الانصاف ضمان استقرار المجتمع

 

لغة: مصدر مأخوذ من مادّة «ن ص ف» الدَّالَّة  على 1-شطر الشّيء ، وفي الحديث: « مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ »[1] 2-وفى الخدمة والمعاملة،. ومن ذلك الإنصاف في المعاملة، وكأنّه الرّضا بالنّصف"[2] وتناصف القوم: أي أنصف بعضهم بعضا من نفسه"[3] إذا تعاطوا الحقّ بينهم[4]  . وأنصفت الرّجل إنصافا: عاملته بالعدل والقسط[5]وفي القاموس: انتصف منه: استوفى حقّه منه كاملا حتّى صار كلّ على النّصف سواء"[6] ومنتصف اللّيل والنّهار وسطه، فالانتصاف توسط وفى الاصطلاح: استيفاء الحقوق لأربابها واستخراجها بالأيدي العادلة والسياسات الفاضلة[7] بأن تعطي غيرك من الحقّ مثل الّذي تحبّ أن تأخذه منه لو كنت مكانه ويكون ذلك بالأقوال والأفعال، في الرّضا والغضب، مع من تحبّ ومع من تكره. حتّى لو كان هذا الغير مخالفا لك في الرّأي، أو في الدّين، أو في المذهب، أو غير ذلك ممّا يقتضي التّحامل، أو يكون مظنّة للجور. ومنه : أَدَاءُ حُقُوقِ النَّاسِ كَامِلَةً مُوَفَّرَةً وَأَنْ لَا تُطَالِبَهُمْ بِمَا لَيْسَ لَك، وَلَا تُحَمِّلَهُمْ فَوْقَ وُسْعِهِمْ، وَتُعَامِلَهُمْ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوك بِهِ، وَتُعْفِيَهُمْ مِمَّا تُحِبُّ أَنْ يُعْفُوك مِنْهُ، وَتَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ بِمَا تَحْكُمُ بِهِ لِنَفْسِك وَعَلَيْهَا"[8]

 

والإنصاف والعدل توءمان نتيجتهما علوّ الهمّة وبراءة الذّمّة باكتساب الفضائل وتجنّب الرّذائل"[9] وكل ما يقال فى العدل يقال في الإنصاف. وكَيْفَ يُطْلُبُ الْإِنْصَافُ مِمَّنْ وَصْفُهُ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ لآية الأحزاب[10]، ولا ينصف الخلق من لم ينصف الخالق ، وكذا من لم ينصف الرسول عليه الصلاة والسلام، وفِي الأَثَرٍ «ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَلَقْتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَايَ»[11] " خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، ...»  ومن إنصاف الدستور الإلهي "وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً"[12] دعوة إلى الحذر من اتهام البرآء. ودعوته إلى الإنصاف مع الكل والتحذير من الحيف "كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما.. ...."[13] " وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا"[14] "كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا.."[15]  "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا "[16]  ومع غير المسلمين"لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ..* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"[17]  - وفى الصحيح:«لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[18] )وفي مسلم: « (أو قال لجاره)[19] ..»  وفيه "ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ[20]، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ")[21] وفيه (قال أبو الزّناد بن سراج وغيره: «إنّ العبد إذا اتّصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقّا إلّا أدّاه، ولم يترك شيئا ممّا نهاه عنه إلّا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان»[22] وفيه " إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا»[23]  والدستور الإلهي المثل الأعلى للإنصاف ، فاليهود أشدّ النّاس عداوة للّذين آمنوا[24] إلّا أنّ هذه العداوة لم تمنعه من إنصافهم يمدحهم – أو بعضهم - إن أحسنوا وأطاعوا، ويذمّهم إن عاندوا وشاقُّوا ؛ فلا يضعهم جميعا فى كفة واحدة ، "وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ"[25] "وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ"[26] "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا"[27] "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ..."[28] وفى الصحيح:« «.. مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ....»[29] «.. وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ سَبْعِينَ عَامًا»[30] ومن نماذج السيرة والتاريخ: لمَّا بُعِث ،عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر ليخرص لهم الثّمار، فأرادوا أن يرشوه، فقال: « يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ , أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ , قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ , وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ , وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ , قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ , فَإِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ , وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي , فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ , قَدْ أَخَذْنَاهَا فَاخْرُجُوا عَنَّا»[31] (فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنَ الرَّشْوَةِ ، فَإِنَّهَا سُحْتٌ) أَيْ حَرَامٌ (وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا) لِحُرْمَتِهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ[32]. قال ابن عبد البرّ: فيه «إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ أَبْغَضَ فِي اللَّهِ لَا يَحْمِلُهُ الْبُغْضُ عَلَى ظُلْمِ مَنْ أَبْغَضَه»  . فمن كَانَ حبه فِي الله وبغضه فِي الله لم يحملهُ البغض على أَن يجور وَلَا الْحبّ على أَن يَأْثَم وَمن أحب وَأبْغض لهوى نَفسه جَار على الْمُبْغض وأثم فِي جنب المحبوب، ومَنْ يَحْمِلُهُ الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُ يَكُونُ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْحَقِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُرَاعِي الْمُمَاثَلَةَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدْلِ[33] لقد امتثل عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- المنهج الرّبّانيّ ..الّذي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ..في هذا الحقّ يتساوى عند الله المؤمنون وغيرهم.  ولما قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ ، عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ» فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوك"[34] والتأبي على ظلم الملوك قمة عزيزة فى الإنصاف. والإنصاف دليل كمال الإيمان وصحّة الإسلام. والتّجرّد من الأنانيّة، بالإنصاف تسود المحبّة بين النّاس ويشعر كلّ امرئ بالطّمأنينة على نفسه وماله وعرضه ودينه في حاضره ومستقبله وتعود الحقوق إلى أصحابها عدالة، ،وتنتزع صفات الحقد والكراهيّة وهو عامل أساسيّ في استقرار المجتمعات..

 

 

[1] صحيح البخاري 62 - كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

بَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا» أخرجه مسلم في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم

 

[2] مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 431- 432)

[3] الصحاح (4/ 1432- 1434)

[4] الجمهرة لابن دريد (3/ 82)

[5] المصباح المنير (835)

[6] القاموس المحيط (1107) ط. بيروت.

[7] التوقيف على مهمات التعاريف (64) .

[8] زاد المعاد (2/ 407) بتصرف

[9] التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (64) .

[10] الأحزاب:72

[11] المرجع السابق (2/ 410) ، وقال محققا «زاد المعاد» رواه الديلمي والرافعي عن علي رضي الله عنه ثم ذكرا أنه لا يصح.

[12] النساء : 105- 112

[13] النساء: 135

[14] المائدة : 2

[15] المائدة : 8

[16] الأنعام : 152

[17] الممتحنة : 8+9

[18] البخاري- الفتح 1 (13) ، ومسلم (71) . ولفظهما واحد

[19] صحيح البخاري 2 - كِتَابُ الإِيمَانِ بَابٌ: مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. أخرجه مسلم في الإيمان باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لإخيه

[20] بَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف، وَإِفْشَاءُ السَّلَام , كُلُّهَا بِمَعْنَى وَاحِد. شرح النووي على مسلم (ج 1 / ص 143)

[21] البخاري- الفتح (1/ 103)

[22]  (2) البخاري- الفتح 1 (104) .

[23] صحيح البخاري 86 - كِتَابُ الحُدُودِ كَرَاهِيَةِ الشَّفَاعَةِ فِي الحَدِّ إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ

[24] المائدة : 82

[25] الأعراف/ 159

[26] المائدة/ 13

[27] آل عمران : 75

[28] آل عمران : 113- 115

[29] أبو داود 3 (3052) حديث رقم: 2655 في صحيح الجامع

[30] حديث حسن  : غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص: 272)

[31] الحديث أخرجه أحمد (3/ 367) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 121) : ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه، وللحديث شواهد في موطأ مالك (439) ، وأبي داود (347) ، وابن ماجة (1/ 557- 558) ، والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا

[32] شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 543)

[33] تفسير المنار (6/ 107)

[34] صحيح مسلم ِ" 52 - كتاب الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ 10 - بَابُ تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين