الشهيد أبو دجانة مصعب الشيخ

 

بقلم: نور الدين إبراهيم العبيدي

 

قرية صغيرة في جبل الزاوية يقال لها سرجة عانت من ظلم النظام الأسدي وقسوته, وقد نكّل بأبنائها أيما تنكيل, غيّب العشرات من أبنائها في غياهب سجون تدمر, وباء بإثم قتل العديد منهم و لا يزال مصير بعضهم مجهولاً إلى يومنا هذا أهو في عداد الأحياء أم في عداد الأموات.
وفي هذه القرية التي كانت من أوائل البلدان التي أشعلت انتفاضة العز والفخار, أسرةٌ استشهد منها ثلاثة عشر شهيداً في ثمانينيات القرن الماضي, إنها أسرة آل الشيخ تلك الأسرة المسلمة الملتزمة بشرع الله عز وجل المتواضعة, وفي هذه الأسرة أطل نور الفارس الشهيد أبو دجانة مصعب بن الشيخ صالح الشيخ في عام 1979م, الذي سيكون شوكة في حلوق الظالمين، فأنعم بأسرة ينحني المجد إجلالاً وإكباراً لها, لما قدمت من فلذات أكبادها في سبيل الله عز وجل, ومن هذه الأسرة خنساء الثورة السورية، زوجة عم الشهيد التي فقدت زوجها في الثورة السورية الأولى في ثمانينيات القرن الماضي، وقدمت أربعة شهداء في الثورة السورية الثانية ثلاثة من أبنائها مع حفيدها نجل أبي عيسى الذي يقود الآن ألوية صقور الشام ,ويخوض معارك العز والفخار لتحرير الشام من طغاة النظام الذي عاث في الأرض الفساد.
 أبرزت الثورة السورية الثانية العظماء والأخفياء من هؤلاء الفتية الذين لا يمل الزمان من ترديد حكاياتهم، ولا يمل من سماع قصصهم ولولا هذه الثورة لكانوا نسياً منسياً, ويحضرني وأنا أكتب هذه الكلمات الفقيرة بحق هذا الشهيد العظيم قول العالم الفاضل الشيخ عبد المجيد بيانوني حفظه الله: (لقد علمنا التاريخ أن ثورات المبادئ الحقّة لا بد أن تقدم نماذج فذّة من المواقف الإنسانية والأخلاقية, التي تكشف عن شرف مبادئها وسموّ مقاصدها).
 
التربية والنشأة:
أبصر أبو دجانة النور في بيت إسلامي فمنذ وعى تعلم السعي إلى المساجد واعتنى بتربيته والده الشيخ صالح الشيخ.
والد الشهيد الشيخ صالح الشيخ
 الشيخ صالح من العلماء الأفاضل توفي عام 2004في قرية سرجة، وهو من أسرة مجاهدة قتل اثنان من إخوانه في سجن تدمر، وهو:خريج معهد النهضة في بلدة معرة النعمان الذي أسسه الشيخ أحمد الحصري رحمه الله، وكان إماماً وخطيباً في منطقة جسر الشغور، ومحافظة حماة, وكان ينتمي للمدرسة السلفية, ولتبنيه هذا الفكر منع من الخطابة والتدريس في المساجد عموماً بل حاول الأمن منعه من حضور صلاة الجماعة في المسجد, وكان كثيراً ما يستدعى للفروع الأمنية، وكان مكروهاً جداً من المخابرات السورية، وكان يعمل بالطب العربي وتأثر به ولده الشهيد مصعب في هذا المجال، كما أن الشهيد اهتم بالرقية الشرعية.
 
تلقيه العلوم الشرعية
أكرمه المولى عز وجل بحفظ كتابه, وتلقي العلم الشرعي من والده الشيخ صالح رحمه الله, ومن الشيخ الداعية أبي أديب محمد عثمان، وكان شهيدنا وكان على صلة بأهل العلم منهم الشيخ عبد الله علوش وطلاب العلم في دوما الأبية.
 
تأثر أبو دجانة بالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله وتعلق قلبه به فكان كثير المتابعة لأعماله العلمية ويتمسك برأي الشيخ عدا بعض المسائل لا سيما التي يخالف فيها الشيخ فكر التنظيمات الجهادية، كما أنه كان كثير التأثر بالإمام ابن القيم ويتمسك برايه ويقول: أنا شيخي الإمام ابن القيم.
كان الشهيد على جانب عظيم من الإيمان والتقوى والإخلاص والأمانة والعفة, ونشط في الرقية.
 
 وكان فقير الحال يكسب من كد يده فكان كثير الكدح والعمل، فكان يعمل في صنع لبن البناء، وتاجر بالألبسة في لبنان، وعاش عيشة فقيرة حتى أنه لم ينل شيئاً من ميراث أبيه إلا بعض الكتب كانت من نصيبه فطار فرحاً بها.
 
