الخطيب الشربيني هو
شمس الدين محمد بن أحمد الشربيني المشهور بالخطيب، ولد بدايات القرن العاشر
الهجري، وتوفي عام: (977 ه)، ينسب إلى قريته شربين في الدقهلية في مصر، عاصر
الشربيني أواخر دولة المماليك، وأوائل دولة الأتراك العثمانيين، وتلقى العلم على
كبار علماء عصره، وكان على رأسهم: شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وشهاب الدين الرملي
وغيرهم، فبرع في شتى العلوم، لا سيما الفقه على مذهب الإمام الشافعي، وصار من أئمة
الفقه والتفسير واللغة، فأخرج العديد من المؤلفات، كان من أشهرها: شرح منهاج
النووي الذي سماه: مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، والإقناع في حل ألفاظ
أبي شجاع، وله تفسير كامل للقرآن الكريم سمَّاه: السراج المنير في الإعانة على
معرفة بعض معاني كلمات ربنا الحكيم الخبير، وغيرها من المؤلفات.
يسلك المفسرون
غالبًا مسلكًا معينًا في تفسيرهم كتاب الله تعالى، فتصنف تفاسيرهم إما أنها تفاسير
بالرواية أو بالمأثور، أو أنها تفاسير بالدراية أو بالرأي، والتفسير بالمأثور أن
تُفسَّر الآية بالآية أولًا، أو بالأحاديث، أو بأقوال الصحابة والتابعين، ويكون
ذلك مطردًا في كل التفسير فيسمى منهجًا، والتفسير بالرأي أو بالدراية: أي
بالاجتهاد، مع استدلال المفسر على ما يوصله إليه اجتهاده بأحاديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة، وما دلَّ عليه كلام العرب، وما يقتضيه كلام الشرع
كما قال ذلك السيوطي، ومن حاد عن هذه الأصول الأربعة في التفسير كان تفسيره ساقطًا
مرذولًا غير مقبول، ثم إن القول بأن هذا تفسير بالمأثور وهذا تفسير بالرأي إنما هو
من باب الأغلب، وإلا فالتفسير بالمأثور قد أخذ بالرأي، والتفسير بالرأي قد أخذ
بالمأثور أيضًا.
يصنف تفسير الخطيب
الشربيني ضمن التفاسير بالرأي أو بالدراية، ولكنه مع ذلك قد أكثر من التفسير
بالمأثور، فجمع بين هذين الاتجاهين، بل لقد قال في مقدمة تفسيره: "وقد تلقّيت
التفسير بحمد الله من تفاسير متعدّدة رواية ودراية، عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم،
واشتهرت وانتشرت مآثرهم"، وبيان هذين المسلكين فيما يأتي:
التفسير بالرأي أو
الدراية: اعتمد الشربيني في تفسيره على ثلاثة تفاسير رئيسة من تفاسير
الرأي، وهي تفسير الزمخشري، وتفسير الرازي، وتفسير البيضاوي، فلا تكاد تقرأ في
صفحة من صفحات تفسيره إلا ويذكر قولًا من أقوال هؤلاء المفسرين، سواء نسبه لهم أم
لم ينسبه لهم، ومثال ذلك: أن الشربيني عند تفسيره قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] قد أورد قولًا نسبه لمجاهد والحسن: أن
ولد نوح ولدُ حِنث -زنا- على فراشه، ولكنه ردَّ هذا القول وقال: "قال الرازي:
وهذا قول واهٍ حيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة، لا سيما وهو خلاف نص
القرآن"، وقال في تفسير قوله تعالى: {فَانْفِرُوا
ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]: "قال البيضاوي:
والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها
كيفما أمكن قبل الفوات"، وقال في تفسير صافات في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ}
[الملك: 19]: "قال الزمخشري: {صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛
لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفًا"، ومثل هذه النقول عن تفاسير الرأي كثيرة
في تفسير الخطيب الشربيني.
التفسير بالمأثور أو
الرواية: لقد أكثر الشربيني من ذكر الآيات والأحاديث التي تؤيد المعنى
الذي اختاره واتضح له في تفسير الآية، وكان له في ذلك منهجه الذي نص عليه، من أنه
لا يذكر إلا حديثًا صحيحًا أو حسنًا، وما ذكره من أحاديث ضعيفة نبَّه على ضعفه
وسبب إيراده، إضافة إلى ذكره أقوال الصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات أيضًا،
ومن ذلك: أنه بعد أن ذكر رأيه في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى
إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:
18] وأنه: "حين لا يقبل من كافر إيمان، ولا من عاص توبة" استشهد لرأيه
هذا بقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، وبعد أن ذكر رأيه في تفسير العبادة
في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ} [مريم: 36] من أنها الإفراد وعدم الشرك؛ استدلَّ لرأيه بقوله
تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وكذا استدلَّ
الشربيني لآرائه في التفسير بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا، فمن ذلك:
أنه بعد أن تكلم عن تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل
عمران: 104] استشهد له بأحاديث كثيرة عن رسول الله، ومنها: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سئل وهو على المنبر في خير الناس فقال: «آمرهم
بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم»، رواه أحمد. ومن
ذلك أيضًا أنه بعد تفسير الإرادة بالنية في قوله تعالى: {وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]؛ استهد لرأيه
بقوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت نيته طلب الآخرة
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب
الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له»،
رواه أحمد. وغير ذلك كثير في تفسير الخطيب الشربيني.
وأحيانًا يذكر
الشربيني أقوال الصحابة والتابعين لزيادة بيان الآية، وتوضيح المراد منها، ومن ذلك
إيراده بعض أقوالهم في تفسير معنى الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72]، قال: "فقال ابن عباس: أراد
بالأمانة الطاعة من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده، وقال ابن مسعود:
الأمانة أداء الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء
الدين والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع، وقال مجاهد: الأمانة
الفرائض وحدود الدين، وقال أبو العالية: ما أمروا به ونهوا عنه، وقال زيد بن أسلم:
هو الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع"، وغير ذلك من الآثار عن
الصحابة والتابعين.
المصدر: موقع إسلام
ويب.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول