الشهوة الخفية تفسد العمل كما يفسد الخل العسل

الشهوة الخفية تفسد العمل كما يفسد الخل العسل

محمد محيي الدين حمادة

 

     الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقنا ولا اعتصامنا إلا بالله، وما توكلنا ولا اعتمادنا إلا على الله.

      وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البَيِّنَة: 5]

      وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وإمامنا وعظيمنا وقائدنا وأسوتنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الامة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فجزاه الله خير ما جزى نبيًا عن أمته.

      أما بعد إخوة الايمان والعقيدة: إخوة الهجرة في سبيل الله أوصيكم ونفسي المخطئة المذنبة بتقوى الله عز وجل، وأحثكم على طاعتهِ، وأحذركم وبال عصيانهِ، ومخالفة أمره.

     إخوة الإسلام والإيمان والهجرة: هذا الدين ظاهرٌ وباطن فأما الظاهر ما يبدو لنا أمام الناس صلاةٌ يشاهدها البشر، وحج يشهده خلق الله عز وجل، وصدقةٌ يتداولها الفقير من يد الغني، إلى غير ذلك من الأعمال، فهذا يسمى في الشريعة ظاهرا، أما الباطن فهو ما لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

       وكما في الظاهر أعمال صالحة وفي الباطن أعمال صالحةٌ أيضًا، وكذلك في الظاهر أعمال فاسدة مما نهى الله عز وجل عنه، وفي الباطن أعمال فاسدة لا يطلع عليها إلا الله، فالرياء أمر في القلب لا يطلع عليه إلا الله، فقد ينفق المنفق لكي يقال عنه أنه منفق، وقد يتصدق المتصدق ليقال عنه أنه محسن وكريم، وقد يحج الإنسان لكن ليتبجح بأنه حاج، وقد يقرأ من مثلي القرآن لكن ليتفاخر به لا سمح الله بين الناس، وهكذا فالظاهر من الأعمال فيه خير وفيه شر، والباطل من الأعمال فيه خير وفيه شر، وقد قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأَنْعَامِ 120] مهينا عن الاسم الباطن كما لهينا عن الاسم الظاهر، قد لا يقع بعض الناس في الاسم الباطن و الظاهر لكنهم يقعون في الاسم الباطن والعياذ بالله، وملاك ذلك كله قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البَيِّنَةِ: 5]

 الإخلاص: هو أعظم أعمال القلوب لله سبحانه وتعالى.

 الإخلاص: أن يراقب العبد ربه لا أن يراقب العباد.

 الإخلاص: أن يحرر الإنسان النية في عمله قبل أن يعمل.

      وأثناء العمل وبعد العمل ثم يسأل الله عز وجل القبول {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البَقَرَة: 127]

       لذلك قال الإمام ابن عطاء الله السكندري في حكمه العطائية: " قد يفتح لك باب العمل ولا يفتح لك باب القبول والعياذ بالله"، لماذا لا يفتح باب القبول عند الله؟ لأن العمل فيهما لا أدركه أنا ولا أنت، ولكن يدركه ويطلع عليه الله وهو الرياء مثلًا وهو العجب مثلًا، وهو الغرور مثلًا، وهو طلب الجاه مثلًا، وهو طلب المنزلة عند الخلق مثلًا،    كلٌ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، كل هذا يجعلنا والعياذ بالله ولا سمح الله أو يجعل صاحبه يخرج من الدنيا بجبالٍ من الحسنات، لكنها تتبخر وكأنها لم تكن تصديقا لقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفُرْقَانِ: 23]

      يقول الإمام ابن القيم: أعمال القلوب الأصل في كل شيء، وأعمال الجوارح تابعةٌ له يعني عندما احفظ القرآن مثلًا هذا الحفظ ظهر، لكن هذا الظاهر ليس هو الأصل، الأصل هو القلب، لماذا حفظتُ القرآن؟ إن حفظتهُ لأجل التبختر والتزين والتباهي بين الناس

     فهذا العمل كأن لم يكن، بل يتحول هذا العمل إلى حجةٍ على صاحبه، فالقلوب هي الأصل، ويتفرع عنها أعمال الظاهر وليس العكس.

       يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقرره الله على أعماله، ويقول يا رب لقد جاهدت في سبيلك حتى استشهدت فيقول له الله عز وجل أو تقول ملائكته: لقد قاتلت ليقال عنك أنك شجاع، وقد قيل خذوه إلى النار ويؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقرر الله أعماله يقرره على أعماله، فيقول يا رب لقد أنفقت من المال الذي اعطيتني إياه الكثير فيقول له الله عز وجل أو تقول ملائكته: لقد أنفقت ليقال عنك إنك منفق، خذوه إلى النار وهكذا، فليست العبرة بالعمل وليس الأصل هو العمل إنما العبرة بما وطن واستقر في القلب والأصل في الأعمال هي القلوب، الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

    الإخلاص: مثله مثل حب الله في القلب لا يطلع عليه إلا الله مثله مثل شكر الله مثله مثل رجاء الله، مثله مثل الخشية من الله الحب لله الخشية من الله الصبر لأجل الله الاحتساب عند الله، كل ذلك من أعمال القلوب.

 أسأل الله عز وجل أن تكون قلوبنا صافية،..

 

        مرت معي قصة نذكرها على سبيل العبرة ليست حديثا ذكرها أديب العرب الحقيقي مصطفى صادق الرافعي، إما أديب العربي أديب عميد الأدب العربي الذي وضعته بريطانيا والذي كتب كتابه في الشعر الجاهلي فهذا ليس حقيقي، هذا وضع ولم يكن أهلًا ليكون أديبًا مصطفى صادق الرافعي يقول: إن أجمل ما كتبه أهل السير عن رجل في القرن السادس الهجري من علماء القرن الثالث الهجري يدعى أحمد المسكين يقول: هذا الرجل امتحنت نفسه بالفقر سنة تسعة عشر ومئتين سنة، ولم يكن عندنا شيء وكان لي امرأة وطفل وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفًا، انظر أنا لست حكواتيًا لكن أريد العبرة في ختام هذه الخطبة، قال: فجُمِعَت نيتي على بيع بيتي وخرجت آخذ بالأسباب لبيعها، فلقيني صديقٌ يقال له أبو نصر فقال: ما حالك؟ فأخبرته عن حالي، قال: فخذ هاتين الرقاقتين من الخبز، وبينهما حلوى وأطعم بهما أهلك، قال: فعدت إلى داري لأطعم أهلي، قال: فلقيني طفل جائع وأمه، قالت الأم: يا سيدي هذا الطفل يتيم وجائع ولا صبر له على الجوع فأطعمه يرحمك الله، قال أحمد المسكين: نظرَ إليَّ الطفل نظرة لا أنساها وكأنه يتوسل إلي أن أطعمه، قال: وخيل إلى حين إذن أن الجنة نزلت تعرض نفسها على من يطعم هذا الطفل وأمه، قال: فما كان مني إلا أن أعطيت الرقاقتين لهذه الأم، وقلت لها: أطعمي ولدك خذي هذا وأطعمي ابنكِ، فوالله لاحظ إلى هذا الإنفاق، فوالله لا أملك بيضاء ولا صفراء، ووالله لَأهلُ بيتي أحوج إليه منك، قال: فابتسمتُ ومضيتْ، وبينما أنا حزين لم آتي بطعام إلى بيتي، إذ عاد أبو نصر مرةً أخرى فناداني أبشر يا شيخ، فقلت: وما الخبر؟ قال خير ينتظرك، رجل كان أبوه قد وضع عند مال أبوك قد وضع عنده مالًا ليعمل به، فأفلس الرجل، وانتقل من البصرة إلى خرسان، ثم تحسنت الحال ومضى على القصة ثلاثون سنة،  وقد عاد إليك بالمال واتعابه وارباحه مما تراه من الخير، قافلة بكاملها محمدًا، قال: فاستبشرت وشكرت الله، عاد وضعي وازداد ولم ينقص وكأن المال يفيض ولا يتراجع ثم قال وارسلت إلى الأم وولدها فجعلت لهما مالًا معلوما بالدينار ليس بالدراهم، الدنانير كأنت ذهبية والدراهم كأنت فضية شتان بينهما، قال: واخذت أنفق على الماء من هذا الكثيرون هنا وهنا وهنا، والمال يزيد، قال: وقد أصابني عُجْبٌ في داخلي، شعرت أنني فعلت ما أدخل به جنة الله، صابه عُجْبٌ أصابه في نفسه، أين يصيبُ الإنسانَ هذا الشيء في قلبه لا في ظاهره، قال: فبينما في ليلة من الليالي وقد أعجبتني نفسي بعد الغنى، خلدت إلى النوم، فرأيت وكأن القيامة قد قامت وكأن الناس قد وقفوا بين يدي رب العالمين وجيء بي للحساب هو يرى رؤيا، وجيء بي للحساب فقال قائل: ضعوا حسنات هذا الرجل قال: فكل حسناتي التي وضعت بعد أن ترجحت على سيئاتي قال مكتوب تحت كل حسنة شهوة خفية، شهوة خفية شهوة خفية، يعني كان فيها رياء، كان فيها عُجْبٌ، كان فيها غرور، كان فيها حظ نفس، كان فيها عدم إخلاص لله عز وجل، قال: فاذا بأعمالي وميزان حسناتي يطيش، وميزان سيئاتي يهبط ويكون هو الراجح، فقال قائل: هل بقيت له من حسنة؟ عدل من الله عز وجل، هل بقيت له من حسنة؟ فقالوا: حسنة واحدة، قال: ضعوها فقلت في نفسي لقد هلكت وما تنفعني حسنة أمام تلك الحسنات التي ذهبت من ميزان حسناتي، قال: فجيء بتلك الرقاقتين والحلوى بينهما، اللتين أطعمتهما لهذه الأم ولذلك الصغير وبدموع المرأة وبسعادة الطفل، فاذا بميزان حسناته يرجح ثم يرجح ثم يرجح ثم يرجح حتى نجوت، قال قائل: قد نجى قد نجى قد نجى، لماذا لم ينجوا إلا بهذا العمل؟ لأنه كان في تلك اللحظة خالص الإخلاص لله عز وجل.

    ألا فلننتبه، ألا فلنحذر في كل عمل في كل صلاة في كل نفقة في كل صدقة في كل آية من كتاب الله عز وجل نقرأها أو نقرئها في كل حفظ للحافظين، في كل فعل للفاعلين، في كل خطبة من أمثال يخطبونها أن نحذر وأن نعلم أننا على خطر عظيم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين... أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين