الحاكم العادل كالعافية للبدن

عبد السلام البسيوني  

 
خير الناس فيما أحسب: إمام عادل؛ حين يعم الظلم، ويصير هو القاعدة، به يثبت الله أمته، ويسعد رعيته، وبه يُشيع الأمن في الربوع، ويقيم العدل في الأرجاء، وبه يعز الإسلام في الأنام، حتى وإن كان هو على شعبة من التقصير، وكل بني آدم أهل التقصير.

خير الناس - فيما أحسب - إمام لا يأخذ رعيته بالشدة،  ذكر أن (شر الرِّعاءِ الحُطَمَة)،ولا يضرب فيهم بسيف البطش وسلطان التنكيل، فإنه  وقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئـًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمرهم شيئـًا فرفق بهم فارفق به).

وإذا اتفقنا أو سلمنا أن الله عز وجل لا يظلم، وأن التاريخ لا ينسى، وأن على كل إنسان ملكين كريمين يسجلان عليه اليسير والكثير، فإن الأمر يستحق من كل أحدٍ وقفة، فالكيس الحازم من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاقل من أخذ من دنياه لآخرته، ومن يومه لغده.

وأسعد السعداء حاكم تسعد به رعيته، ولا تشقى به أمته، وهو من مجابي الدعاء في الدنيا، وممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما ورد في النصوص الصحيحة؛ عكس الظلوم الغشوم الجهول الأكول!

وتاريخنا الإسلامي مليء بنماذج شامخة، من هؤلاء الرحماء العدول، الذين نباهي بهم الدنيا، وإن كان هذا التاريخ الإسلامي قد قُدم لنا - عمدًا - على أنه جملة من البثور ولطخات العار، وبلطجة الأمراء، ونزق الخلفاء، واستباحة الولاة، وجرأة العمال! لحاجات في نفوس الأشقياء الذين أرادوها حمراء دامية، أو ملحدة عاتية.

وإذا كان الناس الآن يندهشون من ديمقراطية الغرب التي أجلست المحروس بيل كلينتون أمام القضاء خمس ساعات، بعد دعوى من صاحبته باولا جونز، وعادت فشهرت به من خلال البقعة إياها على فستان اليهودية عشيقته مونيكا لوينسكي، فإنني متأكد مائة بالمائة أن لدينا حالات غيرَ مسبوقة في العدالة، والطهارة وحسن الأداء، والهمة التي تناطح الجوزاء. ولعل الله تعالى يعينني على الانتهاء من دراسة ضافية حول الحكام العدول والعلماء في تاريخ الأمة، لأسوق عشرات بل مئات منهم، وفيهم صاحبنا السلطان الأيوبي الأشرف موسى، سلطان دمشق، الذي ولد سنة 576هـ، وحاله من العدالة والخير عجب:

كانت دمشق من عواصم دولة الإسلام التي تمور بها الأحداث مورًا، وقد شهدت من السعود والنحوس ما الله به عليم، كان محبًّا للعلم والعلماء، يتقرب منهم، ويحضر مجالسهم، ويسمع لهم ويطيع، وبلغ من حرصه أن تحمّل الصحيح وغيره من دواوين العلم.

ورغم أن بعضهم سجل شوائب في سلوكه العام، وأنه كان لعابًا شأنَ الشبان القادرين ذوي العنفوان،كما مال إلى الشراب والملاهي حينًا من الدهر، فإنه كان ذا مزايا عجيبة ومنها: عفته - رحمه الله - والعفة في الأقوياء المالكين نادرة - وكان يَصدر في عفته عن خوف من الله تعالى، واجتناب لعواقب السوء.

يروي سبط الجوزي عنه:
ما مددت عيني إلى حريم أحد، ولا ذكر ولا أنثى في يوم من الأيام:
أتـته أميرة كسرها الزمان، وأذلها بعد عز، لكنه لم يَجُرْ على جمالها، ولا أنوثتها، فقد كانت فتنة للناظرين: قـدًّا لينًا، وجمالاً فاتنًا، وشبابًا ريان، قالت له: يا سيدي، حاجبك فلان (والحاجب آنذاك كرئيس الوزراء الآن) استبد، وأخذ ضيعة لي كنت أتعيش منها ومن ريعها، فرسم السلطان الأشرف برد الضيعة لها. وكانت البنت وحيدة ضعيفة، تخشى على نفسها سطوات ذوي السطوة، فأرادت أن تحمي نفسها ببذل عرضها، فدَسّت إلى الأشرف عجوزًا تغريه بها:
- فلانة تريد أن تحضر بين يديك..
- وما له؟ لا بأس.. يا مرحبًا.
فلما دخلت عليه لم ير أقوم منها قوامًا، ولا أشكل شكلاً، فنهض لاستقبالها إكرامًا لها، وقال ملاطفًا:
أنت في هذا البلد وأنا لا أدري؟
فأسفرت الفتاة عن وجهٍ أضاء منه المكان، كأنها تعرض مفاتنها ونفسها فقال: لا.. لا .. استتري.
فأخذت تشكوه ما فعل بعض حاشيته، ومن حوله من الأقوياء بها، وظلمهم وتنكرهم لها: مات أبي يا سيدي، وأخذ الحاجب ضيعتي، وصرت بلا حول ولا طول، ولا مال ولا سبَد، فاضطررت أن أعمل ماشطة، أنقش أياديَ الحسناوات، وأجلو العرائس، وأنا الآن أسكن دارًا مكتراة لا أقدر على دفع أجرتها بعد العز والملك، فبكى الأشرف، وأمر لها بدار ومال.
فجاءت العجوز لتكافئ السلطان على كرمه بـ.. بعرض الفتاة، قائلة: يا خوند، ألا تحظى بك الليلة، فإنها شابة وراغبة، وأنت زينة الرجال، وصاحب فضل ومنة، و "مش خسارة فيك".
وبسرعة قفز إلى ذهن السلطان تغيرُ الزمان بأهل السلطان، وحولان الأحوال، وأن بلده قد يملكها غيره، فتضطر ابنته أن تقف الموقف نفسه، وتقعد القعدة ذاتها، فقال: معاذ الله، ما هذه شيمتي، ولا هي من مروءات الرجال الكرام.
فقامت الشابة باكية وهي تهتف، صان الله عواقبك يا سيدي كما سترتني، وما دفعه إلى هذا إلا خوف من الله يملأ قلبه، ومروءة وهمة تجتاح نفسه.
ومن شيمه الرفيعة أنه كان ضابطـًا لنفسه، لا تستفزه عظمة السلطان، ولا تسكره نشوة الملك أو عنفوان الشباب، ولا حتى الحرس الذي ينتظر إشارته.
ذات يوم كان يجلس وبين يديه خمر، فدخل عليه بعض الصالحين، فوجدوه على هذه الهيئة، فتقدم أحدهم وركل دنان الخمر حتى بددها، فسكت متمالكًا نفسه، وكاظمًا غيظه..
ولم يزل بعد ذلك يذكر هذه الحادثة، ويعدّها من توفيق الله تعالى وفضله، وكان يقول: بها نصرني الله - وقد كان منصورًا ما هزمت له راية - وكان يعزو انتصاراته دائمـًا لثباته في هذا الموقف، وكظمه غيظ نفسه لله رب العالمين.
وكان في ظاهر دمشق خان يديره ماجن يعرف بابن الزنجاري، قد جمع أنواع الملاذ والشهوات، ويجرى فيه من الفسوق والفجور ما لا يحد ولا يوصف، فقيل له: إن مثل هذا لا يليق أن يكون فى بلاد المسلمين، فاستجاب رحمه الله مباشرة، فهدمه وعمره جامعًا، وسماه الناس "جامع التوبة" كأنه تاب إلى الله تعالى وأناب مما كان فيه. وكان مستوحى في بنائه وهندسته من الجامع الأموي الكبير، ويمتاز بمحرابه الجميل جد، وهو مصنوع من الجصّ المزين بزخارف نباتية وهندسية وكتابات دقيقة، وتعلوه نصف قبة مزخرفة.
وكان الشعراء يفدون عليه مادحين فيصلهم، ومن أخصائه من الشعراء كان ابن النبيه الذي غنت أم كلثوم من شعره في مدح الأشرف موسى:
أفديه إن حفظ الهـوى أو ضيعا ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعـا
من لم يذق ظلم الحبيـب كظلمـه حلوا فقد جهل المحبة وادعـى
يأيها الوجه الجميل تدارك الصب النــــحيل فقـد عفـا وتضعضعا
هل فـي فـؤادك رحمـة لمتيـم ضمت جوانحـه فـؤادًا موجعـا
فتش حشاي فأنـت فيـه حاضـر تجد الحسود بضد ما فيـه سعـى
هل من سبيل أن أبـث صبابتـي أو أشتكـي بلـواي أو أتضرعـا
إنـي لأستحيـي كمـا عودتنـي بسوى رضاك إليـك أن أتشفعـا
يا عين عذرك في حبيبك واضـح سحي لوحشتـه دمـا أو أدمعـا
الله أبـدى البـدر مــن أزراره والشمس من قسمات موسى أطلعا
الأشرف الملك الذي ساد الـورى كهلا ومكتمل الشباب ومرضَعا
ردت به شمس السماح على الورى فاستبشروا ورأوا بموسى يوشعـا
سهل إذا لمس الصفا سال النـدى صعب إذا لمس الأشـم تصدعـا
دان ولكـن مـن سـؤال عفاتـه سام على سمـك السمـاء ترفعـا
يا برق هذا منك أصـدق شيمـة يا غيث هذا منك أحسـن موقعـا
يا روض هذا منك أبهـج منظـرا يا بحر هذا منك أعـذب مشرعـا
يا سهم هذا منك أصوب مقصـدا يا سيف هذا منك أسـرع مقطعـا
يا صبح هذا منـك أسفـر غـرة يا نجم هذا منـك أهـدى مطلعـا
حملت أنامله السيوف فلـم تـزل شكـرا لذلـك سجـدا أو ركعـا
حلت فلا برحت مكانا لـم يـزل من در أفـواه الملـوك مرصعـا
أمظفر الدين استمع قولـي وقـل لعثـار عبـد أنـت مالكـه لعـا
أيضيق بي حرم اصطناعك بعدما قد كان منفرجـا علـي موسعـا؟!
ولما ثارت الفتن بين الأشاعرة والسلفية، كان له ميل إلى جهة الفريق الثاني، من المحدّثين والحنابلة، ولما كتب له سلطانُ العلماء يقع فيهم، ويحرضه عليهم، رد السلطان الأشرف عليه: يا عز الدين، الفتنة نائمة لعن الله مثيرَها، وأما باب السلامة فكما قيل:
وجرمٍ جرّهُ سفهاءُ قومٍ فحلَّ بغيرِ جانيهِ العقابُ
ومن شِيَمِه المعْجِبة إكرامُه العلماء والفقراء الزهاد، وقد استفاض عنه ذلك وعرف به، ومن مظاهر تعظيمه إياهم، ومبالغته في إكرامهم أن الشيخ الفقيه محمد اليونيني توضأ يومًا، ولم يكن حوله ما ينشف به الماء عن وجهه ويديه، فوثب الأشرف، وحل من تخفيفته، ورماها على يدي الشيخ لينشف بها نفسه. فانظر، فعل سلطان ذي صولة، بعالم من علماء الأمة، وقارن حاله بحال المتأكلين على الموائد، من متقوسي الظهور، وموقدي البخور، المساعدين في نحر الأمة، والجالبين لها العار والشنار!
وقد بنى بدمشق دار الحديث الأشرفية، وفوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، الذي أملى بها الحديث، وألـّـف مقدمته الشهيرة التي يعرفها طلاب العلم بـ "مقدمة ابن الصلاح" فيها. وهي التي ولي مشيختها كبار علماء الحديث من أمثال الأئمة الحفاظ: عماد الدين الحرستاني وأبي شامة والنووي وزين الدين الفارقي وابن الوكيل والزملكاني والشريشي والمِزّي وتقي الدين السبكي وابن كثير، وغيرهم.
 
وكان يزور الفقهاء ويعطيهم، ويجيز على الشعر، ويبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكنهم.
في أخريات أيامه قال له الشيخ محمد اليونيني ناصحًا: استعد للقاء الله، فما يضرك (أن توطن نفسك وتذكر الموت)؟ فلم يصرخ فيه: فال الله ولا فالك/ حرام عليك/ إن شاللا انت واللا خلفوك/ خذوه فغلوه... بل قال: لا والله بل ينفع ذلك، وأخذ يعتق من مماليكه، ويقف الأوقاف، ويكثر الصدقات.
ولما احتُضر قال لأحد أخصائه: هات وديعتي، فجاءه بمئزر صوف وإزار عتيق، فقال: هذا يكون على بدني أتقي به النار.
كيف تكون سعادة الناس بالإمام العادل، وفرحتهم بحياته، وأسفهم على شوكه يشاكها، أو وعكة يبتلى بها؟ وكيف دعاؤهم له؟
وكيف يكون حالهم إذا ابتلوا بظالم غشوم؟ وكيف فرحهم بمرضه، ودعاؤهم عليه، وتمنيهم الخلاص منه، وتشوُّفهم لمن ينجيهم من جحيمه!
إنها أمانة أمة بكاملها، قد تبلغ ملايين وملايين، لذلك كان الدعاء للسلطان من شأن العلماء الواعين، حتى قال بعضهم: من كانت له دعوة صالحة، فليدخرها لمن؟ لنفسه؟ لأبنائه؟ لأرحامه؟ فليدخرها للسلطان؛ لأنها إذا قُبلت وصادفت ساعة إجابة كان السلطانُ رحمةً وبركة ونعمة على الأمة، وكان كالعافية للبدن، وكالغيث على الأرض اليباب.
فاللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وحكّم بهم يا رب شرعتك، وأعلِ بهم كلمتك.. وارزقهم بطانة الخير التي تأخذ بأيديهم إلى مراضيك، أو: اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..
يا رحمن يا رحيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين