الجوع.. بين الأمس واليوم!

 

منذ زمن بعيد لم نسمع عن جوع يحصد الأرواح، ويكدر الأيام الملاح، ويعبث بحياة الناس، فلا يبقى في محيط مأساة الجوع مرتاح، والجوع يدفع نحو عذابات النفس، خصوصاً لما يرى المرء ولده يتضور جوعاً بين يديه، وربما مات في حضنه، ولا يستطيع أن يفعل له شيئاً، وهذه من الكوارث المركبة التي يبتلى بها الإنسان، من هنا استعاذ نبينا - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه - من الكفر والفقر، والجوع أشد أنواع الفقر، وهذا الاقتران في الاستعاذة بين الكفر والفقر، لما بينهما من لوازم فتنة، قد تؤدي واحدة إلى الأخرى.

 

كنا نسمع ونحن صغار من كبارنا عن سنة الجوع التي مرت بهم في مطلع القرن الماضي، فمروا بظروف قاسية ما بين عامي 1914 – 1918م وكانت فترة عصيبة، وشديدة الوطأة على حياة الناس، وسنة الجوع حصراً كانت عام 1916م، وكيف أن هذه السنة، قد حفرت في ذاكرة أيامهم معاني تنعكس على مقاطع من تحولات حياتهم، تؤرخ لمواليد تلك السنة، ويضرب بها المثل في جوانب متعددة من جوانب الحياة وتجاربها، كيف لا! والجوع في النهاية عظة وعبرة، وهذه السنة كأنها شبح مرعب يطاردهم في كل مناسباتهم، ويصنع حالة من الوعي الدائم الذي لا ينقطع بصورة مثل هذه المأساة المرة، لكن الجوع في تلك الأيام الخوالي جوع بلا حصار، والأرض فسيحة، والرحمة موجودة في الناس، على الفطرة، لذا لا ينسى أهل دير الزور وجيههم الاجتماعي السيد فرحان الفياض - رحمه الله - الذي كان نموذج الخير، الذي تمثل بكرمه ونجدته وجوده، وشعوره بواجبه - إذ أعطاه الله المال - تجاه إخوته الجوعى، وأقاربه المنكوبين، والناس المحيطين به، من الذين نزلت بهم نازلة الجوع، وهذا الرجل مثال في هذا الجانب، وقدوة على الطريق.

 

أما اليوم فجوع مع حصار مطبق، يلفه مشهد دم ورعب وخوف ورائحة موت، من كل زاوية من زوايا الحدث، وبكل أبعادها، وسائر تفاصيل الواقعة، فصار المشهد مركباً ومعقداً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا ندري كيف سيحكيها - من بقوا من المحاصرين أحياء - لأحفادهم وللأجيال القادمة؟ هل ستخط أحداث الجوع صورة متشابكة يعجزون عن رسمها؟ ربما، ولكن يبقى جزء من المشهد المختلف الأكثر صعوبة ودهشة، هو أنه ماذا قدم الناس- ونحن في عصر العولمة - لهؤلاء المعاصرين المحاصرين؟ هل جمعت الأموال؟ هل رفعت عرائض الاحتجاج؟ هل كانت هناك تغطية إعلامية مناسبة؟ هل سيرت قوافل الخير المادية والمعنوية، لكسر الحصار، وإنهاء حالة الجوع؟ الجواب محرج، وبالتأكيد أن قسماً من الناس سيقف حائراً في الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، والتاريخ لا يرحم، وهو بعيد عن مقص رقيب الاستبداد.

 

لا بد من وسيلة غير صادمة لأبناء الأجيال القادمة، وأسلوب متميز، في العرض والتحليل، يستطيع المرء من خلاله تبليغ رسالة هذه المرحلة لهم، اللهم كن مع المحاصرين في الزبداني ومضايا والوعر ودير الزور وبورما والمقدادية وديالى، وكل بلد فيه محاصر وجائع ومظلوم.

 

أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَر، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ»، وعند الطبراني والبزار - بإسنادٍ حسن - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ».

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين