الحافظ الدمياطي في حلب

 

الحافظ الدمياطي (613-705هـ) مِنْ كبار العلماء المُحدِّثين الصالحين في القرن السابع، وأول الثامن، أخذَ عن الكبار، وصار شيخًا للكبار، وقد رحلَ في طلبِ العلم إلى البلدان، فشافهَ العلماءَ، وحملَ عنهم، وأرَّخ لهم في كتابٍ فبلغوا (1300) شيخ، وهذا عددٌ كبيرٌ.

 

ومن البلادِ التي دخلها: مدينةُ حلب، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ فيه، يدلُّ على هذا أنَّ ما حمله عَنْ أحدِ شيوخِها - وهو الحافظ يوسف بن خليل الأَدَمي الدمشقي الأصل المُتوفى سنة (648هـ) - قُدِّرَ بحملِ دابةٍ من الكتب والأجزاء.

 

وكان الحافظ يوسف بن خليل يُملي بجامع المدينة الكبير، وهذا يعني تردُّدَ الدمياطي إليه هناك.

وكان فيها في سنة (645) و(646)، كما في السَّماعات المثبتة في كتاب "المُسند المُستخرج على صحيح مسلم" لأبي نُعيم، المقروء على الحافظ يوسف.

 

وقدَّرَ اللهُ للدمياطي أنْ يؤلِّف في حلب أحدَ كتبهِ المهمة في بابها، وهو كتابه: "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى".

وقد روى فيه عن شيخه الحافظ يوسف المذكور، وغيرِهِ مِنْ شيوخ حلب في عدة مواضع.

وأرجو أن يُطبع "معجم شيوخه" لأتتبعَ ما فيه عن حلب باستقصاء[1].

وقد كان هذا "المعجم" من مصادر العلماء المهمة، ومن آخرهم الإمام الزَّبيدي.

وأذكرُ هنا ما كتبهُ تلميذُهُ الذهبيُّ عنه في كتابه "تذكرة الحفاظ"، وهي ترجمةٌ مختصرةٌ معبرةٌ، ثم أوردُ ما قاله هو في مقدمة كتابه "كشف المغطى" عن حلب.

•••

 

قال الذهبي:

"شيخُنا الإمامُ، العلامةُ، الحافظُ، الحُجةُ، الفقيهُ، النسّابةُ، شيخُ المُحدِّثين، شرفُ الدين، أبو محمد، عبدُالمؤمن بنُ خلف بن أبي الحسن، التُّوني[2]، الدمياطي، الشافعي، صاحبُ التصانيف[3].

مولدُه في آخر سنة ثلاث عشرة وست مئة.

وتفقَّه بدمياط وبرَعَ، ثم طلبَ الحديث:

فارتحلَ إلى الإسكندرية، فسمع بها مِنْ: علي بن زيد النسارسي، وظافر بن شحم، ومنصور بن الدباغ، وعدة.

وبمصر مِنْ: ابن المُقَيَّر، وعلي بن مختار، ويوسف بن المجتلي، وطبقتِهم[4].

وببغداد مِنْ: أبي نصر بن العُلِّيق، وإبراهيم بن الخيِّر، وخلقٍ.

وبحلب مِنْ أبي القاسم بن رواحة، وطائفةٍ. وحمل عن ابنِ خليلٍ حملَ دابةٍ كتبًا وأجزاء.

وسمع بحماة مِنْ صفية القرشية.

وبماردين مِنْ عبد الخالق النِشْتَبْرِي.

وبحرّان مِنْ عيسى الحنّاط.

وكتبَ العالي والنازل، وجمَعَ فأوعى.

وسكنَ دمشق فأكثرَ بها عن ابن مسلمة، وغيرِه.

ومعجمُ شيوخه يبلغون ألفًا وثلاث مئة إنسان.

وكان صادقًا، حافظًا، متقنًا، جيدَ العربية، غزيرَ اللغة، واسعَ الفقه، رأسًا في علم النسب، ديِّنًا، كيِّسًا، متواضعًا، بسّامًا، مُحببًا إلى الطلبة، مليحَ الصورة، نقيَّ الشيبة، كبيرَ القدر.

سمعتُ منه عدة أجزاء، منها: "السراجيات الخمسة"، و"كتاب الخيل" له، و"كتاب الصلاة الوسطى" له.

سمعتُ أبا الحجّاج الحافظ[5] -وما رأيتُ أحدًا أحفظَ منهُ لهذا الشأنِ- يقولُ: ما رأيتُ في الحديث أحفظَ من الدمياطي.

وقد حدَّثنا أبو الحسين اليونيني في "مشيخته" عن الدمياطي، وقاضي القضاة علمُ الدين ابن الأخنائي، وقاضي القضاة علاءُ الدين علي القونوي، والمحدِّثُ أبو الثناء المنبجي.

 

ومِمَّنْ يروي عنه:

• الإمامُ أبو حيّان الأندلسي.

• والإمامُ أبو الفتح اليَعْمري.

• والإمامُ علم الدين البِرْزالي.

• والإمامُ قطب الدين عبد الكريم[6].

• والإمامُ فخر الدين النويري.

• والإمامُ تقي الدين السبكي. رحمة الله عليهم أجمعين.

تُوفِّيَ فجأة بعد أنْ قُرِئَ عليه الحديثُ، فأُصْعِدَ[7] إلى بيته مَغشيًّا عليه، فتُوفِّيَ في ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة، وكانتْ جنازتُه مشهودة.

ومِنْ علومهِ القراءاتُ السبعُ، تلا بها على الكمالِ العباسيِّ الضرير"[8].

•••

 

وقال هو -رحمه الله- في مقدمة كتابه "كشف المغطى":

"فإني [كنتُ][9] أختلفُ في حلب في بعضِ الأحيانِ إلى مجلسِ بعضِ الصدورِ الأعيانِ، وأحدِ علماء هذا الزمان.

فجرى فيه يومًا بيني وبين بعضِ علماءِ الأنامِ ممَّنْ ينتمي إلى مذهب الشافعي الإمامِ، بحثٌ ومفاوضةٌ، وإيرادٌ ومعارضةٌ، في تعيينِ الصلاة الوسطى، فطفقتُ أرجِّحُ أنها صلاة العصر، وأنها الفُضلى، وأوردُ ا?حاديثَ الصحاحَ، مُستشهدًا بالنصِّ الصُّراح، والأسانيدِ المُثلى، وأعزوُه إلى مذهب الشافعي - رضي الله عنه- إذ قالَ فيما بلغنا عنه: "كل ما قلتُهُ فكان عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- خلافُ قولي ممّا يصحُّ، فحديثُ النبي - صلى الله عليه وسلم- أولى، ولا تقلدوني". وسنذكرُهُ عنه أخيرًا با?سناد، الذي هو أصلُ الاعتماد.

فعارَضني بحديثِ عائشة -رضي الله عنها-: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر"، فعُطِفتْ صلاةُ العصر على الصلاة الوسطى، وظاهرُ العطف يقتضي الفصلَ والمغايرة، فدلَّ على أنها ليست العصر.

فأجبتُه أنَّ هذه الواو ليستْ على ظاهرِها، وهي مردودةٌ بالتأويل إلى نصوص أحاديثنا التي لا تَحتملُ التأويل، وإلا لزمَ التناقضُ، على ما سيأتي بيانُه.

ثم استدلَّ أيضًا على أنها صلاةُ الصبح بقوله تعالى: (قوموا لله قانتين) مِنْ حيثُ إن اللهَ تعالى أعقبهما بالقنوت الذي هو طولُ القيام، والدعاءُ في الصلاة، وكلاهما مختصٌ بالصبح، فهي إذنْ هي.

وليس في ذلك دليلٌ أيضًا إذ القنوت من الألفاظ المشتركة، وهو في الأصل بمعنى الطاعة، كقوله تعالى: (كل له قانتون) و? اقْنُتِي لِرَبِّكِ ?، و? فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ ?، و? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ?، و? وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ?، و? الْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ?، ? وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ?، إلى غير ذلك.

وجاء تفسيرُه مبينًا في ا?ثار التي سنُوردُها مِنْ بعدُ إنْ شاءَ الله تعالى.

 

فلما وقعتْ هذه المحاورة، وقامتْ الأدلة المتظاهرة حسُنَ تقييدُها في كتابٍ يُقيِّدُها؛ لينتفعَ مَنْ أرادَ الوقوف عليه، ويدعو لي بالمغفرة مَنْ استندَ إليه.

فاستخرتُ الله تعالى واستمددتُهُ، واستعنتُهُ، واستوفقتُهُ، واستعصمتُهُ، وجمعتُ في هذا الكتاب ما وردَ مِنْ نصوص النقلِ أنَّ الصلاة الوسطى صلاة العصر، بصريح القول.

وأردفتُهُ بما وردَ في صلاة العصر من الفضل، ليكون ذلك ترجيحًا وتأكيدًا في معنى هذا الفضل[10].

ثم عقبتهُ بالجوابِ عن حديث عائشة، والقنوتِ المُشار إليهما مِنْ قبل.

وتلوته بما رُوِيَ عن الشافعي - رضي الله عنه- في رجوعهِ إلى الحديث، واعتمادِهِ عليه في العَقد والحَل.

وختمتُهُ بذكر مذاهبِ الأئمة ومأخذِهم فيها، بكلامٍ جزل.

سالكًا فيه سبيل النصفة والعدل، ناكبًا عن طريق التعصُّب والمَيْل.

وسميتُه: (كشف المُغطى في تبيين الصلاة الوسطى).

وقد كنتُ ألفتُ هذا الكتاب وأنا إذ ذاك بحلب، وكُتِبتْ منه غير نسخةٍ لثلةٍ مِنْ ذوي العلم والأدب، بيدَ أني لما قدمتُ دار السلام، واجتمعتُ بأماثلِ علمائِها الأعلام، تجدَّدَ لي فيه ما اقتضى تغييرَه، فنقصتُ منه وزدتُهُ، وحرَّرتُ تقريرَه.

وأنا أسالُ الله تعالى أن ينفعَ به في الدنيا والآخرة، ويكسوني به ملابسَ عفوه الفاخرة، إنه على ذلك قدير، وبا?جابة جدير"[11].

•••

 

وقد أفادتنا هذه المقدمةُ فوائدَ لطيفة، وأعطتنا صورةً جميلةً عن المجالس العلمية في حلب، وما كان يَجري فيها من البحث، والاستدلال، والنفع، والانتفاع.

ودلَّتنا على حرصِ ذوي العلم والأدب فيها على المُؤلفات المُستجدة.

•••

 

ومن شيوخ الدمياطي مؤرِّخ حلب الإمامِ كمال الدين ابن العديم (المتوفى سنة 660هـ)، وكان يطنب في الثناء عليه:

قال الصفدي في ترجمة ابن العديم: "أطنب الحافظُ شرفُ الدين الدمياطي في وصفهِ، وقال: ولي قضاء حلب خمسةٌ من آبائه متتالية، وله الخط البديع، والحظ الرفيع، والتصانيف الرائقة، منها تاريخ حلب، أدركته المنية قبل إكمال تبييضه. وروى عنه الدَّواداري وغيره، ودُفِنَ بسفح المقطّم بالقاهرة"[12].

وقد نقلُ ابن العديم عن الدمياطي مشافهةً في غيرِ موضعٍ من تاريخه "بغية الطلب في تاريخ حلب"، وفي هذا تقديرٌ له.

•••

 

وكان له صلة بقاضي حلب كمال الدين أحمد بن قاضي القضاة زين الدين عبد الله الأسدي الشافعي المعروف بابن الأستاذ (ت: 662هـ).

قال الذهبي عنه: "كان صدرًا معظمًا، وافرَ الحرمة، مجموعَ الفضائل، صاحبَ رياسة، ومكارم، وأفضال، وسؤدد، وولي القضاة مدة فحُمِدتْ سيرته. وروى عنه أبو محمد الدمياطي، وكان يدعو له لما أولاه من الإحسان"[13].

•••

 

ومِنْ أصدقائهِ في حلب: أبو الحسن علي بن عبد الله بن سعد الله الخابوري الصُّوَّرِي - نسبة إلى صُوَّر، كسُكَّر، وهي بُليدة على شط الخابور- الضرير المقرىء:

قال ابنُ الصابوني في "تكملة إكمال الإكمال" عنه: "نزيل حلب.

سمع بها مِنْ شيخِنا الحافظ أبي الحجّاج يوسف بن خليل الدمشقي، وأبي القاسم عبدالله بن الحسين بن رواحة، وجماعةٍ.

قال الحافظُ أبو محمد عبدُالمؤمن بن خلف الدمياطي: هو رفيقُنا، سمِعَ معنا الحديثَ كثيرًا بحلب، وكتبتُ عنهُ شيئًا من الشعر"[14].

•••

 

وقد طُبِعَ كتابُهُ "فضل الخيل"، مع "رشحات المداد فيما يتعلق بالصافنات الجياد للبخشي الخلوتي"، في حلب، نشرَهُ العلّامة مؤرِّخ حلب محمد راغب الطبّاخ، عام (1349هـ).

 

[1] قلت: قد قام الشيخ الأستاذ الدكتور نجم عبدالرحمن خلف وابنه الشاب النابه إبراهيم بتحقيق هذا المعجم، عن نسخةٍ وحيدةٍ متضررةٍ كثيرًا. ولعله يصدرُ قريبًا، فتقر به عيونُ أهل العلم.

وقد أفادني الدكتور نجم بقوله: "قد عُنيَ الدمياطي بعلماء حلب، ومآثرهم، وتخرَّجَ ببعضهم، ومنهم علماء لم نقفْ لهم على ترجمةٍ، رغم طول المُكث، واتساع البحث".

[2] في "توضيح المشتبه" (1 /313): "التونة: ...جزيرة في بحر تنيس، قريبة منها، وهي من فتوح عمير بن وهب الجمحي الصحابي أحد أبطال قريش".

[3] ومنها الكتاب النافع: "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح".

[4] ومنهم الحافظ عبدالعظيم المُنذري.

[5] الإمام المزي.

[6] الحلبي.

[7] كذا.

[8] تذكرة الحفاظ (4 /1477-1478).

[9] زيادة مني.

[10] كذا، ولعل الصواب: الفصل.

[11] كشف المغطى ص11-13.

[12] الوافي بالوفيات.

[13] شذرات الذهب (5 /307).

[14] وقال الزبيدي في "تاج العروس" (12 /365): "قلتُ: وراجَعْتُ معجم شيوخ الدِّمياطِيّ فلم أَجِدْه".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين