بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله
رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله الطاهرين وأصحابه
الميامين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
في نشأتي أدركت جدي الشيخ محمد علي
مشعل رحمه الله تعالى بعد السبعين من عمره في بلاد هجرته، وعرفت عن التصوف ما كنت
أسمعه من جدي رحمه الله ولم أصدق سواه. وما تزال ترن في أذني كلماته ومنها:
"كل ما ليس من الإسلام ليس من التصوف".
وكما أن أنبياء الله عليهم وعلى
نبينا الصلاة والسلام أصحاب الكمال في مقام العصمة، ومع ذلك يتفاوتون في كمالاتهم
فمنهم الرسل ومنهم أولوا العزم، وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام جامع كمالاتهم..
فكذا أولياء الله تعالى من الصالحين أصحاب كمال في مقام الحفظ، ومع ذلك يتفاوتون
في كمالاتهم فمنهم الصديقون والربانيون والشهداء، ويرث بعضهم من الكمالات ما يتفرق
في بعضهم، ولكن قدم أعلى ولي في منازل الصديقية دون مقام قدم أول منزل في النبوة.
وفيما يأتي نتعرف على نماذج من كمالات أهل التصوف السنّي النقي وسمو أحوالهم من
خلال لقطات في حياة علم في الدعوة إلى الله تعالى، جدي الشيخ محمد علي ابن الشيخ
حاج محمد مشعل رحمهما الله، وما كتبت عنه انصرافا عن فضل غيره ولكني عرفت عنه بحكم
القرابة والصحبة ما لم أحط بمثله عن غيره.
تربى جدي الشيخ محمد علي مشعل رحمه
الله تعالى في بيئة من التصوف النقشبندي المقرون بالعلم الشرعي في تلدو من حولة
حمص، والده الشيخ حاج محمد مشعل رحمه الله صحب الشيخ سليم خلف رحمه الله حتى أجازه
خليفة على الإنس والجن بإجازة ما نال مثلها عند الشيخ سليم إلا ابنه الشيخ أبو
النصر خلف رحمهما الله تعالى، وجدته الشيخة شعاع عبارة خليفة نقشبندية، ووالدته
الشيخة سارة تلقت العلم والذكر عن والده، وكان عمّه الشيخ حسين مشعل رحمه الله
أعلمَ مريدي والده وساعدَه الأيمن، وهو الذي بدأ جدي تلقي العلوم عنه في الكُتّاب
عندما بلغ السادسة من عمره، وصار يصحبه ويتنقل معه في القرى، وما بلغ الحادية عشرة
من عمره إلا وقد تأهل وكُلّف من قبل والده وعمّه بإلقاء خطبة الجمعة والدروس
العامة.
ثم نزل مدينة حمص وتفرغ للعلم خمس
عشرة سنة، كان فيها تحت أنظار علمائها الذين أخذ أغلبهم التصوف عن الشيخ أبو النصر
خلف شيخ شيوخ البلد فأخذ جدي الشيخ عن الشيخ أبي النصر وعنهم. إذا ذكر مشايخه..
ابتهجت روحه وانتعش قلبه واشرقت عيناه. كان حريصا على نسبة الفضل لهم، سعيدا
بانتسابه إليهم، مُغتبطا بحبهم له وحظوته عندهم. وكما قال تلميذه أبو الفضل الشيخ
مبشر جنيد حفظه الله ونفعنا به: كان يعلمنا حب مشايخه كما يعلمنا المسألة من
العلم. وقد قيل إن التصوف حفظ الوفاء وترك الجفاء.
ولأن خلفاء الشيخ سليم رحمهم الله
مقدمين على خلفاء أبنائه، كانت تنتقل إدارة الختم إلى الشيخ حاج محمد مشعل إذا حضر
الزاوية النقشبندية في حمص عند الشيخ عبد الرحيم خلف الذي كان ينوب في إدارة الختم
عن والده الشيخ أبو النصر خلف ابن الشيخ سليم خلف رحمهم الله، وكذا كان الحال في
حضور جدي الشيخ محمد علي مشعل خليفة والده الشيخ حاج محمد مشعل. ولذا كان جدي
يفسّر قبول أهل التصوف في سورية لكلامه وتوجيهه بمكانته في الطريق فهو ووالده
وجدته خلفاء في الطريق.
كان والده رحمه الله لا يسمح بحديث
الدنيا في مجلسه، وكان في زاوية والده العدد الذي لا يقل عن عشرة على الدوام من
الذي منّ الله تعالى عليهم بالهداية بعد سنوات من ترك الصلاة، فكانوا يشتغلون
بقضاء الصلوات في تلك الزاوية، وكانت والدته الشيخة سارة رحمها الله تعالى تصنع
الطعام لمن في الزاوية، طعاما يشهد جدي أن الله كان يبارك فيه ليشبعهم على قلته.
وكان والده يلم كسر الخبز اليابس لتكون قوته في السّحر. وكان يوقظ جيران الزاوية
لصلاة التهجد، ومن أبناء جيران الزاوية من إذا أرهقهم السهر باتوا عند أقاربهم
الأبعد تجنبا للإحراج. وكان يصلي بعد المغرب صلاة الغائب يوميا على من مات وغسل من
المسلمين، ومحافظا على صلاة الأوابين عشرين ركعة بين المغرب والعشاء. وهكذا كانت
أحواله كمالات حتى أنه يصرف نساء الجن عن مجلسه إلى مجلس النساء عند الشيخة شعاع
والشيخة سارة رحمهما الله تعالى، ولم يكن يستخدم الجن أعلى الله مقامه.
ومما يدل على عظيم مكانة والده
الشيخ حاج محمد مشعل رحمه الله في الطريقة النقشبندية ما يحكيه جدي من أن الشيخ
سليم خلف أذن للشيخ حاج محمد بإدخال محدث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني
رحمه الله في الطريق عندما جاء يطلبها من الشيخ سليم، فأدخله الشيخ حاج محمد فيها
وكان البدر الحسني بعدها يزور الشيخ حاج محمد في زاويته في تلدو. وكذا أدخل الشيخ
حاج محمد في الطريق الشيخ عبد القادر القصاب الديرعطاني رحمه الله بإذن الشيخ
سليم.
عرفنا جدي رحمه الله دائم الذكر لله
تعالى، فهو إما في مجلس علم أو وعظ أو إصلاح، أو مشتغلا بالتحضير لتلك المجالس، أو
فاتحا لمصحفه تاليا لآي القرآن، أو حاملا لمسبحته تجري بها أذكاره. وكنت وأبناء
الأعمام والعمات إذا جلسنا بقربه فطال بنا المجلس هنيّة.. دعانا لنقرأ ورقة يشرحها
لنا مما أعده واختاره للتعليم والإرشاد، وكذا كان لنساء الأقارب حصة من وعظه
وتوجيهه كلما اجتمعن. فلا يمكن أن يشتغل مَن كان تحت نظره بالعطالة والبطالة إلا
وأشغله بطاعة. والتصوف اغتنام الوقت والتزام السمت، وقد قيل أنه الإكباب على العمل
تطرقا إلى بلوغ الأمل.
كان رحمه الله دائم الحضور مع الله
سبحانه وتعالى في كل أحواله، فلم نعرف من أوراد الصباح والمساء وأذكار أعمال اليوم
والليلة إلا ما كان مواظبا عليه، وما جلس على الطعام إلا وقال بعد التسمية مذكّرا
لنا: نوينا التقوي على طاعة الله، وما وضعت سفرة إلا وأسمعنا: وإن تعدوا نعمة الله
لا تحصوها، وما عاب طعاما قط. وما سمعناه اشتكى من ألم بل يتحامل على نفسه في مرضه
ليقيم درسه. وبعد أن نصحه الأطباء بتخفيف الدروس، قال لي: يظنون أن في ذلك راحتي
وهو يمرضني. كان رحمه الله مثالا لتعريف التصوف بأنه الشكر على المنن والكتمان للمحن.
وتعلمنا من سيرته في الصدع بالحق
كرة بعد كرة ومن ثباته عليه في بلده والمهجر.. ما كان يعلمنا إياه في درس العقيدة
من أن وظيفة عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر أن تكون دافعة إلى العمل باعثة على الجد
حاملة على خوض المعارك الدامية وركوب الأخطار الدانية؛ لأن الآجال مقدورة، وأن
الإنسان مخلوق للعمل بما يرضي الله تعالى، وأن كل امرئ ميسر لما خلق له. وقد قيل:
إن التصوف التظاهر بالحق على المتكاثر بالخلق.
وكان محافظا على سمت العلماء
وحليتهم حريصا على حفظ حرمة العلم، فحفظ الحرمة أحد أصول التصوف الخمسة وهذا منه.
