السيرة النبوية (قصة المولد)

التقديم للبحث:

هَذهِ سَحابَةٌ أظلَّتْ بِذكْرِ الفَضائِلِ المُحَمَّديَّة، فَبثَّ رَشَائُها، وزُجَاجَةٌ مُلِئَتْ مِن عِطْرِ الأَخلاق النَّبَوِيَّة، فيها لِنُفوسِ السَّامِعينَ انْتِعاشُهَا، لَوْ وُزِنَتْ بِأَعْلَى الدُّرَرِ واليواقيت لما غَلَت سومًا على السَّامِعِ فَلَقَال: هاتِ أو هَيْتَ، وَكَيفَ لا؟ وإِنَّ مَلْأَهَا لَمِن زُلالِ شَرَفِ الرَّسولِ، وانبثاقَ لَوامِعِ بَرْقِهَا يُشَامُ مِنْهُ خَيْرُ غَيْثٍ هَطُولٍ.

 

آثرتُ فيها جَمْعَ لُمَع كافية للذينَ تَعَلَّقَت قُلُوبُهُمْ بِمَحَبَّتِهِ، وأخبارٍ غَيرِ واهية الأساسِ مِن مُختار عُيونِ سِيرَتِهِ؛ إذ كان قد أغْنى هَذه الأمَّةَ عَن التشبث بما لَيسَ بِمَحَجَّةِ الثُّبوتِ، ولَقَّنَها أنْ تَرْبَأَ عَنهَا بِإشارَةِ قَولِهِ : {وَإِنَّ أَوْهَى البُيوتِ} [العنكبوت: ٤١].

 

فكذلك ينبغي أن يكون المسلمون فيما يُبيتونَ مِن شُؤونِهِم وَأَوْضاعِهِم، وعَلَى ذلكَ الخُلُقِ عُلَماؤُهُمْ وأَشْياعُهُم، فإنَّ هذا الدِّينَ ثَرِيٌّ بِمَا أَمَدَّهُ اللَّـه مِنْ صَحيح كثيرٍ، عَن أنْ يُلَفَّقَ لَه شَاعِبُ كُلِّ مُنثلِم أو كسير ، فلا يَحقُّ لِحَمَلَتِه أَن يَشُوبُوهُ بِمَا يُكَدِّرُ مِنه صَفْوَ صِفاتِهِ، وأنْ يَنْسَوُا ما خُصَّتْ به هذه الأمة من صحةِ بلوغ الدِّينِ ورواياتِهِ.

 

فعلى ذلك النير قد سَدَيْتُ مُحْكَمَ هَذا النسيج، وكذلك تَفَرَّعَت أَفْنَانُ هَذه الشَّجَرة الطيبة على ما انفتق عنه ذلكَ الوَشيجُ.

 

دَعانِي إليه الائتساءُ بِأفاضل الأمَّة، الذين ألْهَمَهُمُ اللَّـه صَرفَ الهِمَّة، إلى العناية بتعظيم اليوم الذي يُوافقُ من كل عام، يوم ميلادِ مُحَمَّدٍ، رَسولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ؛ إذ كانوا قدْ عَدُّوه عِيدًا، وَرَمَوا بِرَشيق نَيْل عُقولهم بذلكَ مَرَمَى بَعِيدًا، عَلِمناهُ مِن قَوْلِهِ تعالى في التنويه بشهر رَمَضانَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: ١٨٥].

 

فَأَيُّ يَومٍ أسعد من يَومٍ أظهرَ اللَّهُ فيه للعالم مولودًا كَانَ المُنقِذَ مِن الضَّلالَةِ، أَخْرَجَ به النَّاسَ مِن ظُلماتِ الشَّرْكُ ومَناقِص الجَهالَةِ. وإذا كَانَتِ الأعيادُ الثَّابِتَةُ في الدِّينِ قد جَاءَتْ على مُنَاسَبَةِ الفَراغ مِن عِبادَاتٍ مَشروعَةٍ، فَذِكْرَى الواسِطَةِ العُظمى في تبليغ ذلك يَحقُ أَنْ تَكونَ مُشَيَّدَةً مَرْفُوعَةٌ.

 

وأوَّلُ مَنْ عَلِمْتُه صَرَفَ همَّتَهُ إلى الاحتفال باليوم الموافق يومَ مَولِد الرَّسول، فيمَا حَكَاهُ ابنُ مَرْزُوقٍ، هو القاضي أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ العَزَفي السَّبْتِي المالكيُّ في أواسط القرن السَّادِسِ.

 

وتَبِعَهُ عَلَيْه ابنه القاضي أبو القاسِمِ مُحَمَّد، من عُلماء القرن السادس، وأوائِلِ السَّابع. واسْتَحسنَه جمهورُ مَشْيَخةِ المَغْرِب وَوَصفوه: بالمَسْلَكِ الحَسَنِ. قال أبو القاسم البُرْزُلي: (مِيلادُ النَّبي ، مَوْسِمٌ يُعْتَنَى به في الحَواضِرِ تعظيمًا لَهُ ).

 

تحميل الملف