الداعية الشاعر محمد منلا غزيل

 

1355 ـ 1437 هـ

1936 ـ 2016 م

 

الأستاذ الشيخ محمد بن منلا عبد المولى بن محمد درويش غزيل( ).

داعية، مفكر، وأديب ملتزم، وشاعر إسلامي كبير.

ولد الأستاذ المترجم في مدينة منبج( )، في شهر شوال، من سنة: خمس وخمسين وثلاثمئة وألف للهجرة، الموافق لشهر كانون الأول، من عام: ستة وثلاثين وتسعمئة وألف للميلاد، ونشأ في أحضان أسرة بسيطة ملتزمة بأهداب الدين، وعندما بلغ السابعة من عمره، أرسله والده إلى كُتَّاب الشيخ يوسف، فتلقى فيه مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل إلى جامع الشيخ عقيل، وفيه حفظ القرآن الكريم، وكثيراً من الشعر العربي، وأتقن الكتابة والخط على يد أستاذه الشيخ عبد الرحمن الداغستاني، مما أتاح له الدخول إلى الصف الثاني مباشرة في مدرسة (نموذج منبج)، وفي هذه المرحلة من حياته بدأت تظهر مواهبة الشعرية، فكانت أول تجربة شعرية له وهو في الصف الخامس الابتدائي، في قصيدة تغنى بها ببلدته (منبج)، وأنهى تعليمة الابتدائي بتفوق ملحوظ، مما أهله للنزول إلى مدينة حلب، ليتم دراسته الإعدادية في ثانوية المأمون ، ثم تابع دراسته في حلب، فأتم المرحلة الثانوية في ثانوية المعري، ثم في ثانوية سيف الدولة، وأخيراً في ثانوية إبراهيم هنانو، ومنها حصل على شهادة الدراسة الثانوية الأدبية، (فرع الآداب واللغات)، سنة: 1957 م. وفي ثانوية المأمون التقى عدداً من شيوخ حلب ومربيها، منهم الشيخ أحمد عزالدين البيانوني، والأستاذ إسماعيل حقي، والأديب القاص فاضل ضياء الدين، وغيرهم من أساتذة حلب الكبار.

وقد جذب الأنظار إليه حين بدأ ينشر في الصحف والمجلات مما تنبأ له أساتذته مستقبلاً باهراً في عالم الشعر، وأطلق عليه أستاذه إسماعيل حقي لقب (البحتري الصغير)، وكان سعيداً بهذا اللقب، فبدأ ينشر ويوقع به، وأول مجلة نشرت له تحت اسمه ولقبه كانت مجلة (الصاحب) البيروتية، فنشرت له قطعة من الشعر المنثور بعنوان (مع الطبيعة)، ثم تتالى نشره بهذا اللقب في عدد من الصحف والمجلات المحلية السورية.

 انتقل بعدها إلى دمشق ليتابع دراسته في كلية الآداب (قسم اللغة العربية) في جامعة دمشق جامعة دمشق، وتابع دراسته في هذه الكلية، إلى أن تخرج فيها، عام: 1961م، حاصلاً على شهادة (الإجازة في الآداب قسم اللغة العربية). انتسب بعدها إلى كلية التربية في جامعة دمشق، وحصل منها على شهادة أهلية التعليم الثانوية (دبلوم التربية العام)، عام: 1962 م.

عاد بعدها إلى مدينة حلب، وعمل في مجال التدريس مدة من الزمن حتى أحيل إلى التقاعد لأسباب صحية، عام: 1969 م، انصرف بعده ذلك إلى الإنتاج الأدبي وتدريس بعض الساعات في اللغة العربية تكليفاً، حتى عام: 1977 م، اعتزل بعدها التدريس تماماً.

ومع ما حصله المترجم من العلوم والثقافة على أساتذته في مختلف المراحل التعليمية التي مرّ بها ولا سيما في ظل بعض الأساتذة الموهوبين أمثال الأستاذ فاضل ضياء الدين ، الذي كان له تأثيره الخاص عليه، و تشجيعه لاقتحام الميدان الأدبي بجدارة، إلا أن ثقافته الواسعة حصل عليها من كثرة قراءاته للكتب في مختلف العلوم والثقافات، فهو قارئ مطالع من الدرجة الأولى، عرف بكثرة مطالعاته وقراءاته؛ فكان يتردد كثيراً منذ شبابه إلى المركز الثقافي في مدينة (منبج)، ودار الكتب الوطنية في حلب، ليقرأ ألواناً مختلفة من الثقافات التاريخية والدينية والأدبية ودواوين الشعراء القدماء والمحدثين، فكان لذلك الأثر العميق في تنمية موهبته الفطرية المتألقة والمتميزة، وزيادة انتاجه الشعري الخصب، فهو من عشاق القراءة، إذ كان يقرأ كل شيء يقع تحت يديه في الأدب والفكر والفلسفة والتاريخ والسياسة، ويتنقل بين العلوم الإسلامية جميعها، وله صحبة طويلة مع الكتاب منذ طفولته، التي قرأ فيها كل انتاج الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، وغيره من أدباء عصره، وظل على هذا المنهج حتى آخر حياته، فكل وقت لا يكون فيه متكلماً أو مشغولاَ بحاجاته الضرورية، يشغله بالقراءة.

 ومكتبته حاضرة في ذهنه يستحضر منها ما يشاء ومتى شاء، فهو لا يمتلك مكتبة في بيته، ولكنه جعلها في قلبه وعقله، فهو صاحب ذاكرة قوية عجيبة، يحفظ أسماء الكتب وأسماء المؤلفين وكأنها أمامه بهذا الزاد العلمي خاض المترجم غمار الحياة والشعر والثقافة ووظف هذا كله لخدمة دعوته التي آمن بها ونافح عنها وتحمل من أجلها السجن والفقر والاضطهاد.

والشيخ المترجم شخصية متعددة الجوانب فقد جمع مع الفكر والثقافة والأدب والشعر الدعوة إلى الله، ونشر الفكر الإسلامي في المجتمع، فشغل جلّ وقته فيها، وسأقف في ترجمتي له عند هذا الجانب - جانب الدعوة - وأدع جوانب الأدب والشعر للمهتمين بها، فقد كانت الدعوة إلى الله شغله الشاغل، فعمل عليها، وسلك إليها طرقاً ووسائل متعددة أهمها:

1- قول الشعر: فالشعر عنده يجب أن يكون تعبيراً صادقاً عن نفس قائله، شريطة أن تتعلق اهتمامات النفس بمعالي الأمور دون سفاسفها وترّهاتها .. ويسلك التعبير مبيناً عن ذلك مسالك شتى سلباً وإيجاباً هدماً أم بناء، وليست مهمة الشعر - تصويراً وتعبيراً - أن ينافس الواعظين في توجيههم النبيل، لأن الواعظ يناسبه التفصيل والتبسيط، أما الشعر فهو لغة الإيماء والإيحاء والتلميح، ولنستمع منه هذه الأبيات من قصيدته الحرف والمعركة:

 

رسالة الحرف تأبى أن نضيعها= سدى هباء مع الأوهام لاهينا

لا لن نمرغ في الأوحال فطرتنا= ما دام نور كتاب الله يهدينا

 

2- المباشر مع الناس: في مجالسهم في المناسبات المختلفة في الأفراح أو في مجالس العزاء، أو في المناسبات الدينية في المساجد وغيرها، فقد كان المترجم علماً من أعلام الدعوة في هذه المجالس، له حضوره الكبير وجهوده المتميزة، يحرص أن يكون في كل مجلس، ليلقي كلمة ينتظرها الناس لينهلوا من علمه وحكمته، يبدأ حديثه بآية من كتاب الله، أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ يشرحه مفصلاً الجوانب العلمية والتربوية فيه، وما يستفاد منه في هذا المقام، وهنا تظهر شخصيته الدعوية وثقافته الواسعة التي تجذب القلوب والنفوس إليه وإلى كلماته المؤثرة في الحضور، الذين عرفهم واطلع على جلّ أحوالهم، فيجذبهم إليه ليغرس فيهم قيم الإسلام ومبادئه السامية، مستعينا بمخزون ضخم من الحكم والأمثال مطعماً ذلك بأبيات من شعره العذب المناسب للمقام.

3- لقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العلمية والفكرية والأدبية والحوارات الاجتماعية: يستغلها ليبث فكره ودعوته، فكان لا يخلو يوم من أيامه من مناسبة أو أكثر يكون فيها محاضراً أو مشاركاً أو متكلماً وداعية، وربما حضر في يوم واحد أكثر من ندوة أو محاضرة أو مناسبة اجتماعية.

4- مراعاة أحوال المتلقين: فهو يتكلم بالعلم والأدب والحكمة بما يجعل كلامه قريباً من جميع الناس على اختلاف مستوياتهم المعرفية، ويمتلك قدرة كبيرة على تبسيط الأفكار، فربما تكلم في مسألة تعتبر من دقائق المسائل فبسطها إلى درجة يفهمها الإنسان العامي فضلاً عن المثقف، ولكن هذه القدرة على التبسيط تقابلها قدرة لا تقل عنها في الارتقاء بمستوى الكلام إلى درجة لا يفهمها إلا أهل الاختصاص وأصحاب الشهادات العلمية العالية.

5- الوسطية والتوفيق بين التراث والمعاصرة: متخذا من قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)  وقول سيدنا علي رضي الله عنه: (خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق به التالي ويرجع إليه الغالي، اليمين مضلّة والشمال مضلّة والجادة هي الوسطى)( ) فالوسطية عنده هي التي تجمع بين المحاسن كلها، وهي ما يتحراه في موقفه الحضاري موفّقاً بين الولاء للتراث والسير في ركاب المعاصرة.

6- اهتمامه بالشباب والطلاب: وطلاب العلم خاص، فهو دائم التواصل معهم، يشجعهم على متابعة العلم والبحث والحوار وتبادل الآراء والأفكار، فقد تعود طلاب العلم والباحثون على أن يكون المترجم معهم في مجالسهم، فإذا استعصت عليهم مسألة في العلم، أو أرادوا كتاباً أو معلومة، سارعوا إليه ليحل لهم ما استشكل عليهم، ويدلهم على مكان المسألة في الكتاب، وربما ذكر لهم رقم الجزء والصفحة وحتى السطر، وقد نهج في دعوته للشباب والطلاب مناهج متعددة منها:

• منهج السؤال والجواب: يشد به انتباه طالب العلم، بهدف ترسيخ العلوم في النفس، وتشجيع طلاب العلم على البحث والدراسة، وسلوك سبيل الحوار وتبادل الآراء وتوصيل الأفكار بشكلها الصحيح، فكان يطلب من أحد طلاب العلم الموجودين في أي مجلس من المجالس التي يحضرها أن يسأله ، لبيادر بالإجابة بعيداً عن المسائل الخلافية أو دقائق الفقه ، بل يركز إجابته في الفكر والدعوة والحضارة، فكان لهذه الطريقة الأثر النافع بين طلاب العلم، وبث الحيوية في مجالسهم، وتحويلها من مجالس للقيل والقال إلى مجالس للعلم والسؤال، فكان لهذا المنهج أثره الطيب على نفوس طلاب العلم.

• منهج الإهداء: لم يقتصر اهتمام المترجم بطلاب العلم على تقديم العلوم اللازمة لهم، بل كان يتخير الكتب المفيدة، والأشرطة المسجلة، و(السيديهات) المناسبة، ويقدمها لهم هدية مع ما كان يعاني من الحاجة وشظف العيش، وذلك لجذبهم وتأليف قلوبهم وتحبيبهم بالعلم والدعوة، فكان كلما رأى طالب علم رافقه إلى أقرب مكتبة، ليشتري له كتاباً أو شريط كاسيت أو سيدي حاسوب، أما هو فكان لا يحتفظ لنفسه بأي كتاب أو مجلة، فمكتبته حاضرة في ذهنه، يستحضر منها ما شاء متى شاء.

ترك الشيخ الشاعر عدداً من الدواوين الشعرية، والأبحاث والكتب النثرية، والقصص والروايات الأدبية نذكر منها:

1- في ظلال الدعوة، صدر في حلب، عام: 1956م.

2- الصبح القريب، صدر عام: 1959م، وقدم له الأستاذ عصام العطار.

3- الله والطاغوت، صدر عام: 1962 م.

4- اللؤلؤ المكنون، صدر عام: 1962 م.

5- طاقة الريحان، صدر عام: 1974 م.

6- البنيان المرصوص، صدر عام: 1975 م.

7- اللواء الأبيض، صدر عام: 1978 م.

8- الأعمال الشعرية الكاملة، طبعت عام: 1978 م، وفي عام 2007 م، قام الأستاذ الشاعر حسن نيفي بإعادة طبع أعمال المترجم الشعرية، وقدم لها بمقدمة نقدية وافية، بعد مراجعتها من قبل الشاعر.

9- مقالات نثرية في مجلة حضارة الإسلام جمعها في ثلاثة كتب هي:

• على طريق الوعي الحضاري العربي الإسلامي.

• في رحاب الأدب العربي، ويضم عدداً من المحاضرات الأدبية.

• كلمات على طريق الوعي الحضاري.

وسأورد هنا مقطوعات من شعر الرجل ينبئ عن عقيدته ودعوته ففي قصدته (الله والطاغوت) يقول:

تاه الدليلُ فلا تعجبْ إذا تاهوا= أو ضيَّعَ الركبَ أشباحٌ وأشباهُ

تاه الدليلُ فلا تعجب إذا تركوا= قصد السبيل وحادوا عن سجاياه

والشعر إن لم تلح في التيه جذوته= نوراً مبيناً فلا كانت عطاياه

 

والشاعر مؤمن بنصر هذه الأمة مهما تكالبت عليها قوى الكفر الظلم والطغيان يقول:

 

أنا مؤمن بالحق … بالنصر المبين لدعوتي

ليمزق الطغيان كل ممزق بالحق ... ياللقوة

ويزفها للأمة الظمأى … شفاء الغلة

سنعيدها غراء إسلامية … يا أمتي

 

وهو يرى سبيل النصر ودحر الطغاة يكمن بالإيمان والجهاد في سبيل الله، ولنسمعه يقول:

 

بجهادنا، بالحق، بالإيمان يسري في الدم.

  بالروح تزخر بالسنا، وهدي النبي الأعظم.

سيزول ليل الظالمين، وليل بغي مجرم.

 

وفي قصيدته (الفجر) يعلن أن لا عزة للعرب وللمسلمين إلا باتباع نهج الإسلام ورفع راية (الله أكبر) يقول:

 

والآخرون الهائمون الحالمون بأن يكون الفجر (أحمر (

والهائمون الواهمون تعلقوا بعروبة ترضى بمنكر

وتمالىء الطغيان، يا للعار مفهوم الأصالة قد تغير

ما الفاتحون، وما العروبة يا أخي، لو لم تكن (الله أكبر)

وفي قصيدته (العصبة المسلمة) يروي لنا الشاعر قصة معركة بدر الكبرى، والتجاء قائدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الله طالباً منه النصر يقول:

 

وبدر أيُّ وهج في سناها= أضاء القلبَ فاستوحى هداها

وذكرني بصورة مصطفاها= يقود المؤمنين إلى علاها

إلى الفوز المبين إلى التفاني= إلى قمم الجهاد، إلى ذراها

وذكرني دعاء في لظاها= يموج بلهفة رحبٍ مداها

تهزّ النفسَ حرقة مجتباها= يناجي فاطرَ الكون الإلها

إلهي لستَ تُعبد إن أتاها= هلاك يا إلهي أو عراها

فهذي قلة نذرتْ قواها= لدعوتها، ولن ترضى سواها

 

اكتفي يما أوردته هنا ومن أراد الاستزادة من شعر الرجل يرجع إلى مجموعة أعماله الشعرية.

عفيف النفس، صادق العاطفة، رقيق القلب، سليم الطوية، حاد المزاج، بعيد عن الضغائن والأحقاد، صاحب مروءة ووفاء، وشمم وإباء، شجاع، جريء في قول الحق، لم يخفْ قوياً، ولم يتملقْ ثرياً، ولم يمجد غير البطولات والمروءات والقيم النبيلة، متواضع، زاهد في الحياة، عاش حياة الكفاف مبتعداً عن الشهرة والجاه.

طويل القامة، ممتشق القوام، أسمر البشرة، بسيط في مظهره وملبسه ومأكله، يرتدي الثوب العربي، ويغطي رأسه بمنديل أبيض.

بقي الشاعر عاذبا ولم يتزوج كما هو شأن كثير من العلماء، الذين شغلهم العلم عن الزواج، وربما كان السبب صحياً عند المترجم، وهو ما تعرض له خلال الاعتقالات المتكررة.

في عام: 2007 م، كرم الشيخ المترجم من قبل مديرية الثقافة بحلب، بالتعاون مع المركز الثقافي في مدينة (منبج) وسميت مكتبة المركز الثقافي في (منبج) باسمه.

بقي الشيخ المترجم على نهجه وأخلاقه هذه، إلى أن وافته المنية، في مدينة (منبج) بعيداً عن إخوانه وطلابه وأحبابه، الذين تفرقوا عنه مرغمين بسبب ما تعاني منه مدينة (منبج) وسائر المدن السورية من طغيان واحتلال وفساد، صباح يوم الثلاثاء في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة: سبع وثلاثين وأربعمئة وألف للهجرة النبوية الشريفة، الموافق للخامس من كانون الثاني، عام: ستة عشر وألفين للميلاد، ودفن بمراسم بسيطة في مقبرة الشيخ عقيل المنبجي في مدينة (منبج) ـ رحمه الله ـ

------------------

( )  ترجع هذه الأسرة في أصولها إلى قبيلة (الغلاظ) من (الدمالخة)، أما أمه فهي: السيدة الصالحة فضة بنت محمد النعسان، وتنتمي إلى عشيرة (النعيم)، والعشيرتان مشهور نسبهما إلى آل البيت، و(غزيل) لقب شعبي أشتهر به جده محمد درويش.

 ) ) مدينة صغيرة جميلة تقع على بعد ثمانين كيو متر إلى الشرق من مدينة حلب.

 ) ) البقرة، 143.