كانت حياة الشهيد دعوة إلى الله عز وجل بصدق وإخلاص وقد عرف بغيرته على دين الله عز وجل, كان على صراع مع أهل البدع وخاصة غلاة الصوفية.
 وأثر عنه حرصه الشديد على تطبيق السنة النبوية، واقتفائه أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه كان يُصلح نعله تطبيقاً للسنة, وكان يعلّم أبناءه تطبيق السنة، ومن الطرائف الجميلة: أنه زاره ذات مرة بعض أصدقاءه ومعهم ابن عمه الشهيد إسماعيل مجلاوي تقبله الله، ولم تكن قد نبتت لحيته فأتت بنيته الصغيرة التي كناها بأم كلثوم لتقدّم الضيافة الشاي أو عيره للضيوف، وعندما وصلت إلى إسماعيل توقفت ولم تضيفه فقال لها أبوها: يا بنية هذا صغير لم تنبت لحيته بعد فضيفيه.
 
اعتقاله:
لنشاطه الدعوي وتبنيه الفكر السلفي، وجمعه التبرعات النقدية لأسر الشهداء والمعتقلين استدعي إلى فرع الأمن العسكري بإدلب، في عام 2007 وقد جهد المحقق ليعرف الأشخاص الذين كان يتواصل معهم فلم يقرّ عين المحقق بأي معلومة حتى قال له المحقق: ومن أين استقيت الفكر السلفي؟ فقال له: من والدي, فعلق الأمر بأبيه وأبوه كان قد توفي وبذلك خصم هذا الموضوع، وكان كثير المناوشات الكلامية مع رئيس الفرع كما كان الحال مع أبيه.
وكان هذا كافياً ليتمّ ترحيله إلى سجن صيدنايا ومحاكمته عند قاضي محكمة أمن الدولة التي حكمت عليه بالسجن خمس سنوات.
 
في المعتقل:
أسلم أمره لله وتفرغ لعبادة الله وطاعته ومناجاته وتلاوة القرآن الكريم فكان يواظب على صيام يومي الاثنين والخميس وحرص على صلاة التهجد طوال سجنه ويوصي إخوانه أن يوقظوه لصلاة التهجد لكنه كان مبتلى بالنوم الثقيل فكان يجاهد نفسه للاستيقاظ من آخر الليل ويغضب من إخوانه إذا هم لم يوقظوه, ومن الطرف أنهم حملوه ذات مرة إلى الميضأة حملاً وهو نائم, وكان كل منهم يوصي صاحبه الآخر ليوقظه لأنهم إن لم يفعلوا ذلك يشاحنهم في الصباح, وعندما يدخل الشهيد في الصلاة يطيل القيام ويكثر من الدعاء ويناجي خالقه وبارئه وكان كثير البكاء واستيقظ أحدهم على بكائه وهو يناجي الله عز وجل ويقول: يا حبيبي يا الله! ويؤثر عنه أنه كان مجاب الدعوة ولم يكن يستهين بهذا السلاح إطلاقاً، فكان يدعو الله وكأنه يرى الله، وقد اودع في إحدى انفراديات السياسية بسبب أنه حلّ القيد من أيدي إخوانه أثناء اقتيادهم للمحكمة فكانت أيامه تلك من أجمل أيام عمره لأنه ذاق فيها لذة المناجاة لله عز وجل.
 
لم يكن يبذر بشيء من وقته على الإطلاق، يحافظ على أذكار الصباح والمساء، وكان شديد الحرص عليها، ويقرأ سورة البقرة مرتين في الأسبوع من أجل طرد الشياطين، ولا تجده إلا في صلاة أو في ذكر ودعاء، أو في قراءة القرآن، وكان كثير المطالعة، ولا يشعل نفسه إلا بما هو مفيد ، ويجلس مع إخوانه يتعلم منهم ويعلمهم، ويعقد لهم الدروس وخاصة في التوحيد، كما أنه عرف عنه أيضاً أنه شديد العناد في المسألة التي يرى الصواب فيها، ويناقش مخالفه الساعات دون تعب أو ملل حتى يصل به إلى ما يراه حقاً لكنه لم يكن يحمل حقداً على مخالفه في الرأي, بل كان يؤثر مخالفه بطعامه, وكان يقول: "كلّ مسلمٍ فيه خير".
.تعامله مع إخوانه السجناء:
كان كريماً ليناً هادئاً يتقرب إلى الله عز وجل بخدمة الإخوان, ويخيط لهم الثياب وبيوت المصاحف، ويدربهم على الرياضة ثلاث مرات في اليوم، وقد أوتي قوة بدنية فذة ولياقة جسمية وطوله لم يجاوز الـ165 سم، وفي أيام الشدة والضنك والحصار الشديد في مرحلة الاستعصاءات كان يخبز لإخوانه خبزاً طيباً.
همه الإصلاح بين المتشاحنين, ولم الشمل، ولا يقر له قرار حتى يصلح بينهم بل إنه لا يدعهم حتى يصلح فيما بينهم، ولا يوفّر طاقة أو جهداً في سبيل الإصلاح، وربما رضخ المتشاحنان للصلح حتى يخلصوا من شدة إلحاحه عليهم.
مواقف شجاعة
من أبرز سمات الشهيد الشجاعة الفائقة والجرأة النادرة, والصبر العظيم, كان شديداً على السجانين وكان من أشجع الناس في الله عز وجل، وخاصة في مرحلة ضعفهم الشديد بعد الاستعصاء وينادي على السجان والرقيب باسمه يا ناصر يا فلان وبطريقة ازدرائية، وكان كثير التهديد لهم,ومن مواقفه الشجاعة أنه أخّرس العميد رئيس السجن من أجل موضوع الصلاة حينما حاول منعهم من صلاة الجماعة، وكان يدعو على الظالمين بصوت جهوري.
 
 ومن مواقفه الشجاعة أيضاً أنه حينما أعادوا السجناء بعد الاستعصاء من سجن عدرا إلى صيدنايا وفتحت الزيارات أراد العميد رئيس السجن أن يذلّ السجناء أمام ذويهم ففرض عليهم حلاقة اللحية قبل الزيارة، وأن تكون الزيارة باللباس الأزرق, فرفض أبو دجانة الزيارة وشجع إخوانه ألا يزوروا فرضخ العميد لهم وألغى ذلك القرار.
 ومن مواقفه الشجاعية أيضاً: أخذ الشرطة أحد الشبان إلى إحدى الانفراديات عقوبة له فقال لهم أبو دجانة: هذا مريض خذوني إليه لأقوم بخدمته فأخرجوه وعاقبوه عقوبة شديدة ونقلوه إلى جناحٍ آخر شديد البرودة.
في أيام الاستعصاء كان يلبس الزي العسكري إضافة إلى شروال وحزام مشدود على خاصرته متوشحاً سيفاً أو خنجراً صنعت من قوائم الأسرة فكان مشهداً رائعاً لرجل مقدام يرعب أعداء الله عز وجل، وهو مع ذلك كان يجمع بين الشجاعة والتأني.
 
خروجه من السجن:
أطلق سراحه في بداية الثورة السورية، وقبل أن يخرج عاهد الله وعاهد إخوانه أن يسعى جاهداً لإخراجهم من تلك الأقفاص الحديدية.
 
 شارك في الثورة في بدايتها، ولما اصرّ النظام إلا أن يقمع الثورة بالحديد والنار كان أبو دجانة طليعة جند استجابوا لنداء الرب(انفروا) فنفر في سبيل الله, وركض إلى الله بغير زاد إلا التقوى للدفاع عن الأهل والعرض، وكان في مقدمة المجاهدين، وصار ينسّق بين القرى المجاورة، ويدعو للجهاد، ومن المواقف الطريفة في هذا الشأن أنه ذهب إلى إحدى القرى فصلى بهم العصر ودعا بدعاء النوازل وألح في الدعاء وصار يقول: اللهم ارزقنا الشهادة اللهم ارزقنا الشهادة فقطع صاحب المنزل صلاته وقال: أسكتوه حتى لا يستجاب له!. وكان ذلك قبل استشهاده بيوم واحد.
استشهاده
 وفي يوم 4-6-2011 صلى الفجر إماماً في بلدته ودعا في القنوت وألح على الله عز وجل في التضرع والدعاء، وصار يقول: اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى, اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى, وبكى بكاء كثيراً حتى غسّلت دموعه كل جسده، فتصدى في ذلك اليوم للرتل الأسدي القادم إلى مدينة الجسر عند قرية أورم الجوز, وقد أبلى في تلك المعركة بلاءً عظيما، وأكرمه الله عز وجل بالشهادة مع ابن عمه داود الشيخ ابن خنساء الثورة السورية.
 رحل الشهيد ولم يترك وراءه شيئاً من لعاعة الدنيا إلا داراً صغيرة خلّفها لزوجته وابنتيه، والتي قصفها النظام في 9-9-2012 حقداً وانتقاماً وغيظاً، ولأنه عجز عن تحطيم النفوس الإيمانية والأرواح الربانية فحطم الدور والبنيان، وأهلك الحرث والنسل.
وهكذا يمضي الرجال والأبطال ويرتحلون بعد مشوار جهادي ودعوي مشرف، فلله درك يا أبا دجانة يا من أوجعت جنود الظالمين, وشفيت صدور قوم مؤمنين بقتالك للمجرمين في معارك البطولة والكرامة.
حرر في يوم الأربعاء 7/محرم/1434.