الدكتور محمد صالح

الدكتور محمد صالح (1)

(1307-1372هـ)

الفقيه المحقِّق والمسلم الصادق:

إنَّ من الحقِّ على مجلةِ »لواء الإسلام« أَنْ تَنْعى إلى العالمِ الإسلامي عالماً من علماءِ القانون، الذين خدمُوا الفقهَ الإسلاميَّ ورفعُوا منارَه، ونشرُوه وأذاعوا ذِكرَه؛ ذلِكُم هو الفقيهُ الـمُحقِّق، الأستاذُ الدكتور محمد صالح الذي كانَ أُستاذاً للقانونِ التجاريّ، وعميداً لكليةِ الـحُقوق، ووكيلاً للجامعةِ المصريّة.

لقد كانَ الدكتور محمد صالح فقيهاً مخلصاً في طلبِ الحقيقة، ومسلماً صادقَ الإسلام، ومؤمناً كلَّ الإيمانِ بحقِّ الشريعةِ الإسلاميةِ في أَنْ تَذيعَ وتَـنْـتَـشِر، وأن يكونَ الفقهُ الإسلاميّ مَصْدرَ القوانينِ في البلادِ الإسلامية، ويُعتبرُ ذلكَ تقدُّماً وسَيْراً إلى الأمام، لا رَجْعةً إلى الوَراء.

تحبيبه الشريعة الإسلامية إلى طلبة كلية الحقوق:

وفي مدّةِ عمادتِه لكليةِ الحقوق، أدارَ الكليةَ بهذهِ الرُّوحِ السّامِية، فكانَ حريصاً على أنْ يُـحَبِّبَ الشَّريعةَ إلى الطلبة، ويجعلَ لها مكانتَها بينَ علومِ القانون، يُشيدُ بذكرِها في دروسِه، ويقبسُ منها في بحوثِه، ويدرسُها متعمِّقاً في دراستِها، ويُعلنُ محاسنَها بقولِه وقلمِه. وقد تولّى العمادة، وللشريعةِ كرسيٌّ واحد، وبمَسْعَاهُ الحميدِ وهمّتِه العامِلةِ المخْلِصة، كان لها كرسيّان.

وبهمّتِه وإخلاصِه نشأتْ في مدةِ عمادتِه دبلومٌ للشريعة، فوَسِـعَ بذلك دراستُها، وأقبلَ على الدراسةِ في هذا القسم الشرعيّ طلابُ القانونِ في مصرَ والبلادِ الشرقية، وقَصَدوا إليه من كلِّ فجٍّ عميق، وبذلك أسْدى للدراساتِ الفقهيَّـةِ أجلَّ ما يُـقدِّمُه مُـخْلصٌ للفقهِ الإسلامي.

إخلاصه للشريعة وعمله على نشرها:

لقد كان رحِـمَـهُ الله، مخلصاً للشريعةِ الإخلاصَ كلَّه، يعملُ على نشرِها كما جاء بها الكتابُ والسُّنة، وكما اجتَـهَـدَ الفقهاءُ السابقون، وكان يرى فيما استنبطَه الفقهاءُ أعمقَ النظريّات، وأدقَّ القواعد، وأصْلحَ الحلول لمشاكلِ المجتمعِ الإنسانيّ، يطلبُها كما دوَّنها أصحابُها، لا كما يفهمُها الغربيون، ومن يلُـفَّ لفَّهم. وإن الشريعةَ الإسلامية يَدّعي خدمتَها الآنَ كثيرون، ولكن قلَّ فيهم من يكونُ له إخلاصُ الأستاذِ المرحومِ الدكتور محمد صالح، ومَـنْ له فهمُه العميقُ لها، وهضمه لمسائلها، وإدراكُه لِـلُبِّها ومعانيها.

أقسام القانونيين من علوم الشريعة الإسلامية:

لقد وُجِدَ الفقهُ الإسلاميُّ مكتوباً في كتبِ كثيرٍ من كبارِ رجالِ القانون، ومنهم من يدَّعي أنَّـهُ يريدُ نَشْرَ الشريعة، وأنَّـهُ يحملُ لواءَها. وفي الحق أنّـنا نَقسِمُ أولئك القانونيين إلى ثلاثةِ أقسام:

أوّلُهم: من يُـحَمِّلون كتبَهم بالمسائلِ الشرعية لتزدانَ بها تلك الكتب، ويكملُوا موازنتَهم من غير أيِّ إيمانٍ بها، فهم يكتُبونَ المسائلَ الإسلامية، كما يكتبونَ بعضَ شرائعِ الصينِ والهنود، وشريعةَ حمورابي؛ وأولئك لا يدَّعون أنهم ينشُرون الشريعة, ولا يَدْعُون إليها.

وثانيهم: طائفةٌ أرادتْ أنْ تخدمَ الشريعةَ، ولكن على أنْ تكونَ طيِّعةً لأَفكارهم، خاضعةً لأحكامِ قوانيـنِهم، فهم لا يفهمونَها كائناً مستقلاً، لها كيانٌ قائمٌ بذاتِه، ولها حُلولٌ اخْتُصَّتْ بها، لكنْ يرَوْنها خاضِعةً لما يرَوْنه صالحاً من قوانيـنِـهم، ويَتَشكَّكون لهذا في فهمِ الدارسين للشريعةِ من المسلمين، ولا يرَوْنَ الطريقةَ الـمُـثْلى لفهمِها إلّا ما نهجَـهُ الغربيُّون في فَـهْـمِـها؛ فالـمُسْتَـشْرِقُون ولوْ لم يكونوا علماءَ قانون، حُجَّةٌ فيما وصَلُوا إليه من الدراساتِ الفقهيَّـة، يؤخذُ عنهم، ويُـحْتَجُّ بهم؛ ولا يُـحْتَجُّ عندَهم بأقوالِ أحدٍ من علماءِ المسلمين إلا في إحدى حاليْن: إمّا أنْ يكونَ قد درسَ ما قالهُ الغربيّون، وتعمّقَ فيه بلغتِـهم؛ وإما أنْ تكونَ آراؤه كلُّها موافقةً كلَّ الموافقةِ لآرائِهم؛ فإنْ قال لهم شخص: إنَّ الفوائدَ التي تتعاملُ بها المصارِفُ الآن، ليستْ من الربا في شيء، فهو العالم الثَّبْت، وإنْ قال لهم: إنَّ اليانصيب ونحوَهُ ليس مِنَ الميسرِ في شيءٍ، قالوا: إنه الفقيه المحقِّق. وهكذا يريدون الشريعةَ في إهابٍ يحبُّونه، ومنطقٍ يريدونه، ولو تَـبَاعدَ ذلك عن يبنوعِها، وأولئك هم الذينَ نعتقدُ أن من رحمةِ الله بالشريعةِ أنْ يكُـفَّهم عنها، ويحفظها منهم، ويحميَها دونَهم، واللهُ من ورائِهم محيط.

والقسمُ الثالث: أولئك الذين أخْلَصوا للشريعةِ، وفهِموها حقَّ فهمِها، وعرفوها حقَّ المعرفة؛ ولم يعرِفوها إلّا من ينابيعِها، وعلموا أنّ الدَّارسين لها من الغربيين الذين علِموا العربية، إما أنهم لم يفهموها لأنها تدُقُّ عن فهمِهم، لأنها قانون، وليسُوا قانونيين؛ وإمّا لأنهم أرادُوا أن ينشُروها شائهة، ولا يرجونَ لها وقاراً؛ وهم في الحاليْن ليسوا حُجَّةً تُـتَّـبَعُ أقوالُهم؛ وعلى رأس هذا القسم محمد صالح؛ وإنه ليذهبُ به فَرْطُ حرصِه على الفكرِ الإسلامي مِنْ أنْ يُـشَـوَّهَ إلى أنْ يَظنَّ أنَّ مَنْ يدرسُ في الغربِ بعدَ أنْ يدرسَ الشريعةَ الإسلاميةَ من ينابيعِها في الشرق، لا يستفيدُ شيئاً في دراستِـهِ الشرعيَّـة، بل إنه قد صرَّح لكاتبِ هذه السطور مرة أنَّـه يفسُد تفكيرُه في الشريعة.

خسارة الشريعة والجامعة والقانون والأخلاق:

لقد خسرتِ الشريعةُ الإسلاميةُ بموتِ المرحومِ الدكتور محمد صالح نصيراً قوياً، ومُخلصاً مؤمناً، وخَسِرَ العلمُ بوفاتِه عالماً محققاً عميقَ النظرة، صادقَ الفكرة؛ يغوصُ على الحقائق، ثم يُـبرِزُها للناسِ في حُـلَّةٍ قَشيبة.

ولم يعلمِ الذين درسُوا القانونَ التِّجاري، عالماً كتبَ في القانونِ التجاريّ خيراً منه؛ أبرز حقائقَه، وضمَّـنَ ما كَـتَبَ الأَحكامَ التي اسْتَـنْبطَها فقهاءُ المسلميـن في موضوعِه، وأعلنَ خواصَّها ومزاياها في قلم مُصوِّرٍ مُبيِّن.

وخسرتِ الجامعةُ عالماً جامعياً، انصرفَ للعلمِ انصرافَ الزّاهِدِ للعِبادة، فعاشَ طالباً للحقيقة، وماتَ وهو يطلبُها.

وخَسِرَ القانونُ فقيهاً مشْتَرِعاً، فقد وَضَعَ مشروعَ القانونِ التجاريّ، وكتبَ مُذَكِّرتَـهُ الإيضاحية، وأوْفى فيه على الغاية، ولكنْ لكلِّ أجلٍ كتاب، فقد ماتَ قبلَ أنْ يُقدِّمَه هو للملأ في هذه الأمة.

وخسرتِ الأخلاقُ والفضيلةُ رجلاً يؤمنُ بالحقّ، ويؤمنُ بالله، ويؤمنُ بالفضيلة، ويؤمنُ بالوفاء، ويأخذُ عندَ ما تشتدُّ الأمور، ويَـحْـكُم الشُّحَّ والهوى بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

رحمَ الله محمد صالح، وجزاهُ بأكثرَ من عملِه، وأثابَه ثوابَ الـمُخلِصين، إنه سميعُ الدعاء.

المصدر : كتاب أعلام وعلماء بعناية المشرف على الموقع الشيخ : مجد مكي

([1]) مجلة »لواء الإسلام«: العدد الثاني عشر، من السنة السادسة: 1372هـ = 1953م. وله ترجمة في «الأعلام» للزركلي 6: 21، واسمُه هناك: محمد بن عبد العليم صالح.

نشرت 2009 وأعيد نشرها وتنسيقها 24/6/2019