التعب الضائع

 

 

(اجتهادُك فيما ضُمن لك، وتَقصيرك فيما طُلبَ منك، دليلٌ على انطماس البصيرة):

لك حقوق وعليك واجبات، وكثير من الناس يطلب بإلحاح ماله من حقوق، بل يطلب بإلحاح ما يرى أنه حق له، أما الواجبات التي عليه يقينا فهو يماري فيها حيناً، ويؤديها بكسل واسترخاء وبخس حيناً آخر، وربما جحدها. وهذا الطراز من الناس ـ وما أكثره بيننا ـ أدنى إلى الدواب التي لا تحسُّ إلا ما تحتاج إليه، فأما ما تكلف به فهي لا تعرفه إلا من لذع السياط.

فإذا تجاوزت ما يَتعامل به الناس من حقوق وواجبات إلى العلاقة بين الناس ورب الناس وجدت الأمر أنكى، الناس وراء لقمة الخبز يكاد يُصيبهم مسٌّ! مع أنَّ الله لو وكل رزقَ الخلائق إلى قُواها لبَادت. إنَّه ضَمِن الأرزاق لعباده، وأجرى مَصَادرها بين أيديهم رخاء، ومع هذا فهم مَكروبون في طلب العيش الذي كُفِلَ لهم، أما إحسان الصلة بالله وتوجيه الفكرة إليه، والتعاون مع الآخرين على إقامة دينه والتزامِ حدوده فهو ما يقصرون فيه، أو يَنْصرفون عنه.

إنَّ الله أراحهم من هموم الرزق، وكلَّفهم بشؤون العبادة، فتكلَّفوا همَّ هموم الرزق واستراحوا من شؤون العبادة. الله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وهؤلاء يَصيحون، وأهلوهم معهم الخبز، الخبز...!!، ناسين الله وناسين وَعْدَه بالإغناء والتيسير، لا شغلَ لهم إلا طلب الدنيا، وهذه الدنيا نفسها لا تجيء إلا من لدن الله الذي تركوه.!

ما تقول في امرئ يَتَقاعس عندما يحتاج الأمر إلى همَّة ونشاط، ويهتم وينشط عندما يكون الأمر قَريباً من أصابعه؟!، إنَّ هذا المسلك مع الله دليل انطماس في البصيرة.

استعجال الشهرة:

(ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نَبَتَ مما لم يُدفن لا يتمُّ نَتَاجُه):

هذه الكلمة أفضل توجيه لمن يُريدون الظهور على عجل، ومن يتوهَّمون أنَّ نصيباً قليلاً من المعرفة والخبرة كافٍ في الترشيح لقيادة الجماهير، والصدارة بين الناس، وهؤلاء في الحياة لا حصرَ لهم. إنَّ منصب الإمامة في آفاق الدنيا أو في آفاق الدين يتطلب صبرَ السنين، وتغضين الجبين، فليصنع المرء نفسه أولا في عزلة وفي صمت وفي تؤدة، كالشجرة التي يختفي أصلها في ظلمة التراب أمداً تتكون فيه التكوُّن الصحيح، ثم تبدأ تشقُّ طريقها إلى الهواء والضوء. ما ضرَّ الشباب أن يَتَواروا قليلاً أو كثيراً فلا يطلعوا على الناس إلا بعد أن تكتمل ملكاتهم؟. إنَّك ترى الواحد يكتب عدَّة مقالات فيحسب نفسه من قادة الفكر، أو يحسن بضعة أعمال فيزعم نفسه من ساسة العالم، ولو آثر (الخمول) فترة ينضج فيها لكان خيراً له.

ثم من الإيمان ـ إذا استويت ـ أن تقوم بما عليك لله ـ لا للظهور، فإنَّ الذي يطلب وجوه الناس يسقط من عين الله. فاحذر على نفسك أمرين: أن تنزع إلى البروز قبل استكمال المؤهلات المطلوبة، وأن تستكمل هذه المؤهلات لتلفت بها أنظار الناس إليك.

تسليم لله:

(ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدثَ في الوقت غير ما أظهره الله فيه):

لا تحسبن القدر يجري وفق هواك: إنَّ وراء الواقع الذي نهش له أو نضيق به حِكَماً عُليا تجعل الحوادث تسير، وهي لا صلة لها برضانا أو سخطنا. فمن أراد تغيير قدر غالب، وأحبَّ تقديم شيء أخَّره الله تعالى، أو تأخير شيء قدَّمه الله سبحانه، فهو يَنطح الصخر، ولن يستفيدَ من ذلك إلا تصديع رأسه. والعاقل يرسم خطته على أن ما حدث حقيقة لا مناص من الاعتراف بها، ثم يبني سلوكه بعد ذلك وفق ما يشير به الحزم، ويوحي به السداد، وخير للمرء أن يتَّهم هواه من أن يَسْخَطَ على الزمن.

وأستطيع ـ على ضوء تجاربي ـ أن أؤكِّد لغيري هذه الخلاصة، وهي أنَّ أكثر ما نفعني كان مما ضقتُ به بادي الرأي، وأنَّ الآلام المزعجة والشدائد الباهظة هي التي فتقت العقل ونمت المواهب وأماطت النقاب عما نجهل من شؤون وشجون وصدق الله العظيم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

 

من خداع الشيطان:

(إحالتك لتلك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس):

التسويف خدعة النفس العاجزة والهمَّة القاعدة، ومن عجز عن امتلاك يَومه فهو عن امتلاك غَدِه أعجز، والتسويف يجيءُ غالباً من امتداد الأفكار البالية التي يجبُ الفكاك منها على عَجَل، ومن طغيان الشهوات التي لا يجوز لمسلم أن يستسلمَ لها، ويتراخَى معها.

إنَّ إرجاء المعركة مع الهوى الغالب، اعتراف بالعجز عن مقاومته.

ومن الرجولة أن يَبْدَأ المرء ـ اليوم قبل الغد، والصباح قبل الأصيل ـ هجومه على المثبطات والعوائق، وأن يكتسحها من طريقه اكتساحاً، دون إبطاء أو تَهَيُّب، وكل تسويف لا نتيجة له إلا إطالة عمرِ الشر وتقصير عمر الخير في حياة الإنسان، فانظر المصير مع قول الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران: 30]. {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ }[القيامة: 13]، روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ).

ثق في ربك:

(ما توقَّف مطلبٌ أنت طالبه بِرَبِّك، ولا تيسَّر مطلبٌ أنت طالبه بنفسك...):

عندما خاض المسلمون معركة بدر كانوا يحسبون أنَّ القتال فُرض عليهم دون أن يأخذوا له أُهبته الواجبة، فكان اعتمادُهم على الله شديداً، والتماسهم عونه بالغاً. وتضاءلَ شُعورهم بأنفسهم حتى استخفى، وتضاعف ذِكْرُهم لله سبحانه حتى لكأنَّ الله تعالى هو الذي يُدير المعركة، وكأنَّ خيلهم ورَجِلَهم أدوات المشيئة العليا.

من أجل ذلك جاءت نتيجة المعركة نصراً باهراً للذين خَاضوها باسم الله، وجاء في وصف أدوارها: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 17].

والحق أنَّ المرء يكون قوَّة غالبة عندما يعمل، وهو يَستمدُّ من الله العزم والجهد والتوفيق والنجاح.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى الأعداء بهذا الروح المستظهر ببأس الله وحدَه، فكان يقول: (اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أَجُولُ، وَبِكَ أَسِيرُ) [رواه أحمد والبزار. قال الهيثمي في المجمع: رجالهما ثقات]. 

وعَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَافَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ قَوْمٍ قَالَ: (اللهُمَّ إِنِّي أَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) [أخرجه أحمد وغيره].

أما إذا شمخ الإنسان بحوله وطوله، وأَنِسَ بما أَعَدَّ، وذهل عن الله تعالى الذي تَصير إليه الأمور، المهيمن على زمام الحياة، فإنَّ النتائج تفجؤه بما لا يتوقع.

استراح المسلمون لكثرتهم في معركة حُنين وقالوا: لن نُغْلَب اليوم عن قِلَّة ونظر بعضهم إلى بعض فلم يروا إلا كتائب مُعَبَّأة لا يثبتُ لسطوتها أحد، فتبخَّر اعتمادهم على السماء، ولم يَرتقبوا النصر إلا من عند أنفسهم، شتان بين هذا الشعور الذاهل الكليل، وبين الشعور الذي غمر سرائرهم في معركة بدر. فماذا كانت النتيجة؟. يقول الله في كتابه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة: 25]. هذه عقبى الاغترار بالنفس والذهول عن الله تعالى.

وهي العقبى التي ذاق المسلمون مَرارتها عند جبل أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 165].

إن التعويل على النفس مهما أحكمت الأمور واستكملت الأسباب لا يفتح أبواب الخير فما أكثر الثغرات في جهد الإنسان ورأيه إذا أراد القدر خذلانه، والواجب أن يَستعين بالله في كل شيء، فإنَّ عونه إذا تخلَّف لم يغنِ عنه شيء.

بل سيكون الأمر على حدِّ قول القائل: 

إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يجني عليه اجتهاده

ومعنى طلبك الشيء بالله أن تضمَّ (سببه القوي) إلى ما بيديك من أسباب، لا أن تكسل أو تفرط، فإنَّ الكسل والتفريط ليسا طلباً من الله سبحانه، بل هما عصيان لله تعالى وخروج على سننه الكونية المقرَّرة.

صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب: (الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة محمد الغزالي).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين