السلم العالمي من مقاصد التشريع الإسلامي

يهدف التشريع الاسلامي إلى تحقيق السعادة للإنسان في هده الدنيا حتى تتحقق خلافة الله تعالى في الأرض؛ فجاءت الشريعة لتأمين مصالح الإنسان؛ فدارت حول جلب المنافع ودفع المضار والمفاسد عنه؛ فهي ترشده إلى الخير وتهديه سواء السبيل؛ وتدله على البر وتأخذ بيده إلى الهدي القويم؛ وتكشف له المصالح الحقيقية: ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون له هادياً ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد وهذه الغايات.

ومن البدهيات في حياة طالب العلم أن أوامر الله تعالى ونواهيه لا تُعلل؛ لكن هذا لا يمنع من البحث في مقاصد التشريع ليزداد المؤمن إيماناً إلى إيمانه وقناعة في وجدانه ومحبة لتشريعه وتمسكاً بدينة وثباتاً على صراطه المستقيم: فيفخر بدينه ويعتز بإسلامه. خاصة إذا قارن ذلك مع بقية التشريعات والأنظمة الوضعية: وعندما يدرك أن كل أوامر الله تعالى ونواهيه إنما شرعت لتحفظ له دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله.

المقاصد والغايات:

المقاصد لغة: جمع مقصد، من قصد الشيء وقصد له وقصد إليه: بمعنى طلبه وأتى إليه(1)، والمقاصد في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتى بها التشريع الإسلامي وأثبتها في أحكامه. وسعى إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان(2).

وعند استقراء آيات القرآن الكريم تجد أن الله له تعالى ربط كثيرا من العبادات التي افترضها علينا بمقاصدها؛ فقال تعالى في عموم العبادة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:21]، فالقصد من العبادة التزود بالتقوى التي تدفع المسلم إلى ما ينفعه وتمنعه من الوقوع فيما يضره، وهو ما جاء مفصلاً في كل عبادة من العبادات؛ ففي الصلاة قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون}[العنكبوت:45].

وفي الصوم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:183].

وفي الحج قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَاب}[البقرة:197].

وفي الزكاة قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم}[التوبة:103].

وفي المعاملات بيَّن الله تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب المنافع لهم ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}، ثم قال تعالى: { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ثم بِيّن الله تعالى المقصد من وراء ذلك فقال تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} [البقرة:282]

وقال تعالى في النهي عن أكل المال الحرام: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون}[البقرة:188].

كما بيَّن سبحانه وتعالى الحكمة والمقصد من تحريم الخمر ومن مشروعية القصاص بما يضيق المقام عن استقرائه هنا.

كما بيَّن الله تعالى أنه لا يهدف من وراء التكليف الإرهاق والمشقة، بل يهدف من الأحكام رفع الحرج والمشقة عن الناس، فقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286]، {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]، وقال أيضا: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].

وهكذا يتبين أن الله تعالى شرع الأحكام لمقاصد؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى الكبرى»: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها». وقال الإمام الشاطبي في «قواعد الأحكام»: «إن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخرى، هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت من أجلها(3).

والفوائد التي تعود على طالب العلم من معرفة المقاصد كثيرة: منها: أنها تجعل عنده التصور الكامل للإسلام فتتكوَّن لديه النظرة الكلية الإجماليَّة لأحكامه وفروعه؛ ومن ثَمَّ تتحدَّد له بشكل عام ما يدخل في التشريع وما يخرج منه فكل ما يُحقِّق مصالح الناس في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة فهو من التشريع؛ وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر والاضطراب والمشقة فهو ليس من التشريع؛ بل منهي عنه. ‏

يقول ابن القيم رحمه اللّه: «إنَّ الشريعة مَبْناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة؛ وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة؛ وإن أُدخلت فيها بالتأويل: فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه. وظله في أرضه؛ وحكمته الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها»(4).

كذلك تبين معرفة المقاصد الأهداف السامية والغايات الجليلة التي يرمي إليها التشريع الإسلامي؛ ولمعرفة مقاصد التشريع أهمية كبرى عند العالم والفقيه؛ فهي تنيره في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والفرعية: وتعينه على فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الواقع؛ وترشده عند تحديد مدلولات الألفاظ ومعانيها لتعيين المعنى المقصود منها، وتعينه كذلك على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية أو الجزئية في الفروع والأحكام (5).

تقسيم المقاصد بحسب المصالح:

حصر علماء الأصول مصالح الناس وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة لتحقيق هذه المصالح بأقسامها الثلاث. وهي:

1- المصالح الضروريَّة: وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية. كما يتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة؛ وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختلَّ نظام الحياة وكسدت مصالح الناس».

وتنحصر هذه المصالح في خمسة أشياء هي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال (6).

2 - المصالح الحاجيَّة: وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة. وتدفع عنهم المشقة. وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة: وإذا فقدت هذه الأمور لا يختلُّ نظام حياتهم ولا يتهدَّد وجودهم ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجيَّة للناس لترفع عنهم الحرج وتيسر لهم سبل التعامل وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضروريَّة (7).

3 -المصالح التحسينيَّة: وهي الأمور التي تتطلَّبها المروءة والآداب ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه وأكمل أسلوب، وإذا فُقدت هذه الأمور فلا تختلُّ شؤون الحياة ولا ينتاب الناسَ الحرجُ والمشقةُ، وهذه الأمور التحسينيَّة ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة والأذواق الرفيعة وتكمل بها المصالح الضرورية والحاجية (8).

ومنهج التشريع الإسلامي لرعاية هذه المصالح ينبني على أمرين أساسيين:

أ- الأحكام الشرعية التي تُؤمِّن إيجاد هذه المصالح وتكوينها.

ب- الأحكام الشرعية التي تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها.

ولقد نزلت آيات الأحكام التي تُوجد هذه المصالح وتحفظها وتصونها وباستقراء جهود علماء الأصول وجدنا أنَّ أهم القواعد الفقهية التي من خلالها يتمُّ ترجيح أحد الأحكام والمصالح على بعض:

- الضرورات تبيح المحظورات.

- يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

- يُرتكب أخفُّ الضررين لاتقاء أشدِّهما.

- المشقة تجلب التيسير.

- الحرج مرفوع شرعا.

- الحاجيات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات.

- الضرر لا يزال بضرر.

- دفع المضار مُقدَّم على جلب المنافع.

- درء المفاسد أولى من جلب المصالح (9).

الهوامش

(1) القاموس المحيط 337/1 – المصباح المنير 692/2.

(2) مقاصد الشريعة الإسلامية. محمد الطاهر بن عاشور.: ص13.

(3) موسوعة قضايا إسلامية معاصرة؛ أ. د. محمد الزحيلي 5 / 631.

(4) إعلام الموقعين عن رب العالمين؛ ابن قيم الجوزية: 3 / 4.

(5) علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف. مقاصد الشريعة ص15 وما بعدها.

(6) المستصفى؛ أبو حامد محمد الغزالي: تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي 1 / 286.

(7) المرجع السابق: 1 / 290.

(8) الموافقات: الشاطبي؛ تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان 2 / 6.

(9) موسوعة قضايا إسلامية معاصرة أ.د. محمد الزحيلي 5 / 651.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين