشاء دولة الإسلام، وقد استبشر الشيخ كثيرا بوصول حماس إلى سدَّة الحكم وتأثر بمنهجهم وسياستهم لظنه بأن نجاح حماس نجاح الأمة، وارتقاءهم يخدم قضية الأمة فكانت لحماس معزّة خاصة في قلبه، وكانت صورة كبيرة للشيخ أحمد ياسين رحمه الله معلّقة في بيته مع صورة أخرى للشيخ المجاهد أسامة بن لادن رحمه الله تعالى.

حاول الشيخ أن يتسلّم إمامة جامع الزاوية، لكن السلطات الأمنية منعته من ذلك ففتح الشيخ مكتبة لبيع القرطاسية والكتيبات الإسلامية والقصد من ذلك أن يجعل مكتبته هذه مركزا لتجمع الشباب والدعوة إلى الله عز وجل.

بذل الشيخ جهده لدعوة الشباب للالتزام وتوضيح الصراع بين الأنظمة الكافرة وأهل الإسلام فكان نعِْم المرشد والمربيّ، وقد استنصحه أحد الإخوة من ذوي النفس الجهادي في تشكيل تنظيم جهادي فنصحه الشيخ بالتنظيم (الخيطي) الخفي بأن تكون العلاقة مع شخص واحد وهو يتصل  بالآخر  وهكذا.

تعلّق الشباب بالشيخ وازداد نشاطه مع الشباب فكان يستثمر المناسبات الاجتماعية كالتعازي والأفراح للدعوة التي تركت أثرا بالغا في نفوس أبناء البلدة فهو بحق كما قال الأستاذ المودودي: "الدنيا يوجد فيها في كل زمان رجال لا يقلون عمَّن قبلهم ولا عمن بعدهم في كفاياتهم ومواهبهم الفكرية والعقلية ".

ولم تكن الدعوة مقتصرة على شخصه فقط، بل عمل معه أفراد أسرته ولا سيما بنياته العفيفات الملتزمات العابدات القوَّامات، وكان لهنَّ الأثر البالغ على نساء سراقب في نشر الحجاب والخمار في البلدة إذ لم يكن غطاء الوجه منتشرا في بلدة سراقب.

كان الشيخ يهتم أيضا بمشكلات الشباب وبحوائجهم، ويسعى لتزويج الشباب والشابات ،ويسأل عن العزاب ويساعدهم في أمور الزواج وأهبته.

اهتمامه بالفقراء والمساكين:

بحقٍّ كان الشيخ كالغيث لا يمطر إلا خيرا إلا أنه يختلف عن الغيث بأمر واحد: فالغيث موسمي بينما هو كان مدرارا طيلة أيام حياته وفي كل المواسم، فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويسعى على الأرملة والمسكين، ويمسح دموع اليتيم، ويسد حاجة الفقراء والمحتاجين، وقد أنشأ محبوه وأهل الفضل من بعده جمعية خيرية إغاثية سميت باسمه وفاء لأياديه الواضحة في الخير في حياته، وقد كان أمة في خدمة مجتمعه فما كنت تلفيه إلا خادما لهم وقاضياً لحاجاتهم فكان نهاره لخدمة العباد وليله لربه فكان يقومه ولا يرغب بالزيارات ومخالطة الناس بعد العشاء ليتمكن من قيام الليل.

ولأجل هذا النشاط الاجتماعي استدعي إلى فرع المخابرات في إدلب واعتقل قرابة ستة أشهر أو يزيد اعتبارا من 2-1-2011م إلى أن منّ الله  عز وجل عليه بتنشق نسيم الحرية مرة ثانية بعد انطلاق الثورة السورية بشهرين أو ثلاثة.

التحاقه بركب الثورة السورية:

بعد أن خرج من السجن التحق بركب الثورة على الفور، بل كان هو الموجِّه للثورة والمربي للثوار ، ونشّط الشباب ودعاهم للتظاهر بشكل منظم كي لا يكون أي تجاوزات شرعية، فكان الشيخ محطّ اهتمام من قبل الثوار في مدينة سراقب وريفها، وكانت ترسل إليه الأموال من المحسنين ليصرفها في مكانها المناسب لخدمة الثورة.

كان الشيخ ينصح الموالين للنظام ويتودَّد لهم بالنصح ولا سيما المغرَّر بهم للعدول عن آرائهم.

كان الشيخ يقيم المهرجانات الخطابية للشباب ويحضُّهم على التظاهر والصدوع بقول الحق وضرورة إقامة حكم الله عز وجل في الأرض

الثورة المسلحة:

مع بداية الحراك المسلح حرص الشيخ قبل الكل على تغبير قدميه في سبيل الله عز وجل, وحض الشباب على التسلح للدفاع عن المسلمين وأعراضهم مما أغاظ الكثيرين من عملاء النظام الفاشي، فكانت عيون الغدر تترصده إلى أن تمكَّنوا من تفخيخ سيارته وهو خارج من صلاة العشاء في 14-3-2012 ليمضي إلى ربه مجاهداً صادقاً قلما يجود الزمان بمثل هذا الفارس الذي ما ترجل عن صهوة حصانه لا في الحرب ولا في السلم، فكان فارساً ذهبياً حقيقة لا كذباً وزوراً، أثخن في العدو وشق غباره وقلبه مسطّراً أروع البطولات والتضحيات لتكون تاريخاً يحتذى للأجيال من بعده.

أسأل الله أن يتقبله، وأن يكون الآن في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن تكون روحه الآن في جوف طير خضر ترتع في الجنة حيث تشاء.

حرر في ليلة الواحد  والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1434.