الحقبة الأصعب

إن الناظر في حال الحقبة الزمنية التي نعيشها اليوم، يرمق الوهن والضعف والهوان، الذي تمر به الأمة الإسلامية! فلا تكاد تجد موطئ قدم لمسلم في البلاد التي تقودها حكومات تتبنى الفكر العنصري المسمى بالإسلاموفوبيا[1]، وحكومات أسست على فكرة القضاء على المسلمين، إلا وحال المسلمين في تلك البلاد بين قتل وتهجير أو اضطهاد أو مغلوب على أمرهم، فما يعيشه أهل بلاد الشام في غزة اليوم من قصف وحشي وهمجي، بلغ وصف الإبادة بالمنظور العسكري، وما يعيشه أهل بلاد الشام في شمال سوريا من قتل وتشريد وتمزيق، على يد فئات تجانست بكل دناءة وخسَّة لقتل الأطفال والنساء، وما يعيشه أهل الإسلام في تلك البلاد، يورث الوهن واليأس للمتابعين مما يشاهدونه ويسمعونه، فيظن المتابعون لحال المسلمين أنهم يعيشون الحقبة الأصعب في تاريخ الأمة فينتكسون ويتقهقرون، ويتلبسهم الخوَر والضعف والهوان، فيصبحوا كقطيع الشياه المحبوسة، التي تنتظر إقبال الشفرة على أعناقها واحدة تلو الأخرى، دون أن تعمِل عقولها للانقضاض على الشفرة وحاملها وتنصر نفسها! وهذا الشعور العارم بالعجز يورث المسلم عدم القدرة على صياغة الحلول وابتكار سبل التغيير، وتلاحظ حالة العجز في طيات كلام المسلمين حين يقولون: لا نملك إلا الدعاء، ولكن المتبصّر في ما فات من الحقب التي عاشتها الأمة الإسلامية سيعي أن ما تعيشه الأمة اليوم، ما هو إلا منفذ ضيق مرت الأمة الإسلامية بمنافذ أضيق منه، ثم انتفضت من مكمنها، لتصنع من هذه المنافذ الضيقة سبلًا تفضي بها إلى قمم المجد والسؤدد، ولنا في تاريخ الانتكاسات التي تجاوزتها الأمة دروس وعبر، ففي حقبة زمنية سابقة عاشت الأمة الإسلامية من الضعف والهوان، أضعاف ما نحن عليه، وذلك في آخر عهد الخلافة العباسية التي بدأت تفقد سيطرتها على بغداد، وكانت الشام مقسمة بين الأمراء الأيوبيين، يتصارعون فيما بينهم، وفي مصر يتصارع المماليك والأيوبيون للسيطرة على العرش المهدد بالزوال! والفرقة عارمة في بلاد المسلمين.

في خضمِّ هذا الشتات الذي تعيشه الأمة، فإذا بالتتار يغيرون على بلاد المسلمين، كالضباع على الفريسة المنهكة، وما أشد ما لاقى المسلمون من وحشية التتار! كانت حقبتهم شديدة ومحنة عظيمة لا تقاس بمثلها، فقد دمروا حواضر العالم الإسلامي، فدخلوا بخارى ودمروها، ثم اقتحموا سمرقند وأبادوها عن بكرة أبيها، ثم على قزوين، ومرو، ونيسابور، حتى وصلت جيوش التتار إلى بغداد، وهناك قامت المذابح ودمِّرت المدينة بمن فيها من أطفال ونساء وشيوخ، واستمر القتل بضعًا وثلاثين يومًا حتى تعفنت الشوارع من الجثث المرمية فيها، وأمام هذا الحدث المهول يعجز اللسان عن وصف ما حدث، ولا يفلح القلم بتسطير الواقع، كتسطير من عاش تلك الحقبة، فنقتبس حروف المؤرخ الإسلامي ابن الأثير المتوفى ٦٣٠هـ، حيث كتب عن تلك الحوادث المؤلمة وقلبه يتفطر ألماً وحسرة، يقول ابن الأثير: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا إلى أن قال وهذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها وعمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون."[2] إلى آخر ما كتبه رحمه الله بكل حسرة وندامة.

وبعد سقوط بغداد، لم يتوقف القضم المغولي لبلاد المسلمين، بل ساروا نحو الشام ليستحوذوا على الإمارات الأيوبية من أيدي أمرائها. في تلك الحقبة خارت قوة المسلمين، فلم يكادوا يستطيعون رد سيف المغول عن أعناقهم، وعن توصيف حال المسلمين آنذاك، ما لا يتسع المقال لذكره ولا تسعف العبارات لوصفه، فقد بلغ المسلمون من القنوط والانكسار أضعاف ما نعيشه اليوم، إلى أن قيض الله رجالًا كانوا على قدر من الهمة والثبات والإخلاص لله تعالى، فقاموا بالأمة إلى العلياء ونهضوا بها إلى المقام الذي يروق لكل مؤمن، في ذلك الحين قيض الله لهذه الأمة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وبرز القائد الفذ سيف الدين قطز، اللذان نهضا بالأمة وأنقذاها من الاندثار والشتات. فهؤلاء الذين لا يزالون في الأرض إلى قيام الساعة، كامنين في مرابطهم ينصرون دين الله في حلهم وترحالهم، هؤلاء الذين جاء وصفهم في الحديث الذي رواه ثوبان عن رسول الله قال: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ) صحيح مسلم.

فينبغي أن لا يفارق أذهاننا، أن الأمة الإسلامية أتى عليها ما هو أشد مما نحن عليه الآن، فتجاوزتها بإعادة ترتيب الصفوف بعد شتات، ورجعة إلى الله بعد فترة من التيه. والذي يترتب علينا فعله في هذه المحنة أن نسعى إلى إعادة ترتيب الصفوف، وإخلاص القول والعمل لله تعالى، واليقين بأن الله عز وجل لن يترنا أعمالنا، ولكن يجب أن نعمل ونضحي في سبيل نيل الغاية ونصرة الدين، فنحن أبناء أمة تعلي شأن من أخلص لربه وتمكن لمن سعى لإعمار دينه بدنياه، ولنتيقن أن في داخل كل فرد مسلم مكامن عزة ورثها من دينه تنتظر من يوقظها لتثمر عزة ونصرًا، وما نعيشه اليوم من قتل وتشريد لأبناء أمتنا ما هو إلا للقضاء على ما تبقى من عزة في نفوس المسلمين، ولو استطاعوا إبادة المسلمين لفعلوا، وهذا ما هم عليه اليوم، فما يعيشه أهل الشام في غزة من القصف الهمجي بنية التهجير والإبادة لو استطاع الكيان الصهيوني الوحشي وأعوانه تهجير المسلمين من فلسطين من زمن بعيد لفعلوا، لكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ففي غزة العزة مع كل صوت قذيفة تستيقظ مكامن العزة في أهلها، وفي كل قطرة دم تسيل يتبلور طريق الحق في عيون الجيل الجديد، وما يعشيه أهل الشام في سوريا من قتل وتهجير وتشريد وقصف بجميع أنواع الأسلحة الحديثة وبجميع المعدات العسكرية بثقيلها وخفيفها وبأصنافها البرية والجوية والبحرية لما يزيد عن أحد عشر سنة متواصلة من القصف المستمر، ما ينتج عن هذا القصف أرضًا محروقة لا حياة فيها بالمفهوم العسكري، وهذا ما يريدونه أرض بلا بشر، لكن مقاييس البشر تختلف عن مقايس رب البشر، فالناظر نظرة حاذق إلى المناطق المستهدفة في كل جزء من بلاد الشام، يجدها مفعمة بالحياة بجيل جديد تلمع في عينه عزة الإسلام، فالجيل في هذه البلاد ينقّح لحمل رسالة عظيمة، جيل كثر فيه حفاظ كتاب ربهم، جيل يبغض الظلم والظلمة، جيل يعرف عدوه منذ نعومة أظفاره، ويعرف أساليب عدوه الإعلامية والسياسية التي انطوت على كثير من الجيل الذي سبقهم، فهذه الحقبة الزمنية التي نعيشها، هي كغيرها من الحقب التي لايزال أعداء الدين ينوعون أساليبهم للنيل من هذا الدين العظيم، ودين الله قائم بعز عزيز أو بذل ذليل.

والسؤال الذي لابد من طرحه اليوم، أين أنت من نصرة نفسك بهذا الدين؟ ألن تبحث عن مكامن العزة في طيات نفسك وتنميها؟ ألن تلقي عن كاهلك ما أثقلت به نفسك من تشبث بالدنيا للدنيا فقط؟ ألن تشتري الآخرة بالدنيا؟ ألن تستذكر أنك سليل عز وفخر وإباء وتسعى لإعادة ما كنت عليه؟ ألن تبادر بنفسك لتكسر قيود الخوف، وتنتفض لنصرة نفسك بأن تكون في صفوف من ينصرون هذا الدين؟ ألن تتخلى عن فكرة أني ضعيف ولا أملك إلا الدعاء؟ تتقي بهذه الكلمة ترك الفرائض، ألن تبحث لك عن أثر في نصرة دين الله؟ تعتذر به لله حين تلقاه فردًا، فهذه الحقبة ستمضي، وستصبح تاريخًا لك، فما تاريخك الذي ستتركه خلفك؟ فتاريخ المرء لا يعتدُّ بحساب الأيام والحقب الزمنية التي تمر عليه، وإنما يعتدُّ بحجم الأثر الذي عمل على تركه من خلفه، ولو قصرت فترة حياته. فلا ينبغي على المسلم أن يكون كالذين أفضوا بلا ذكر يؤثر، فكل من موقعه يصنع أثرًا يلقى به الله تعالى، فآحادنا على ثغرة، وعليه حراستها بصدقٍ وفاعليةٍ.

 فلا ينبغي على المسلم الخنوع والاستسلام وقبول الذل والهوان، فإن أخطر ما تصاب به الشعوب حالة اليأس عن نيل حقوقها وصد المظالم عنها، فلننفض عنا ما تكاثر علينا من غبار اليأس، ولتنتفض الأمة بوجه أعداء الدين، فواجب كل فرد منا السعي لنصرة هذا الدين، كل فرد من موقعه وبحسب قدرته، فنصرة الدين تكون بالنفوذ لأصحاب النفوذ وإن شح نفوذهم، وبالمال من أهل المال وإن شح مالهم، وبالجاه من أصحاب الجاه وإن شح جاههم، وبالسياسة من أهل السياسة، وبكلمة حق لمن كان في الإعلام، وبالقلم لمن يحسن تسطير العز بالبنان، وبالبدن لمن يملك القدرة، فلا يقل أحد أنا فرد فماذا أقدم، أنت فرد من أفراد أمة عظيمة، منتجة، مورقة، مزهرة.

وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

 



[1] الإسلاموفوبيا: مفهوم يَعني حرفيًا الخوف الجماعي المَرضي من الإسلام والمسلمين، إلا أنه في الواقع نوع من العنصرية، قوامه جملة من الأفعال والمشاعر والأفكار النمطية المسبقة المعادية للإسلام والمسلمين.

[2] انظر تفاصيل هذه الحوادث في تاريخ الكامل لابن الأثير ج١٢ والبداية والنهاية لابن كثير ج ١٣ ص٣٠٠، ودائرة المعارف للبستاني٦ص٥١ مادة (تتر).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين