جاءت تعاليم القرآن الكريم حول نظام الحكم مجملة في مبادئ عامة و تركت التفصيلات للمسلمين كي يستنبطوا من تلك المبادئ العامة ما ينظم حياتهم حسب ظروف الزمان و المكان، و قد جعل الإسلام الشورى إحدى الدعائم الكبرى للمجتمع الإسلامي قال تعالى: " و أمرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون" الآية 38 من سورة الشورى و قال كذلك: "فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر " آية 159 آل عمران، و بذلك رسم القرآن الكريم الشورى طريقا لحياة المسلم و أبعده عن التفرد بالرأي و التعصب له.
في العهد الراشدي الأول قال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة : "أيها الناس إني وليت عليكم و لست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ". و بذلك أسس الخليفة الراشدي الأول مفهوم العقد بين الحاكم و المحكوم و بين أن الحاكم في الإسلام لا يملك سلطة مطلقة بل هو بشر يخطئ و يصيب و من حق المسلمين أن يسددوه إذا أخطأ و يقوموه إذا اعوج.
و في بداية الحكم الأموي قارن الناس بين خلفاء بني أمية و بين الخلفاء الراشدين فلما وجدوا الفرق الكبير بين حكم الشورى و الحكم العضود أفتى كبار فقهاء القرن الأول بالخروج على الحاكم الظالم، و في هذه الفترة أيد الإمام أبو حنيفة خروج الإمام زيد بن علي ضد الخليفة الأموي هشام ابن عبدالملك عام 121 هجرية لكن هذه الثورة انتهت بقتل الإمام زيد عام 122 هجرية، و لما قام ابنه يحيى يطالب بحق أبيه قتل هو الآخر عام 125 هجرية و لما قام ابنه عبدالله يطالب بحق آبائه قتل كذلك عام 130 هجرية . و لما قام عبدالرحمن ابن الأشعث بالثورة ضد الأمويين بسبب مظالم الحجاج ابن يوسف الثقفي سجن عدد كبير من أنصاره حتى ماتوا في السجن و كذلك أدى خروج عبدالله ابن الزبير ضد الحجاج إلى صلبه و الحبس لمئات من الثوار و قتلهم. و لما قام محمد ابن عبدالله الملقب ب"النفس الزكية" بثورته ضد الخليفة المنصور ناصره أبو حنيفة في دروسه بالمسجد بل نصح قائد الجيش بعدم محاربته ، و لم يؤذ الخليفة المنصور أبا حنيفة في البداية و حاول استمالته لتبني منصب القضاء فرفض فسجنه و ظل في سجنه حات مات عام 150 هجرية. و استمرت الثورات على الحكام الظلمة و استمر سيل الدماء.
ثم جاء الإمام مالك فكان فقهه وسطا بين المبدأ الشرعي و ضغوط الواقع المعاش فرأى أن الخروج على الحاكم الظالم مشروع إلا أن المصلحة توجب عدم الخروج عليه لتجنب إراقة الدماء.
أما الإمام الشافعي فأفتى بعدم الخروج على الحاكم الظالم مع تجنب الثناء الكاذب عليه لأن ذلك يزين له سوء عمله ، و كذلك رأى الإمام ابن حنبل عدم الخروج على الحاكم الظالم طالما أقام الصلاة و الحدود الشرعية و بعد ذلك حرم العلماء من السلف و الخلف الخروج على الحاكم المسلم و إن كان فاسقا أو ظالما أو جائرا مستندين إلى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال : دعانا رسول الله صلى الله عليه و سلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا و عسرنا و يسرنا و أثرة علينا و ألا ننازع الأمر أهله ، قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان. و في شرعية الحاكم أفتى الفقهاء بشرعية الحاكم الذي تمت بيعته بالرضى أو بالإكراه ( لاحظ كلمة الإكراه ) و أقروا بشرعية المتغلب بالسيف و الشوكة لما رأوا غزارة الدماء التي سفكها المتسلطون على رقاب البلاد و العباد فتمت بذلك هزيمة المنهج الشوري الراشدي أمام جبروت السلطة و تغولها و استبدادها ، و تمت شرعنة الاستبداد حقنا للدماء و صونا للأرواح.
و مضى التاريخ على هذا النحو لقرون طويلة تجذر فيها الاستبداد في سلوك الحكام و في ثقافة الشعوب حتى جاء العصر الحديث و استطاعت شعوب كثيرة بعد صراع مرير و مديد تقليم أظافر حكامها و توصلت لعقد اجتماعي سياسي تعترف فيه السلطة بمعارضة شرعية ، و تم تطوير آليات ناجحة للانتقال السلمي للسلطة عبر نظام سياسي تعددي تداولي تديره قوى سياسية تجبر السلطة الحاكمة على الاعتراف بها و لا تستطيع القضاء عليها أو إراقة دمائها . و هنا لا يسعنا إلا أن نقول أما آن للفقه السياسي الإسلامي أن يخرج من صندوق جواز الخروج على الحاكم أو عدم جوازه إلى إيجاد نظام سياسي لا يحتاج فيه الحاكم إلى السيف للبقاء في السلطة و لا يحتاج الناس لإراقة الدماء لتغييره و ذلك بالعودة إلى المفهوم الراشدي للسلطة " العقد بين الحاكم و المحكوم" و هو النظام الأسمى للحكم الذي كان يجدر بالمسلمين أن يطوروه بدل استمرار الملك العضود ، و هو ما طورته البشرية بعد تجارب طويلة و مريرة فأ صبح الحاكم (الرئيس أو رئيس الوزراء )موظفا منتخبا و لمدة محددة يسهر فيها على خدمة الشعب ضمن برنامج انتخابي صوت له الشعب و يحاسب الحاكم على أساسه من قبل الشعب .
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول