السلام في الإسلام

من خطب الشيخ: مجد أحمد مكي

هاتان الخطبتان اللتان ننشرهما في الموقع هما الخطبة الثانية والثالثة اللتان ألقيتهما في جامع السلام بحلب بتاريخ 8/ربيع الآخر1398هـ الموافق 17/آذار /1978م. وقد استوحيت عنوانهما وموضوعهما من اسم الجامع ، وقد قام الأخ الحبيب طارق قباوة بصفهما وعانى مشقَّة في ذلك ، بسبب نعومة الخط ودقته الذي كنت أكتب فيه ، وتزاحم الأسطر ، وكنت أظن أن هذه الخطب ستبقى منسيَّة حتى نهض الأخ الكريم بنشرها ، ونظرت فيها وصحَّحتها ولم أتدخل فيها بالتغيير ، لتعبِّر عن تلك المرحلة العلمية والدعوية التي سلكتها ، وانتهجت سبيلها ، سائلاً المولى سبحانه أن يتقبل منا ، ويتجاوز عن تقصيرنا ، ويردنا إلى بلادنا أعزة كراماً ، بعد أن غُيِّبنا عنها أكثر من ثلاثة عقود ، والله يستعملنا في طاعته ، ويتولانا بما يتولى به عباده الصالحين.
* * *
الإسلام شريعة السلام، واسم الإسلام نفسه مشتق من صميم السلام. والمؤمنون بهذا الدين لم يجدوا لأنفسهم اسماً أفضل من أن يكونوا المسلمين:[ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] {الحج:78}.
وتحية أهل الإسلام فيما بينهم: السلام، وختام الصلاة عندهم: سلام على اليمين وسلام على اليسار، كأنهم يبدؤون أهل الدنيا من كل نواحيها بالسلام بعد أن فارقوها بخواطرهم لحظات، انصرفوا فيها لمناجاة الملك العلام، وقد نزل القرآن في ليلة كلها سلام تحفُّ به ملائكة السلام:[تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ(5) ]. {القدر}..
وأفضل ما يلقى الله به عباده تحية السلام:[تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا] {الأحزاب:44} .
وخيرُ ما يستقبل الملائكةُ به الصَّالحين من عباد الله في الجنَّة السلام: [وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] {الرعد:24} .
والجنة نفسها اسمها دار السلام:[لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {الأنعام:127}.
[وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {يونس:25}.
والله تبارك وتعالى اسمه السلام:[هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ] {الحشر:23}.
ولن يتأخَّر المسلم عن الاستجابة لدعوة السلام:[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {الأنفال:61}. [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا] {النساء:94}.
التدريب العملي على السلام:
وليست في الدنيا شريعة دينية ولا نظام اجتماعي فَرَض السلام تدريباً عملياً، واعتبره ركناً من أركانه كما فرض الإسلام تدريب النفس على السلام بالإحرام في الحج، فمتى أَهَلَّ المسلم فقد حَرُم عليه منذ تلك اللحظة أن يقصَّ ظفراً، أو يحلق شعراً، أو يقطع نباتاً، أو يعضد شجراً، أو يقتل حيواناً، أو يرمي صيداً، أو يؤذي أحداً بيد أو لسان:[ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ] {البقرة:197}. فهو بهذا الإحرام أصبح في سلامٍ مع نفسه ومع غيره من إنسان أو حيوان أو نبات.
ففكرة السلام في الإسلام فكرةٌ أصيلةٌ عميقةٌ تتصل بطبيعته وبفكرته الكلية عن الكون والإنسان والحياة.
شمول السلام:
ولا يتمُّ الحديث عن السلام حتى نشير إلى المجال الذي يعمل فيه الإسلام.
إنَّ الإسلام بطبيعته الكليَّة في النظرة إلى الحياة لا يُجزِّئ السلام، ولا ينشده في حقل مفرد من حقول الحياة. إنما يجعل السلام كله وحدة، ويحاول تحقيقه في كل حقل، فهو السلام الذي يحقِّق كلمة الله في الأرض.
إنَّ الإسلام لا يبدأ في مجال السلام الدوليِّ، فتلك نهاية المرحلة لا بدايتها وما السلام الدولي إلا الحلقة الأخيرة التي تسبقها حلقات.
إنَّ الإسلام يبدأ محاولة السلام أولاً في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة، ثم في وسط الجماعة، وأخيراً في مَيْدان الأمم والشعوب.
السلام  في ضمير الفرد:
لا سلام لعالمٍ ضميرُ الفرد فيه لا يستمتع بالسلام.. في ضمير الفرد يغرس الإسلام بذرة السلام، فيعترف للفرد بوجوده، ويعترف للجماعة بمصالحها، وللإنسانية بحاجاتها.
وضوح العقيدة الإسلامية:
1 ـ يعقد الإسلام السلام بين المنطق الإنساني والعقيدة الدينية منذ الخطوة الأولى، فالإسلام عقيدة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض، ولا ألغاز ولا مُعمَّيات... فبهذه النصاعة و الوضوح يعقد الإسلام السلام بين منطق الفرد وعقيدته، فلا يثور في نفسه ذاك القلق المُضْني الذي تثيره النصرانية الضالة واليهودية المحرفة ونظائرها من العقائد التي تمتزج فيها الحقيقة بالأسطورة.
ضرورات الحياة والأشواق الروحية:
2 ـ كذلك يعقد الإسلام السلام بين ضرورات الفرد الملحَّة، وأشواقه الروحيَّة المرفرفة، فيعترف الإسلام بضرورات الحياة الأصليَّة الكامنة في البشر، ويدعو إلى التطهُّر الروحي الذي لا يعني كبت الدوافع وإرهاق الطاقات، ومن ثمَّ فالإسلام ينسِّق الدوافع الحيويَّة في بنية البشر مع الأشواق الروحية العميقة، ويصوغ من كلتيهما وحدةً لا تفريط فيها ولا إفراط، ولا صراع ولا اصطدام.
دوافع الخطأ وفتح باب التوبة:
3 ـ ولا يقف الإسلام عند حدِّ الاعتراف للفرد بضروراته وأشواقه، بل يعترف للفرد بدوافع الخطأ والخطيئة، ويفتح باب التوبة ليدلف إليه من يشاء، ليستغفر ويتطهر، فلا يطرده من رحمة الله طارد، ولا يوصد دونه ودون الله باب، ولا يقوم بينه وبين ربِّه عزَّ وجل وسيط.
فإذا ما انزلق الفرد إلى الخطيئة، فهنالك الطريق، وهنالك اليد الحانية الرحيمة، يد التوبة النديَّة، تمنحه البُرء والعافية، وتغمره بالروح والظلال:[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}.
التكليف في حدود الاستطاعة البشرية:
4 ـ  ويلاحظ الإسلام ألا يكلف الإنسان فوق طاقته، فالتكليف فوق الطاقة ينتهي إلى الإرهاق والعسر، أو إلى النفور والجماح، أو إلى القلق النفسيِّ الدائم، لذلك يحرص الإسلام أن تكون تكاليفه كلها في حدود الطاقة البشريَّة، وفي ذلك يقول الله تعالى:[لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}.[ َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78}.
وروى أحمد في مسنده(12579) عن أنس قال  صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق).
ويشبه المتشدِّد المرهق لنفسه بالمسافر الذي يهلك راحلته ولا يبلغ غرضه: (إنَّ المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) رواه البزار 1/57، والبيهقي في الشعب (3886) والسنن(1/19)..
وهكذا لا يكلِّف الإسلام نفساًَ إلا وسعها، فلا تنكل عن التكاليف، ولا تنوء عنها، ولا تبقى قلقة ممزقة بين التكليف والطاقة، بل تنعم بالاستجابة، وتطمئن بالطاعة.
الركون إلى الله سبحانه والاطمئنان إليه:
5 ـ ويسكبُ الإسلام في النفس السكينة والأمن والسلام، بالركون إلى الله تعالى، والاطمئنان إلى جواره، والثقة في رحمته وحمايته، وفي ظلِّ هذه الصِّلة يحسُّ الفرد أنه يرتكن إلى القوة التي ليس فوقها قوة، وهي دائماً حاضرة يركن إليها ويستجلبها:[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] {البقرة:186}.
وفي ظلِّ هذه القوة تتضاءل قوى الأرض جميعاً، وتتساقط أغشية العظمة الكاذبة والجبروت الزائف، ويبدو الأقوياء والأغنياء وأصحاب النفوذ والسلطان أقزاماً لا يملكون لإنسان ضراً ولا نفعاً: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا] {التوبة:51}. فكل قوى الأرض لا تقدر على ذبابة:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ] {الحج:73} .
وفي ظلِّ هذه القوة يأمن الفرد على رزقه ومكانته، وعلى حياته وسلامته لأنه مطمئن إلى الله يستمدُّ منه:[قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {آل عمران:26}.
فإذا تكاتفت قوى الأرض جميعاً لتُلحق به الأذى فما هي بقادرة إلا أن يشاء الله، فإذا شاء الله أن يناله الأذى، فهنالك حكمة سابقة، وهناك خيرٌ أعلى من خير الفرد:[ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}. وبذلك كله تطمئنُّ النفس وتسكن وتثق، فلا تهزُّها الأحداث، ولا تذهب بها الأهوال.
ضمانة الحياة:
6 ـ ولكي يحقِّق الإسلام السلام في عالم الواقع، يوفِّر الإسلام الأمن والضمانات.
 وأولى هذه الضمانات: ضمانة الحياة:[وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ] {الإسراء:33}. [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] {النساء:93} .
 
وقتل نفس يعدل قتل الناس جميعاً:[ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32}. والإسلام قرَّر القصاص في حالة العمد:[ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] {الإسراء:33}.
ولكن عندما يغيب الإسلام عن العالم يصبح قتل النفس كشربة ماء. وفي عصرنا هذا عصر المدنيَّة، تجد هذه الحقائق: فقد قتل في روسيا لتحقيق الشيوعية تسعة عشر مليوناً، وحكم على مليونين بعقوبات فادحة مختلفة، ونفي عن البلاد خمسة ملايين نسمة فماذا تعني هذه الأرقام؟
ماذا يعني اغتيال السُّود في أمريكا وجنوب أفريقية؟ وماذا تعني المذابح الجماعية؟ وماذا تعني المجازر في البلدان التي يتصارع أهلها على السلطة؟ ماذا تعني القصور المبنية من الجماجم؟ إن هذا كله يعني أن النفس البشرية لا قيمة لها، وحيث يكون الإسلام تكون النفس بسلام.
ويلي ضمانة الحياة، ضمانة العرض والنَّسلوالمال، فقد روى مسلم(4650): (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله).
ضمانة العرض والنسل:
وأما ضمانة العرض والنَّسل فقد تضمَّنتها عقوبات الزنى والقذف:[الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {النور:2}.
فلن يحفظ على الإنسان عرضه ونسله إلا الإسلام ونظرة عابرة لما عليه الحضارة الغربية اليوم يتبيَّن بوضوح إلى أين يسير النسل البشري؟! ففي فرنسا لا تزال تهبط نسبة المواليد منذ ستين عاماً متوالية، وفي السويد انخفاض مستمر في نسبة المتزوجين وارتفاع مستمر في نسبة عدد ا لمواليد غير الشرعيين، وفي أمريكا يسقط مليون حمل على أقل تقدير في كل سنة ويقتل الآلاف من الأطفال فور ولادتهم، إنه لا ضمانة للعرض والنسل ولا سلام إلا إذا كان الإسلام.
ضمانة المال:
وأما ضمانة المال الذي يبيِّن الله تعالى شدَّة حُبِّ  الإنسان له:[وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ] {العاديات:8}. [وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا] {الفجر:20}.
لقد حفظ الإسلام المال وجعل عقوبة السارق قطع اليد:[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {المائدة:38}.
أما في المجتمع الشيوعي فلا تسل عن حقِّ التملك فهو وحقُّ الحياة مهدران، وفي المجتمع الرأسمالي يُحفظ على الإنسان ماله ظاهرياً ويُسرق منه حقيقة بالربا والاحتكار والاستغلال، وهضم حقوق الفقراء.
 إنَّ مال الإنسان لا يحفظ للإنسان إلا بالإسلام، وبهذه الضمانات تتوفَّر أسباب السلام، لأنه لا سلام لعالمٍ لا يستمتع فيه الإنسانُ بالسلام.
سلام الأسرة:
ويقيم الإسلام السلام في البيت الذي في ظلِّه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة...
والفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام، لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوَّق له طعماً، ولن يكون عامل سلام وفي أعصابه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه اضطراب.
1 ـ يتَّجه الإسلام إلى بذر بذور السلام في البيت بتصوير العلاقة البيتية تصويراً يشعُّ منه التعاطف، وترفُّ فيه الظلال، ويشعُّ فيه النَّدى، ويفوحُ منه العبير:[وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {الرُّوم:21}.
2 ـ ويحيط الإسلام هذا المحضن بكلِّ رعايته وتنظيماته فلابدَّ من هذا الرباط من الرضى والاستئذان، فلا تُزوَّج المرأة بغير إذنها ورضاها. فقد روى البخاري (5136)،ومسلم(1419): (لا تنكح البكر حتى تُستأذن، ولا الثيِّب حتى تستأمر، قالوا يا رسول الله: كيف إذنها ؟ قال : أن تسكت).
النفقة وقيام الأم بوظيفتها الأساسية:
3 ـ ولكي يهيِّئ الإسلام للبيت السلام، أوجب على الرجل النفقة، كي يتاح للأم من الجهد والوقت ما تُشرف به على فراخها، فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تُنشأه امرأة، وأَرَجُ البيت لا يفوح إلا أن تُطْلِقَهُ زوجة، وحنانُ البيت لا يشعُّ إلا أن تتولاه أم.
العفَّة والطهر:
4 ـ وفي سبيل السلام البيتيِّ وإشاعة الثقة حتى يبقى البيت النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة، ولا يتبجَّح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا تتلفَّت فيه الأعين على العورات، ولا ترفُّ فيه الشهوات على الحُرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس، وعَرَامة اللحم والدم، لذلك كان النَّهيُ عن التبرج والاختلاط حتى لأمهات المؤمنين، أطهر نساء الأرض، وأطهر بيت في أطهر زمان:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ] {الأحزاب:59}. [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] {الأحزاب:33} .
[قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)]. {النور}..
في مثل هذا البيت تأمنُ الزوجةُ على زوجها، ويأمنُ الزوجُ على زوجته، ويأمن الأولياء على حُرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم، فترف على البيت أجنحة السلام والطهر والأمن.
الطلاق صمَّامة أمن وسلام:
5 ـ ومن أجل السلام البيتيِّ كان الطلاق صمَّام الأمان وأبغض الحلال إلى الله، ولكن تُبيحه الضرورة والحاجة لتحقيق السلام في جوِّ البيت حين يعزُّ السلام.
ولا يسرع الإسلام إلى رباط الزوجيَّة المقدَّس فيفصمه لأول وهلة ولأول بادرة من خلاف، إنه يشدُّ على هذا الرباط بقوة فيهتف بالرجال:[ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] {النساء:19}.
فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام، بل لابدَّ من محاولة يقوم بها الآخرون، وتوفيق يحاوله الخيِّرون:[وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا] {النساء:35}. فإذا لم تُجْد هذه الوساطة فالأمر إذن جد فمن الحكمة التفرقة بينهما عسى أن تثير في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة:[الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] {البقرة:229}.
ذلك هو الطلاق في الإسلام صمَّامة أمن وسلام، ففيمَ إذن تلهج حناجر عابثة بنقد هذا النظام وتشويهه ؟ يقولون: إنه نظام يدع المرأة مهدَّدة بكلمة تخرج من شفتي رجل! أهو كذلك في حقيقته الإسلامية؟ أم إنه صار كذلك بانفلات القلوب من عروة الإسلام، وانفلات المجتمع من نظام الإسلام، وانفلات الحكم من يد الإسلام؟
وإذا تمَّ تقييد الطلاق في مجتمع كمجتمعنا الزائغ المريض فما الذي تبتغيه المرأة بنفسها وبكرامتها؟ أفتريد أن يلفظها الرجل من قلبه فيمسكها القانون عليه؟ أفتريد أن يعبث بطلاقها فلا تطلق وتبقى على العبث مقحمة في الدار؟
تعدد الزوجات:
6ـ وفي سبيل السلام البيتيِّ أباح الله سبحانه تعدُّد الزوجات:[ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً] {النساء:3}. فلا يغفل الإسلام أنَّ هنالك طبائع غير عادية في الرجال لا تكتفي بواحدة، ولابد من أن تتطلع إلى أخرى وأخرى، فإن لم يتيسَّر للرجل هذه الأخرى في عالم الزواج المعلن الشريف، وجدها في عالم الدعارة.. إنَّ تعدد الحلائل خيرٌ من تعدد الخلائل، ولقد أراد الإسلام بهذه الرخصة أن يسود في البيت جوُّ الأمن والسلام.
حقوق الأبناء والآباء:
7 ـ ويتجاوز السلام شخص الزوج والزوجة فيُعنى بسلام الأسرة، وينظِّم العلاقات بينها والحقوق فمن حقِّ الطفولة الرعاية والحفظ:[وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] {الإسراء:31}.
وللوالدين حظهما المقابل من احترام وطاعة وأدب:[وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] {الإسراء: 23 ـ 24}.
هذه دعائم السلام في البيت، ذلك أنَّ الفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوَّق له طعماً، ولن يكون عامل سلام وفي أعصابه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه اضطراب.
سلام المجتمع:
وبعد أن يقيم الإسلام السلام في الفرد والبيت، يقيمه في المجتمع حيث يندمج الفرد والبيت.
1 ـ يبدأ الإسلام في بناء السلام في المجتمع في أعماق الروح وقرارة الوجدان حيث يغرس بذرة الحب، وينسم نسمة الرحمة، فيوقظ فيهم نشأتهم الأولى، ويذكِّرهم بأخوتهم في الله ليكونوا إلى السماحة أقرب وللسلام أدنى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}. وهكذا يربط المجتمع آصرة العقيدة، فتذوب الأجناس والأوطان واللغات والألوان التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان.. أما المؤمنون فهم أقربُ رحماً بحكم أخوتهم في الله، والتقائهم في العقيدة التي هي أوثق من روابط الدم، ووشائج النَّسب:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}.
روى البخاري (5552)، ومسلم(4685) من حديث النعمان بن بشير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى ).
آداب نفسيَّة واجتماعيَّة:
2 ـ ولكي يحقِّق الإسلامُ الحبَّ والصفاء في النفوس والقلوب فإنه يأخذ المسلمين بآداب نفسيَّة واجتماعيَّة التي تُشيع في المجتمع السلام...
إنه يكره الكِبْر والخُيَلاء:[وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {لقمان:18}.
روى مسلم (5109)،وأبو داود(4250) وابن ماجه (4169) عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنَّ الله أوحى إليَّ: أن تواضعوا حتى لا يبغي أحدٌ على أحد، ولا يفْخَر أحدٌ على أحد).
ويُحرِّم الإسلام كل ما يمسُّ كرامات الناس وأحاسيسهم ويلمزهم في مشاعرهم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:12}. 
ولا يقف الإسلام عند الحدود السلبيَّة في هذه الآداب، بل يدفع إلى الصورة الإيجابية منها لاستجاشة شعور الود، وإحداث الألفة، فهو يدعو إلى إشاعة الكلمة الطيبة بين الناس: [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {الإسراء:53}.
ويدعو إلى إفشاء تحية السلام: [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] {النساء:86}. وإفشاء السلام في كلِّ مكان ولكلِّ إنسان، على معرفةٍ أو غير معرفة، تأليفاً للقلوب، وإشاعةً للسلام.
 روى البخاري(5763)عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يُسلِّم الصغيرُ على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير).
 سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ فقال: (تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَنْ عرفت ومَنْ لم تعرف) رواه البخاري(11) ومسلم(56)من حديث عبد الله بن عمرو.
ودعا إلى مقابلة السيئة بالحسنة:[وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34}.
[وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63} .
وهكذا يقومُ الأدب النفسي والاجتماعي بدوره في إشاعة المودة والإلفة في النفوس وبناء السلام في المجتمع في عالم الواقع.
شعور التعاون والتضامن:
3 ـ ثم يربط الإسلام الأفراد في المجتمع برباط المصلحة المشتركة، ويقوِّي في نفوسهم شعور التعاون والتضامن، ويقيم حدود الحرية الفردية عند المصلحة المشتركة، فقد روى البخاري (2313)والترمذي(2099) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين من أسفلها إذا استقوا مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجُوا جميعاً ).
4 ـ والجماعة مسؤولة عن رعاية الضعاف فيها وكفالتهم في أنفسهم وأموالهم: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ(3) ]. {الماعون}.. روى مسلم(3258) وأبو داود(1663): عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من كان معه فَضْل ظهر فليعد على من لا ظهر له، ومن كان له فَضْل زاد فَلْيعد على من لا زاد له).
5 ـ ولتحقيق مبدأ التعاون، حَرَّم الإسلام الربا لما يثيره من الأحقاد في الجماعة، فليس يسحق النفس أكثر من أن يلجأ المحتاج إلى ذي المال، فينتهز الفرصة السانحة والضرورة الملحة، ويفرض على أخيه ضريبة حراماً، وثمناً للمال يتقاضاه: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ] {البقرة:275}. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {البقرة:278}.
6 ـ ولتحقيق مبدأ التضامن، حَرَّم الإسلام الاحتكار ولعن المحتكرين الذين يجنون أرباحهم الفاحشة من دماء المستهلكين، ويشيعوا في الجماعة روح التباغض، ويقتلون بذور التعاون.
 روى مسلم (3013)، والترمذي(1188)،  وأبو داود(2990): ( لا يحتكر إلا خاطئ).
7 ـ وحرَّم الإسلام الغشَّ وتطفيفَ الكيْل والميزان: [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) ]. {المطَّففين1-3}.
8 ـ وفي سبيل التعاون المثمر، أمرهم أن يعتصموا بحبل الله، فيلتقوا عند ذلك المحور، ويجتمعوا بتلك العروة:[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103}. وتلك عقدة العقد، ورابطة الروابط، التي يلتقي عندها الجميع لبناء السلام في المجتمع.
الاطمئنان إلى القانون:
9 ـ ومن الوسائل الأساسية التي يسلكها الإسلام لتحقيق السلام في المجتمع : تنظيم العلاقات بالقانون الذي تطمئنُّ إليه النفوس ، وتحسُّ بينها وبينه بالتجاوب والتعاطف ، وتلمس فيه تحقيقَ مصالحها وأهدافها.
والخروج على القانون ينشأ بالغالب من الشعور بأنه غير عادل لأنه يحقق مصلحة فرد أو طبقة على حساب الآخرين، وللإحساس للغربة بين روح القانون وروح المجتمع، ولمحاولة الفرد تحقيق الشخصية الذاتية. وما من قانون من القوانين يمكن أن يبرأ من هذه العيوب... على حين تقف الشريعة الإسلامية وحدها مبرأة من تلك العيوب جميعاً بلا نظير ولا شبيه... إنه لا مجال لشعور فرد أو جماعة بأن القانون ليس عادلاً لأن المشرِّع هو الله تعالى، ولا مجال كذلك للغربة بين روح التشريع وروح المجتمع لأن الشريعة تلبِّي حاجات النفس والفكر والروح...
وأخيراً: فلا مجال كذلك لشعور الفرد بالحاجة إلى التمرُّد لتحقيق شخصيته والشعور بالاستعلاء لأنه يشعر بأنَّ قوةً أعلى من قوَّة البشر تشرِّع لهم فيشعر بالعزَّة والرفعة... فيتحقق بذلك الأمن والسلام. وصلى الله على سيدنا  محمد وآله وصحبه وسلم.
وتتمة الخطبة حول الحرب والسلام ستأتي بعون الله عزَّ وجل .
المراجع:
في ظلال القرآن، للشهيد سيد قطب
السلام العالمي والإسلام، للشهيد سيد قطب.
الإسلام والسلام، للشهيد حسن البنا.
الإسلام ج 3 ، للشيخ سعيد حوى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين