الانقلاب الأخير وموقعة الحمير

 بقلم الشيخ : نور الدين قره علي

 

 

 

منذ الخمسينات تعوّدنا في سورية على الانقلابات ، والتي كانت تملي قضية التغيير للنظام، من خلال جنرالات يقودون فرقة دبابات ، يستولون بها على البرلمان والإذاعة والقصر الجمهوري ، وينتهي المطاف بأن يخرج جنرال ليدخل آخر ، وتمضي البلاد بمؤسساتها وإدارتها، والمهم أن يقوم كلٌّ في مكتبه بتغيير صورة الزعيم خلفه ، وتدور عجلة الحياة ...
أما في هذه الحقبة من الزمان ، فإننا نرى انقلابا معاصرا ، ونشاهد حركة التغيير كيف تتطور وتتدرج ، إلى أن وصلت إلى ما نحن عليه ، فانقلاب البعث في سوريا ، على كل ما سبقه من الحركات والأنظمة ، نال شهادة التميّز ، عبر تاريخه الذي تدرّج في ألوانه إلى أن تجلّل بالظلام ، وتسربل بحلكة الويل والثبور ، ونزل بالأمة وتاريخها إلى ظلمةِ وضيق القبور ، وها هو يستعد لوقفته المخزية في ساحة التاريخ ، ليُحاكم كأمثاله من الذين لم ينفعهم حسب ولا معذرة ولا شهداء زور ،
إن انقلاب البعث أحدث ما لم يحدثه أحد ،من تغيرات أثارت دهشة العالم طوال هذه الحقبة ،التي امتدت أربعين عاما ، ولن يُسمح لها بعد الآن بالامتداد حتى ولو ثانية واحدة في حساب التاريخ والأمم ، هذا الانقلاب الذي دخل الجيش إليه بسيف التصفيات ، وخنجر الاغتيالات ، وحبل الإعدامات، وقرارات الإقصائيات ، ليحوله إلى جيش حزب واحد ، ثم جيش طائفة معينة ، ثم إلى جيش أسرة بذاتها ، ثم إلى جيش شخص مُؤلّه من قِبل ذاته على أمته ،
هذا الانقلاب أدى إلى احتلال القصر الجمهوري ، قصر الأمة ، قصر الشعب ، الذي كانت تعمل مكاتبه في ليلها ونهارها لإدارة سياسات الأمة ومصلحة أبنائها ، انقلب على يد هذا الفرد المؤله في أعماقه ، إلى أقبية أمنية يسوسها الجنرالات الأمنيون والخبراء
القمعيون ، الذين تنوّعت مكاتبهم ، وتطورت خبراتهم في أقبية روسيا ورومانيا و أمريكا ، وعادوا يحملون شهادة التخرج بعلوم القمع وخبرة الشراسة والإرهاب ، و أصبحت هذه القيادات تتصدر قراراتها مكاتب الوزارات والدوائر الرسمية والتجمعات المدنية والعسكرية ، و صارت حالة الطوارئ هي المناخ الذي يولد فيه الطفل ، ويُنسّم هواؤه الشباب ، ويُغيّب فيه كل إنسان ، وتتوجه بتياراته كل حركة ،
إنقلاب البعث رفع من مكانة العصا الكهربائية ، لتكون فوق رؤوس المفكرين ، وأفكار النخب الرائدين ، وعمائم الأئمة والخطباء و المصلحين ، العصا الكهربائية.. رأيناها جميعا كيف رُفعت فوق رأس العالِم المصلح ، و الخطيب المنصف ، والناصح المتلطف ، والمرشد الحكيم ، العصا الكهربائية .. صورتها لا تُنسى ، وهي تَضرب ضربتها - التي لن ينساها العالم – لتشج رأس العلم و والفكر و الإصلاح ،
هذه هي مظاهر الانقلاب البعثي ، ثم الطائفي ، ثم الفردي المستبد ، لقد بقيت هذه العصا بيد من صفّى بها حزبه ، ثم زملاؤه ، ثم أهله ، ويلوّح بها اليوم في وجه الأمة ، و يشُجّ بها رؤوس الأمة وجبهات علمائها ، ونضرة شبابها ، وحرمة نسائها ، وبراءة أطفالها ، ثم يستخدمها استخداما مزريا جبانا ليَصعق بها ، ويطلق شرها على (الحمير) التي تتحرك مُخالفة اتجاه قائدها ، وتأبى أن تكون أداةً لهدم كعبة الحرية في أمتها وأصحابها ،
الانقلاب المدهش ، أن تتحول قيادات الأمة من مقاومة وممانعة للأعداء والصهاينة المعتدين ، لتنزل إلى الأقبية الأمنية وتشرف على قتل شعبها ، نساءً ورجالا ، وشباب وصبايا ، و فتية مراهقين ،
إنه الانقلاب الذي حوّل المجلس النيابي إلى مسرح هزلي ، يُمثل فيه ممثلون سُخفاء دور التابع الذليل ، فيُقصّر قرارهم أو يُطوّل الأعمار ، ويقترح البعض فيه أن يبايع القائد الفذ حاكما عالميا على جميع الأمصار ،
و هاهو الانقلاب الأخير ، يحوّل اليوم مراكز التعليم إلى غُرف سجن وتعذيب ، ويُفتش الآباء عن أبنائهم من الطلاب والطالبات في المعتقلات والسجون والمستشفيات و البرادات ، بدل أن يصاحبوهم إلى معلميهم فى المدارس والمعاهد والجامعات ،
و في أيام هذا الانقلاب المشؤوم ، رأينا كيف ينقلب العلم في بعض رؤوس حامليه ، من خدمة الأمة إلى خدمة هذه النوعية المتألهة من الأقزام ، يُجنّد لها كل الفتاوى، وينصر باطلها بمختلف الأحكام ، ويُدين من يُخالفه من أعلام الإسلام بأنهم يخدمون أمريكا ، أو هم جند الصهاينة اللئام ، ولم يدرِ وزمرته من أسرة النظام ، أن الخطأ في الاجتهاد لدى من يعمل لخدمة الأمة ، خير من صواب من يجتهد لخدمة هذا النظام ،
 
و لهذا و في ختام الكلام نقول : إن مثل هذا الانقلاب المعاصر - الذي آل إلى نهايته - لن تغيره دبابة ولا بندقية ،ولا جنرال جديد ،بل
قامت الأمة كلها بكل طاقاتها ، يتقدمها شبابها بصدورهم العارية، وقامتهم التي تمتد إلى سماء كرامتهم وحريتهم ، ليكونوا هم جند التغيير الذي يقتلع جذور هذا البغي الآثم ، والتأله الذاتي المخادع ، وهيهات أن يعود الزمن إلى الوراء ، وأصوات الأمة تنادي في كل يوم : - الشعب يريد إسقاط النظام - ويرتقي هتافها إلى أجواء السماء ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين