الرحيل الموجع والفاجعة الكبرى أحمد كلزية

 

عام مضى على الرحيل المفاجئ للفارس الذي سابق الزَّمن إلى لقاء ربّه ، عام مضى على وداعه ، تتلعثم الألسن ، وتتعثر الكلمات ، وتتصارع المفردات عندما أهمّ بالكتابة عنه ، فهو الساعي الذي يستمدّ منه النشاط ، وشلال المكرمات الذي يُستقى منه الخير ، ونهر العلم والأدب والوقار ، وابن الثورة البار

(أحمد عدنان كلزية)

: ولد ـ رحمه الله تعالى ـ في حلب 1/9/1979 في حلب لعائلة تعود أصولها إلى زين العابدين بن الحسين ـ رضي الله عنهماـ وقد اشتهرت  في أواسط حلب بالعلم والتجارة ، فوالده الحاج عدنان كلزية كان يستعين به مفتي حلب سابقا الشيخ محمد عثمان بلال ـ رحمهما الله تعالى ـ على المسائل الشائكة فقد كان ضليعًا في الفقه الحنفي

في حيّ السفاحية الذي يُعانق فيه شموخ القلعة صفاء الإسلام في الأموي نشأ ، وعلى الاستقامة المتوارثة ترعرع ولسان حاله يقول : (سأكون خير خلفٍ لخير سلف)

بالفطرة الصادقة والمحبة الرائقة للشريعة الغرّاء بدأ مشواره العلمي في المدرسة الشعبانية  فنهل من معينها النقي ورفل قريحته بوابلها الزكي وكان رفيع الهمة ، سريع الحفظ ، متينه ،محبًّا لزملائه ، متعلقًا بأساتذته ومنهم  (الشيخ الشاعر محمد كامل المصري و الشيخ محمد المصري ، ومدير المدرسة الشيخ محمد نجيب سراج الدين وناظرها الأستاذ محمد علي ادلبي وغيرهم ....)

منذ بداية حياته حمل همّ الأمة على كاهله وسار في طريق العلم والعمل به ونشره على طريقة أبيه المتمسك بالمذهب الحنفي المتقن له ، آخذًا العهد على نفسه ألا يأخذ لقاء ذلك أجرًا  

في بداية الثانوية أتمّ حفظ القرآن الكريم وأُجيزَ به من أكابر قراء حلب ومنهم (الشيخ عادل حمصي ، الشيخ أحمد كراسي ، الشيخ أحمد قباني ، الشيخ عمر صيرفي وغيرهم )

لم يكتفِ بذلك بل رحل إلى دمشق وقرأ على مقرئها (الشيخ خليل أحمد هبا) ـ صاحب أقصرسند في القرآن حينها ـ وبدأ بالقراءات من طريق الطيبة ثمّ انتقل إلى المسابقات وحصد الجوائز

ـ مثّل سوريا في عدد من المسابقات الدولية منها (المسابقة العالمية في مكة عام 1999 وصلّى داخل الكعبة ـ حينها ـ مع ثلة من المتسابقين ، ومنها المسابقة الدولية في ماليزيا وغيرها)

ـ تخرّج من الأزهرالشريف (كلية أصول الدين) عام 2003 محرزًا المركز الأول وهو أول سوري يناله في هذه الكلية

ـ في كلية الشريعة /جامعة بيروت  درس تمهيدي الماجستير وبدأ بتحضير الرسالة وهي بعنوان (المنهج النبوي في الحجة والإقناع )

ـ ألّف رسالة في كيفية معرفة رقم الآية أو الصحيفة أو الحزب أو الجزء وهي عبارة عن عمليات رياضية يقوم بها الحافظ لزيادة إتقانه وهي موجودة في مكتبته التي أوصى بها وقفًا لله تعالى بعد وفاته

ـ وضع قاعدة (البيان لتعليم القراءة العربية ورسم القرآن) وهي ثلاثة أجزاء يختص الأول بالحروف والثاني بالجمل والثالث بالتجويد

ـ عمل بالتجارة في عدّة مجالات ..بدأها عصاميًا ، ثم في بضع سنوات أصبح مرجعًا للجميع ـ فيها ـ حتى لمن يكبره بعقود في العمر والخبرة

ـ كان ـ رحمه الله تعالى ـ ليّن الجانب ، بشوش الوجه، سمح الخلق ، عقدة وصل بين الجميع ، يرغَبُ ويُرغِّبُ بالعمل ، يحضّ الجميع على صلة الرحم والتآزر والتكاتف ، شغوفًا بالعلم وأهله كثير الزيارة لهم حافظًا لفرائدهم ، يستغلّ كل لحظة بالمفيد

وقف في إحدى رحلاته وسط مطار (كوانزو) مستغلا وقت انتظار الطائرة يتلو آيات من الذكر الحكيم بصوت عال فخشعت قلوب الحاضرين وصفقوا له شاكرين  رغم أنهم بوذيون ومن إسلامه شيئًا لا يفقهون لكنه هكذا .... كتب الله له ـ في القلوب ـ القبول

ولما سار موكب الحرية  كان من أوائل الصاعدين فيه ، حاملا راية الإخلاص

مادًّا يد المساعدة للجميع دون استثناء (لله ثمَّ خدمة للوطن وأهله ) رافضًا الرحيل عنه كما فعل الكثيرون ، لم يُثنه القصف أو تُخفه الاغتيالات عن الصدع بالحقّ والوقوف في وجه المخالفين

لم تتلطخ يدهُ ولم يشب العكر اسمه ..

ذهب يتفقد عائلة شهيد فآلمه حال الأيتام  فما كان منه إلا أفرغ جيوبه بالكامل بين أيديهم وخرج ، يعيش جلّ أيامه متقشفًا ليقدّم للمحتاجين .

مع الهجمة الشرسة التي استهدفت البلاد وفكر العباد كان يتطلع ويسعى لإنشاء جيل متعلم مثقف متسلح بعقيدة راسخة وإيمان صادق وراح يحثُ الجميع على العلم والعمل ويبذل قصارى جهده في سبيل ذلك

ساهم بتأسيس المكتب التعليمي والمركز الثقافي في دابق واستلم إدارة مدرستها (عقل دابق)

كان عضوًا في المجلس الشرعي لمحافظة حلب ، وعضوًا في رابطة العلماء السوريين

وهكذا بقي في الريف المحرر متنقلا بين شوارع آلامه حاملا رسالة السير في حاجات الناس لا يردُّ سائلا ولا يخيّب أملاً ، نصوحًا ، أمينًا لمبادئه التي آمن بها وعمل عليها إلى أن وافته المنية في تركيا صبيحة السبت 16/رجب / 1440، 23/ 3/ 2019 على غرار أغلب أفراد العائلة الذين يتوفاهم الله في الأشهر الحرم وقد توفي ـ رحمه الله ـ إثر إصابته بحادث سير في ريف حلب الغربي ..طيب الله ثراه، وجعل الفردوس الأعلى مأواه ، وأكرمنا بالسير على خطاه .

 ( رحيل الروح )

فؤادي خاشعٌ بالفقد يُصهَرْ

ودمع العين مدرارًا يُسطَّرْ

حشودُ الذّكريات تزيد ضعفي

على صدري جبال الحزن تُحشَر

مصائبُ لا تبدّلُ في قضاءٍ

ونهر فجيعتي أقوى وأغزر

صراطٌ شقّه ألمٌ عجيب

وأخدود الفراق لنا مُقدّر

فلا قَدَرٌ يعيدُ إليّ خِلاً

ولا موتٌ يُقرّبني فَأُنصَرْ

ولو أنّ العمر للأحباب يُهدى

وهبتكَ يا أخي عمري وأكثرْ

وفوق العمر أدعيةً ونجوى

لسانًا صادقًا بالحبّ يجهر

لك الغالي رخيصٌ لايساوي

لك الأنفاسُ والأرواح تجأر

فمثلك يستحقّ العيش دهرًا

ومثلك لا يعوّضُ ، لا يُكرّر

هنيئا للتراب بحَضن جسمٍ

بهيٍّ ،طاهرٍ والوجه أنور

إلهي إن تكُ الجنات حظّي

فأعطه جنَّتي ،أسعدهُ أكثر

كذا الحسنات فاجعلها إليه

وكلّ قريرةٍ كُتبتْ لكوثر

وأعلِ مقامهُ يوم التّنادي

مع المختار فاحشره ليظفر