وكان يحدثنا عن ذلك بلسانه ومشاعره ومواقفه. ما أعظم همّه وقد كسته حلية العلماء
العمامة والجبة عندما كان يتقدم إلى أحد المسؤولين ليحدثه في أمر على مرأى من
الناس وهو يفكر ماذا سيفعل لو لم يقم ذلك المسؤول واقفا لمَقدمه! كيف سينظر الناس
لواجب احترام العلماء! ثم يحمد لله أن وقف. ويحدثنا عن بعض أحداث المجلس النيابي
يوم شاركة العلماء وكان في الكتلة التعاونية الإسلامية ١٣ نائبا وكانت في مركز
لائق بها ومحترمة من المجلس، وكيف انكسرت هيبة العلماء عندما احتدم الخلاف بين
اثنين منهما أمام المجلس النيابي، فيقول أنه بعد هذه الحادثة: سقطت هيبتنا وأصبحت
تقتحمنا الأنظار وصح علينا المثل: لا تقطع شجرة الإسلام إلا بغصن منها. وفي
اعتقاله الأول، يحكي انه اعتقل بطريقة لا تليق بعالم دين. وفي السبعينات، عندما
سئل عن أعجب ما رآه في سجنه الذي امتد عامين لم يتحدث عن المشاهدات العجيبة التي
أكرمه الله بها بل قال: مجند أمي يعذب عالم دين.
وأما اليوم وبعد أن انتقل عن هذه
الدار، فأشارك هنا بعض ما كان يستره من إكرام الله له. عندما كان في المنفردة
يقاسي التعذيب يوميا لمدة ثمانية أشهر، كشف الله له عن مشاهدات عجيبة. مما حكاه
لنا وبعض خواصه أنه في أول شهرين وحيث لم يكن معه مصحف، كان يقرأ القرآن من حفظه،
وإذا أخطأ يسمع صوت شيخه الشيخ أبو السعود عبد السلام بسمار رحمه الله يصححه له،
ثم لما حصل على المصحف راجع تلك المواضع فإذا الرد صحيح، ففرح بذلك. وكان يكشف له
عن مشايخه في حمص، فيراهم مجتمعين مهتمين لأمره يتحدثون في شأنه. وكشف له عن السيد
مكي الكتاني رحمه الله رئيس رابطة العلماء فرآه وهو يدعو له، وكأن في هذا معنى
مؤانسة خاص حيث توفي السيد الكتاني في نهاية العام الذي اعتقل فيه جدي رحمه الله
قبل خروج جدي الذي مكث سنتين في سجنه. وما كان يذكر شيئا من ذلك إلا فلتات لخواصه،
وما حدث بها افتخارا، بل امتنانا بنعمة الله عليه، ومواسات لنا لما نسمع عن ظروف
سجنه وتعذيبه، وتعريفا لبعض أوجه المنح في المحن.
وما عرفناه شاكيا، وما ذكر محنة
شخصية إلا وذكّرنا وجهة النعمة فيها، فهذا سجنه وتعذيبه كان أسعد أيام حياته لأنه
يعلم أنه كان مظلوما وفي سبيل الله تعالى، وتغرّب عن بلده في هجرته، وصودرت
أملاكه، وضاعت أمواله، وما زلت قدمه عن الطريق ولا اضطرب لسانه في الحق ولا تغيرت
حاله، وكان لا يرضى أن يكون في شفاعته لقضاء حوائج الناس غرض شخصي، فذلك الذي آذاه
على قائمة المشفوع لهم، وتلك المصلحة التي يمكن أن يحصلها ليست في خاطره. كيف لا
يكون هذا حاله والتصوف هو الاستسلام لنوازل الأحكام والتخلق بأخلاق الكرام.
ومنذ وعيت، إذا حان وقت الصلاة أمر
بالأذان ودعانا للتجهز وصلاة السنة القبلية، وتأكد من جمع كل أهل البيت لصلاة
الجماعة، ومن ثم تقام الصلاة، ونجلس للأذكار ثم الدعاء ثم صلاة السنة البعدية حيث
شرعت. وكان يلاحظنا في كل ذلك، فيصحح ألفاظ الأذان بعده كلمة كلمة، ويرشد من لم
يعط الأركان كمال حقها، ويذكّر من عجل في انصرافه قبل تمام الأذكار أو فوت بعض
السنن، وينبه من لم يلفظ الذكر بلسانه أو أسقط بسرعة لفظه حرفا من تسبيحه وتحميده
وتكبيره.
سافرنا في البر بصحبته سفرات
عائلية، فكان أول ما عرفت صلاة المسافر راكبا من صلاته الضحى في السيارة، وحتى في
السفر الطويل، كان لا يفتر عن ذكر الله تعالى ولا يلتفت إلى غيره. وتارة يشرح لنا
قصة من قصص الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام بأسلوبه الشيق المفعم بمشاعر
الأحداث في تصويره ونبرة صوته. ويفتح لنا باب السؤال. وبين الفنية والأخرى يحدثنا
عن فضل أحد الأذكار ثم يقرر علينا وظيفة عدد ١٠٠ منه، ولا ينتهي طريق سفر إلا وقد
أتينا على المأثور من الأوراد بعدد ١٠٠ لكل منها. وكان والدي يستأذن لنا بين وقت
وآخر لنسمع بعض الأناشيد ترويحا.. فيسمح لنا ويتابع أوراده. وصحبته مرة في سيارة
أجرة مشتركة، فكان الحال كما هو من اشتغال بالدعوة والذكر. وهكذا عرفنا من حاله أن
التصوف عمل بلا فترة وسير بلا لفتة.
وكان ذو شفقة بنا.. تدرج معنا في
ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة، يغذينا بصغار العلم قبل كباره. وكان حريصا
علينا.. يربينا بإقامة الفرائض وكمالها قبل نوافلها، وبالنوافل المؤكدات والرواتب
قبل مطلقها. لم يؤاخذنا بنوافل الأعمال مما لا يحتاط فيه للفرائض، ولكنه كان
يعاتبنا على السنن الرواتب ويشجعنا على الضحى وقيام الليل. يستيقظ لتهجده قبل
الفجر بساعة أو يزيد، ومع أني كنت آتيه لطلب العلم وأبيت عنده.. لم يوقظني إلا على
وقت الفجر أو قربه، وانتبهت مرة أول تهجده والنوم في عيني.. فأشار بيده أن ارقد.
عرفت منه أن التصوف هو الإحسان،
وقرأت عليه أصول التصوف، وتلقيت في دروسه مقامات التصوف ومنازله من التوبة والتوكل
والإخلاص وغيرها، وسمعت منه المحمود من أحوال الصوفية، وسألته عن بعض أمور الطريقة
فارشدني. كان يعقد الختم النقشبندي في زاوية والده في تلدو، ولكنه لم يعط الطريق
لأحد فيما نعلم إلا مرة في أواخر سنيّه كانت هي الاستثناء لسر عند صاحبه نفع الله
به. وسألت جدي مرة: لم لا تعطون الطريقة؟! فقال: توقفنا عن الاشتغال بهذا. وهذا
لحكمة قدرها، وفيها ما هو متعلقة ببلد هجرته بحسب ما حكاه في غير موضع. وفي ليلة
من ليالي الأنس والسكينة عند جدي رحمه الله، أخذت مضجعي ولم يغادرني سؤال استحيت
أن أسأله قبل تلك الليلة، فقلت: جدي، هل أنتم مستخلفون من جدي الشيخ حاج محمد؟
فأومأ برأسه نعم مع ابتسامته التي كانت ينتظر فيها ما بعد ذلك السؤال، فقلت:
ولماذا لم تخلّفوا أحدا؟ فأجاب رحمه الله أنه عاهد والده أن لا يخلّف إلا العلم
ويشتغل بنشره. وهكذا كان حتى قال سيدي الشيخ محمد ممدوح جنيد رحمه الله تعالى:
"المكان الذي يوجد فيه الشيخ فمعناه كتاب مفتوح ومجموعة بين يديه تفتح كتبها
وتأخذ العلم". وقد قيل إن التصوف إعلام عن أعلام وإحكام لأحكام.
وحكى لنا مرة عما أدخل فيه بعض
الصوفية ضرب الصنجات وغيره من بعض المعازف المحرمة، والتي وإن اختُلف في بعضها..
فلازم طريق الصوفية من الورع والاحتياط اجتنابها لا التسامح فيها، فقلت مستشعرا
الألم النفسي من تشويه هؤلاء للتصوف الذي نعرفه ونعتقده، وواقع ما كنا نواجه به من
انتقاد على أفعالهم التي لا نقرها: لماذا لا تكتبون في الإنكار عليهم وبراءة
التصوف من هذه المخالفات؟
فقال: هؤلاء يحتاجون إلى التلطف،
عندما كنا نزورهم نصحناهم، فصاروا يستحون وتقديرا لنا لا يفعلون ذلك أمامنا، ولكنا
نعرف أنه عندما نخرج يعودون لأن شيخهم يقرّهم عليها وليس من أهل العلم. ولذا كان
يقرّر: شرط الخليفة عندنا أن يكون عالما، حتى لا تدخل المخالفات الشرعية في
التصوف.
وسألته رحمه الله مرة عن ضرب الشيش
عند بعض الصوفية، فقال الكرامة للولي مكرمة يستحي من إظهارها، وهؤلاء ينقصهم
العلم، ولذا عندما نستطيع أن نجذب منهم البعض إلى طلب العلم، يتوقف عن فعل تلك
الأمور. فسألته هل حصل؟ فقال: نعم وبعد أن تعلّم لم يعد يمارس تلك الأفعال.
ووقع في القلب مرة شيء على من يقرّ
المخالفات الشرعية من شيوخ الطرق ولا يصححها، فقال: هؤلاء يحبوننا، حتى أنهم في
حمص كانوا لا يعقدون مجلسهم في وقت الدرس ليحضر مريدوهم عندنا. كان لا يسمح بذم
شخص أو غيبته في مجلسه، فالتصوف إسلام الغيوب إلى مقلب القلوب. وكان في كل ما
نستنكره من مخالفات يردنا إلى الشفقة على أصحابها والنصيحة لهم ونشر العلم، وكان
يصور لنا الناصح كمن يريد أن ينقذ أخاه من ثعبان تحفز للدغه أو حفرة أوشك ان يقع
فيها، وهذا التصوف هو النصح في الإشفاق والفسح في الأخلاق.
وعرفه أصحاب الحاجات، طلق الوجه
مبسوط اليد، جاد بجاهه وماله وجهده ووقته، وعجل زكاته وزاد، وأقرض من لا يرجى رده
القرض مراعاة لحاجته أو إصلاحا لحاله أو سترا لمسألته، ومع ذلك كان يزكي تلك
الديون احتياطا، وقد قيل إن التصوف البذل والإيثار والتشرف بخدمة الأخيار.
وكان يرحمه الله ينبهنا على
السلوكيات التي قد تكون فيها شائبة من حب نفس أو هوى أو غير ذلك مما لا تعرفه
القلوب السليمة. ومن ذلك، كان مرة في زيارة الرياض حيث كنت أقيم مع والدي حفظه
الله، وفي نجد الجزيرة يغلب لُبس الشماغ الأحمر على طلبة العلم من أهل البلد، وكنت
ألبسه ولكني أفضل الشماغ الأبيض، فتجهزت للخروج لحلقة تحفيظ القرآن، فلاحظ الشماغ
الأبيض فقال: ما هذا؟ فقلت: أحب لُبس الأبيض. فقال: لا بأس لكن لا يكون فيه قصد
التّمايز عنهم. وكان لا يسمع كلمة تدل على إعجاب المرء بنفسه إلا توقف عندها ونبه
عليها. وهكذا علمنا أن التصوف هو التحفظ من العثرة والتيقظ من الغفلة والمحاسبة
على الخطرة.
وختاما، حفظت من كتاب الحب الخالد
للشيخ محمد الحجار الحلبي النقشبندي -رحمه الله ونفعنا ببركته وبركة شيخه الشيخ
أبو النصر خلف- أبيات ابن الحاج في كتابه المدخل:
ليس التصوفُ لُبسَ
الصوفِ ترقعُهُ
* * * * ولا بكاؤك إن غنّى
المُغنُّونا
ولا صياحٌ ولا رقصٌ ولا طربٌ،
* * * * ولا اختباط كأنْ قد صِرتَ
مجنونا
بل التصوفُ أن تصفو بلا كدرٍ
* * * * وتَتْبَع الحقَّ والقرآن
والدِّينا
وصل اللهم على سيدنا محمد عبدك
ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته في كل لمحة ونفس بعدد كل
معلوم لك.
صورة لجدي الشيخ محمد علي مشعل رحمه الله في الأربعين من عمره نحو عام ١٩٦٤م أمام زاويته المتصلة بالمسجد في بلدته تلدو في سهل الحولة من ريف حمص.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول