السير في الطريق المعبَّدة

سألت صديقي: إذا كنتَ ستسافر سفراً شاقّاً طويلا، وعندك مساران أو خياران في الطريق للوصول إلى وجهتك. أحدهما طريق سهل ومزود بكل الخدمات ووسائل الراحة، مع خدمته بالإرشادات والإشارات التي تعينك وتوجّهك في متابعة السفر، وتتوفر في هذا الطريق محطات للاستراحة والتزود بما تحتاجه في كل مرحلة. أما الطريق الآخر: فهو طريق مخوف وعْر، ضعيف الخدمات بل شحيحها، وقد تنقطع في الطريق أو تضل ولا تجد من يرشدك إلى وِجهتك، وقد تواجه اللصوص وقطَّاع الطرق وتهلك قبل الوصول إلى هدفك، فأي الطريقين تختار؟!

فاستغرب صديقي من سؤالي وأجاب - دون تردد - : بالطبع سأختار الطريق الآمن المريح. قلت له: حُق لك أن تستغرب سؤالي، فإنني مثلك أيضاً أستغرب على كثير من العقلاء من يُغامر ويسلك الطريق الوعر، ولا نجد مسوِّغا لمغامرته من أمر يرتجيه أو منفعة يحققها أو هدف عالٍ يبتغيه يمكن لمثله أن تُبذل الأرواح والمُهَج.. فهل من يعرِّض نفسه للهلاك أو ماله للسرقة والضياع يكون قد سلك سبيل حكمة ورشاد ؟!.

نجد كثيراً من الناس - خصوصاً من فئة الشباب - من يتهوّرون ويتعجَّلون بالتنكُّر لجهود السابقين مع غمط مقامهم العلمي وازدراء مكانتهم في الفهم والاستنباط سواء بلسان حالهم أو بلسان مقالهم، ويقرر هؤلاء المتهوّرون خوضَ معركة وهم عُزل عن السلاح، ويقتحمون البحر ولا يجيدون السباحة.. ولو عادوا إلى رشدهم لعرفوا ما هم مقدمون عليه من تهلكة وخطر.. ولو فكَّروا قليلا وتريّثوا لأدركوا أن هذا المحيط لا يدخله إلا عالم متمكن مزوَّد بالآليات والتقنيات الحديثة التي لن تفارقه في لحظة من لحظات رحلته، وإلا لدخل في المهلكة والخطر..

يظنَّ هؤلاء الأغرار أنهم بضربة زر في (المكتبة الشاملة)، أو على محرك بحث (في الشابكة) سيعطيهم حلَّ مشكلة أو يقدم لهم حل مُعضلة سهر فيها الأولون وتداولوا الرأي وقلَّبوا النظر مرَّات وكرَّات، وجرت بينهم مناقشات ومناظرات، حتى وصل كل منهم إلى رأي يعتقد أنه الصواب.

فمن سيلتقط الدّرر والجوهر إلا حاذق بصير، يميز الثمين من الرديّ، ومن سيستخرج اللؤلؤ المكنون في أصدافه إلا عالم خبير، ومَن سيسلك الطريق الأفضل إلا ماهر خِرِّيت.

عدتُ إلى صديقي وقلت: هل تظن أن الأفذاذ والجهابذة ارتقوا المراقي العُلا وتربَّعوا على عروش قمم العلم والفهم دون منافسين أقوياء، ودون صِعاب؟!

ولو استعرضنا شيئا من صفحات التاريخ اتضح لنا جليًّا أن هؤلاء النوابغ كانوا في عصر كثرت نابغتهم، وازدهر فيهم العلم، وبلغت الحضارة والانفتاح والاختلاط بالأمم بالأخرى مبلغا عظيماً، فلم يسلِّم لهم قومُهم ولم يذعنوا لإمامتهم أو يجمعوا على فضلهم إلا بعد أن رسخت قدمهم وبلغوا في العلم والفهم شأنا عظيماً.

وهؤلاء الأفذاذ لم يجلسوا مجالسهم أو يتصدَّروا للتعليم والإفتاء والاجتهاد إلا بعد نجاحهم لاختبارات صعبة شديدة لا يجتازها إلا نوادر النوادر.. فهم بحق صفوة الصفوة، وخيار النوابغ..

فالإمام مالك بن أنس (إمام دار الهجرة) رضي الله عنه - ما ظهر وتصدَّر إلا بعد أن شهد له كبار العلماء أنه أهل لذلك، وما جلس للفتيا إلا بعد أن شهد له سبعون من كبار عصره أنه آن أوانه ليفتي الناس.

قال أنس بن عياض: جالست ربيعة ومالك يومئذ معنا وما يعرف إلا بمالك أخي النضر. ثم ما زال حرصه في طلب العلم حتى صرنا نقول: النضر أخو مالك. [ترتيب المدارك للقاضي عياض].

وكان مما قاله الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في حق الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ورضي عنه -: «ما رأيت رجلاً قط أعقل ولا أورع ولا أفصح من الشافعي». وقال يونس بن عبد الأعلى: «ما رأيت أحداً أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي، لوسعهم عقله» [طبقات الشافعيين].

ويقول الإمام يحيى بن سعيد القطان (إمام الجرح والتعديل) عن الإمام الأعظم: «إن أبا حنيفة -والله- لأعلم هذه الأمة بما جاء عن الله ورسوله» [أبو حنيفة النعمان، وهبي سليمان غاوجي].

هؤلاء كانوا مُحاطين ببيئة علميَّة فاخرة، مع ذكاء وقَّاد، وقريحة نافذة، وذاكرة ذهبية، وفهم ثاقبٍ، واطلاع واسع، وتبحر في العلوم والفنون، وصبرٍ ودأبٍ طويلين، وتوفيق إلهي يسري في لحظات حياتهم حتى خرجوا لنا بهذا الإرث العظيم..

ثمَّ إن هذا الإرث العظيم لم يتركه بنو قومهم في عصرهم وما بعده غُفلا أو هَمَلا، بل تعاهدوه بالرعاية والصيانة والخدمة اللائقة به؛ فعندما نقول المذهب المالكي، أو المذهب الحنفي مثلاً، وغيرهما من المذاهب فنحن نشير إلى مدرسة منهجية عظيمة تعاقب عليها كبار من المفكرين النُظَّار العظماء - من لدن إمام المدرسة إلى ما بعده من عصور - بالخدمة والعناية اللازمة.

حتى إن المرء - وإن لم يكن طالبَ علم أو فقه أو معرفة بالأحكام - إذا قرأ في كتب هؤلاء الأفذاذ ليجد ما فيه العَجب العُجاب من الفصاحة والبلاغة، وحُسن المنطق، وقوَّة الحجة، ومن الكياسة والحكمة.. قل لي بربك هل يشبع الفَطِن اللبيب من قراءة (رسالة) الشافعي؟! أو (مبسوط) السَّرَخْسِي، أو (بدائع) الكاساني، أو (فروق) القرافي، أو (ذخيرته)، أو (التمهيد) لابن عبد البر، أو (روضة) النووي، أو (موافقات الشاطبيّ)، أو (مقدّمة ابن خلدون) أو (مجموع فتاوى) ابن تيمية، أو (مدارج ابن القيم) أو إعلامه عن الموقعين... الخ، رحمهم الله جميعا عما قدموا من تراث وبنَوا من حضارة، والأمثلة أكثر من أن تُحصر.

لسنا مُبالغين أبدا إذا قلنا إنَّ العلم أصبح في حياة هؤلاء الأفذاذ كالأوكسجين الذي يستنشقونه، فلا يستطيعون الانفكاك عنه أو التقلل منه في حضر ولا سفر، ولا في صحة أو مرض، عندها لا نتعجَّب إذا سمعنا عجائب القصص في حرصهم على العلم والفهم واستزادتهم منه في كل لحظة حتى الرمق الأخير من حياتهم، يُروى عن أبي الرَّيحان البيروني أنَّه حين حضرَتْه الوفاة، سأل مُجالِسَه عن مسألةٍ في الفرائض، فقال له: أفي تلك الحال؟! فقال: لأَنْ أموتَ عالِمًا بهذه المسألة خيرٌ من أن أموت بها جاهلاً! فتأملْ يا رعاك الله..

قال الحاكم النيسابوري عن أهل الحديث: "آثَروا قطع المَفاوز والقِفار، على التنعُّم في الدِّمَن والأوطار، وتنعَّموا بالبؤس في الأسفار، مع مُساكنة العلم والأخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار، بوجود الكسر والأطمار... نبَذوا الدُّنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة، وسمرَهم المُعارضة، واستِرْواحَهم المذاكرة، وخَلوقَهم المداد، ونومهم السُّهاد، واصطلاءهم الضِّياء، وتوسُّدَهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السُّنة غامرة، تعلم السُّنن سرورهم، ومجالسُ العلم حُبورهم". [معرفة علوم الحديث].

عاد إليَّ صديقي وقد انقدح في ذهنه هذا السؤال، فقال: وهل تَرمي أو تشير في كلامك أنَّ علوم الشريعة ألغاز وطلاسم لا يفهمها إلا عباقرة نوادر، وإن كان كذلك فما أقلَّ هؤلاء وما أندرهم؟! وهل انتهى العلم بموتهم وفقدهم!.

فأجبته: لقد أبعدتَ النُّجْعة أيها الفَطِن! فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وهذا اللسان لا ينبو عن فهم العربي في باديته، وكذلك السنة النبوية فقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامِعَ الكلم ومجامعه، واختصر له الكلام اختصارا، وجمع الله له المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة يسيرة، لكن فهم الكلام ووضوحه لا يعني بالضرورة سبرَ أغواره، وفهم أسراره، والناس تتفاوت في الأفهام، وهذه قسمة العلام، فالصحابة الكرام وهم أقرب الناس إلى مَعين الوحي، كانوا يرجعون بالسؤال والتفقه والفتيا إلى المبرّزين فيها، وإلى من هم أكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنه - بلغت في الفنون الغاية؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله كثيرا ما يقول لي: يا عائشة! ما فعلت أبياتك؟ فأقول: وأيّ أبياتي تريد يا رسول الله، فإنها كثيرة»؛ (رواه الطَّبَراني في المعجم الصغير). وقد لجأ لفتاواها الصحابة، وصحَّحت مروياتِهم، ونقَدت الأشعار، والحديث في مآثرها يطول. فالتخصص والتميُّز له حكمُه، ويُبنى عليه أثرُه، وهذه سنة من سنن الله تعالى في الحياة، ولا أدلَّ على أهميَّة التخصص مما رواه الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". والتوجيه القرآني يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]

والعلماء أطلقوا لقبا هو (الفقهاء السبعة) على سبعة من التابعين، كانوا مُتعاصرين بالمدينة المنورة، وهم - كما قال ابن الصلاح -: عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وعُروة بن الزبير بن العوَّام، وقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيَّب بن حزن، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت.

فهل يُعقل أن نُسوي في الفهم والعلم بين العالِمين وعموم الناس؟!. أما فضلُ الله وإمداده وإنعامه على عباده بالفهم والعلم فهو لا يختصُّ بزمن دون زمن، أو عصر دون عصر؛ يقول ابن مالك: وإذا كانت العلومُ مِنَحاً إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين. [تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد]. فلا تتوقف العلوم، ولا يُطلبُ أن يَجمُد المتأخرون على ما جاد به مُتقدموهم، بل إنَّ من أفضل البر وخير الجهاد خدمة العلم وأهله في كل زمان ومكان، وعدم ادخار وسع في ذلك.

ختاماً: فهل يدرك الذين يخوضون في غير ما يحسنون خطرَ ما هم مُقدمون عليه، وهل يعلمون أنَّهم يضعون أرجلهم في مُنزلق خطير فليُحجموا وليدَعوا الميدان لفرسانه وأربابه، إن كان عندهم مُسكة من عقل وضمير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين