أذيعت من دمشق في مساء الثلاثاء بعد المغرب 16 من رمضان المبارك سنة 1381، جعلها الله مقبولة لديه. آمين.
أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فعنوان حديثي إليك اليوم: الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم
وهذا الموضوع الجليل لا يتسع له حديث واحد مع قصد الإيجاز والاختصار، فلذا سيكون موضوعَ حديثي في يومين أو ثلاثة.
إنَّ أفضلَ ما يُمنحُهُ الإنسان من المكتسبات النفسية بعد الإيمان بالله تعالى هو العِلْم، ذلك لأن العلم للإنسان في هذا الوجود بمنزلة الروح للجسد، والرسولُ الكريم صلوات الله وسلامه عليه، على أنه أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، قد منحه الله العلم الذي لا يدانيه فيه أحد من البشر، وامتنَّ عليه بقوله سبحانه: ﴿وَأَنْزَلَ اللَهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.
فقام صلى الله عليه وسلم بنشر العلم وإذاعته في الناس، وكان المعلِّمَ الأول للخير في هذه الدنيا، في جمال بيانه، ونصاعة منطقه، وحلاوة أسلوبه، ولطف إشارته، وإشراق روحه، ورحابة صدره، وعظيم انتباهه، وسمو ذكائه وبالغِ رِفْقِهِ بالناس، حتى قال صلى الله عليه وسلم: إنما بُعِثْتُ معلِّماً.
وها أنا ذا أذكر طائفة من الأحاديث الشريفة التي تضمنت من صفات الرسول، المعلمِ الأول، ما يعرِّفُنا بتلك النفس النبوية الكريمة التي صنعها الله لرسالته لتصنع الخير للناس وتبلغ الدين للبشر.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ يحفظه من جلس إليه. وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتُعْقَل عنه.
وإليكم حديثين كريمين يتمثل فيهما رفقه صلى الله عليه وسلم بالمتعلم وتواضعه العظيم، روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت له: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكل أماه، ما شأنُكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتُونني سَكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعدَهُ أحسنَ تعليماً منه، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، لكن قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. وروى الترمذي في الشمائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي إليك حاجة. فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شِئتِ أجلس إليك.
وكان صلى الله عليه وسلم يمهد التمهيد اللطيف الرقيق إذا شاء أن يُعَلِّمَ أصحابَه ما قد يستحيا من التصريح به، روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمُكم، فإذا أتى أحدُكم الغائطَ - أي الخلاء - فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يَسْتطِبْ بيمينه. أي لا يستنجِ بيمينه.
وكان صلى الله عليه وسلم يُلَوِّنُ الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة، فكان تارة يكون سائلاً وتارة يكون مجيباً، وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله، وتارة يزيده عما سأل، وتارة يضرب المثل لما يريد تعليمه، وتارة يلفِتُ السائل عن سؤاله لحكمة بالغة منه، صلى الله عليه وسلم.
وتارة كان يجيب السائل أكثر من سؤاله، فمن جوابه في ذلك ما رواه مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني مُدْلِج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إنَّا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطَهور ماؤه، الحِلُّ ميتتُه. فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المُدلجي البحار عن حكم التوضؤ بماء البحر بأنَّ ماء البحر طهور يصح التوضؤ به، ثم أشفق على ذلك البحار أن يشتبه عليه حكم مَيْتَةَ البحر، وهي شيء يقع له أثناء إبحاره، فبيَّن له أن ميتة البحر حلالٌ أكلُها والانتفاع بها، فقال له زيادة على سؤاله: الحِلُّ ميتته. وهذا من لُباب الخير في أسلوب التعليم واستيفاء ما يحتاجه المتعلم.
وتارة يلفِتُ السائل عن سؤاله، ومن لفته السائل عن سؤاله لحكمة، ما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فقال له الرسول: ماذا أعددتَ لها؟ قال: حُبَّ الله ورسوله. فقال: أنتَ مع من أحببت. فلَفَتَه صلى الله عليه وسلم عن سؤاله عن قيام الساعة التي اختص الله بعلمها إلى شيء آخر، هو أحوج إليه وأفضل نفعاً عليه، وهو إعداد العمل الصالح للساعة، فقال له حين سأله عن الساعة: ماذا أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله. فقال: أنت مع من أحببت.
ومن أسلوبه صلى الله عليه وسلم سائلاً أصحابه ثم مجيباً لهم ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرونَ من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دم هذا، وضَربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه ثم طُرِحَ في النار. فكان في سؤاله لهم أولاً، ثم تبيينه لما هو جواب سؤاله ثانياً: تنبيهٌ للأذهان أن الإفلاس الحقيقي هو الإفلاسُ يوم القيامة، يوم يُـجازى الإنسان على أعماله ويُقتَصُّ من حسناته لكل مظلوم، فإذا لم تَفِ حسناته بمقابل السيئات التي أوقعها على الناس، فحينئذ يؤخذ من سيئاتِ مَنْ أساء إليهم وتُطرح عليه فيعذب بها، فهذا هو المفلس.
وتارة كان صلى الله عليه وسلم يبدأ حديثه بالقَسَمِ بالله تنبيهاً منه إلى أهمية ما يقوله، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَ لا أدلُكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أَفشُوا السلام بينكم. وروى البخاري من حديث أبي شُريح الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن: الذي لا يَأمَنُ جارُه بوائقه. أي شرورَه وأذاه. فما كان هذا القَسَمُ بالله منه صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إلا للتنبيه على أهمية أثر السلام في توثيق الصلة والتحابِّ بين الناس، والتنبيه على شناعة أذى الجار.
وتارة كان يسأل أصحابه عن الشيء وهو يَعْلَمُه، وإنما يسألهم ليثير فطنتهم ويحرك ذكاءهم ويسقيهم العلم في قالب المحاجاة، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مَثَلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ قال عبد الله: فوقعَ الناسُ في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، ورأيتُ في القوم أبا بكر وعمر، ووجدتُني أصغر القوم فسَكَتُّ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. فلما انصرفنا، قلت لأبي عمر بن الخطاب: يا أبتاه وقع في نفسي أنها النخلة. قال: فَلِمَ لم تَقُل؟ قلت: وجدتُني أصغر القوم، ووجدتُ في القوم أبا بكر وعمر فاستحييت. فقال لي: ما منعك أن تقولَها! لو كنتَ قلتَها كان أحبَّ إلي من كذا وكذا.
ومما يقرب من هذا في تحريك الذهن وإذكاء الخاطر ما رواه الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: أن رجلاً جاء إلى رسول الله يستحمِلُه بعيراً من إبل الصدقة ليحمل عليه أمتعة بيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني حاملك على ولد الناقة. فقال الرجل: يا رسول الله، ما أصنعُ بولد الناقة؟ فقال له رسول الله: وهل تَلِدُ الإبلَ إلا النوق. فأفهمه صلى الله عليه وسلم عن طريق هذه المداعبة اللطيفة أن الجملَ ولو كان كبيراً قوياً يحمل الأثقال لا يزال يقال له ابنُ الناقة.
وكان صلى الله عليه وسلم يُعرِّفُ أصحابه جوابَ الشبهة قبل حدوثها، خشية أن تقع في النفس فتستقر بها وتفعل فعلها السيئ، من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فيقول: الله. فيقول له الشيطان: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنتُ بالله، وليستَعِذ بالله وليَنْتَهِ.
هذه نماذج يسيرة من أسلوب تعليمه صلى الله عليه وسلم أكتفي بها الآن إلى موعدنا في مساء الثلاثاء من الأسبوع القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول