الإنسان و الدين

صادق إبراهيم عرجون
 
 
 أيها السادة:
في استطاعة العقل الإنساني بيانُ حقيقة الحياة الإنسانية واكتناه كنهها وحدَها، كما تحدُّ الحقائق المحصورة، ما دام المدى بين عالم المادة وعالم الأرواح مترامي الأطراف بعيد الغور، فبينما علماء المادة يحاولون أن يحدُّوا الحياة طبق مهيعهم في البحث العلمي، فلا يأتون إلا بنظريات أساسها الظنون والأوهام لا يعضدها علم ولا يسيغها عقل قائلين لا شيء في الكون إلا المادة، وليس العالم في نظرهم إلا مجموع ذرَّات في حركة مُستمرَّة.
ترى علماء الأرواح يسخرون من هذه الأقاويل، ويهزؤن بقائليها مُتلمِّسين الأسباب لتمديد الحياة وفق منهجهم في البحث، قائلين: إنَّ ثم عالماً روحياً قبض على ناصية الأبدية، وترفَّع عن خصائص المادة من الفناء والزوال.
وليست الحركة المستمرة إلا أثراً من آثار هذا العالم الروحي البديع، وما عالم المادة في جانب عالم الأرواح إلا كحلقة في فلاة.
 
وهذا الذي نطقت به الكتب السماوية والشرائع الإلهية: [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ] {المدَّثر:31}.
 
أجل: أبدع الله جلَّ شأنه الإنسان، وأوجده على ظهر المسكونة وحيداً أعزل، مجرَّداً عن أسباب الدفاع عن النفس، ضعيفاً إذا تمحض النظر إلى شخصه المادي وهيكله الجثماني، ولكن حكمة الحكيم أبت أن يترك الإنسان بهذا العجز الشائن في محيط الحياة المتلاطم الأمواج، فأنشأه خلقاً آخر، وجعل له سراً إلهياً ومعنى ملكوتياً، سمَّاه القرآن الكريم روحاً ونفساً وعقلاً. وهو معترك النظَّار من قديم الزمان فلم يعرف إلا بخواصه الذاتية وآثاره العملية.
 
ويرى المحققون من فلاسفة الإسلام أنَّ أخص خواص الروح الإنساني تجرده عن المادة، وبعده عن الحسِّ والمُشاهدة، ومن ثَمَّ تخبَّط الماديون في ظلام المادة الحالك فأنكروا الروحَ الإنساني، وقالوا: ليس الإنسان إلا هذا الهيكل المحسوس، والشخص الملموس تطبيقاً لقانونهم الطيني الأصم.
ولئن أعوزنا الدليل على تبديد أوهامهم فحسبنا أنَّ سنن التطور، وقانون تنازع البقاء وبقاء الأصلح الأقوى - وهم به مؤمنون -:  تأبى بقاء هذا المخلوق الضعيف بجانب الأسد في قوته، والفيل في ضخامته كلَّ هذه الحقب المتطاولة، وسط أعاصير الحياة وزوابعها مع تسلُّطه على كل شيء في الحياة، فلقد استخدم الماءَ والهواءَ، والنار والحديد، والجبال والحيوان، بل الطبيعة نفسها...
 
فليت شعري لو كان الإنسان كما زعموا عبارة عن هذه البنية المتبدلة المتغيرة فبأي شيء استولى على كل هذه الأشياء، وتحكم فيها تحكَّم المسيطر المطلق؟! أليس هذا دليلاً صارخاً على أنَّ هذا أثر من آثار الروح الإنساني؟! وحجَّة ناطقة على أنَّ الإنسان شيء آخر وراء المادة عجزت عن إدراك خصائصه عقول الماديين؟!.
 
أيها السادة:
المادة لا تقبل إلا المادة أو عوارضها، ولكن ما بال الإنسان يفتق بفكره حجاب المادة ويطمح إلى شيء أرفع من الذرة والخلية؟.
أليس الإنسان يدرك المعقول الصرف، فبأي جزء من أجزاء المادة أدرك هذا المعقول؟!
 
يقول بعض الماديين: إنَّ الفكرة الإنسانية: إنما هي نتيجة اتحاد كيماوي في المخ، أليس هذا المخ مادة صماء؟ فكيف أنتج الشيء العقلي البحت؟!.
أليس الإنسان يزداد بهذه المعقولات كمالاً وهي على كثرتها لا يزاحم بعضها بعضاً! وأنَّى للمادة أن تقبل إلا صورة واحدة، فإننا نعلم أنَّ قطعة الفضَّة مثلاً إذا صنعت جاماً فهي لا تكون كوزاً إلا إذا زالت عنها الصورة الأولى، وانخلعت منها انخلاعاً تاماً.
 
ألا إنَّ الله لن يملي للماديين لينشروا سمومَهم في العالم، بل قد أقام العلمُ البراهين الساطعة على كساد تجارة الماديين، وفساد نظريتهم في الكون، وها هو قد بعث بصيصاً من النور بين أحضانهم، فأضاء كثيراً من السبل للفكر الإنساني... وانكشف الطريق أمامه انكشافاً بيِّناً ليصلَ به إلى ميناء السلام: [مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ] {الإسراء:15}.
 
أيها السادة:
ذلك المعنى الروحي هو الأخلق بأن يسمى إنساناً على الحقيقة؛ لأنَّ مدلول الأنس فيه غريزة من غرائزه وطبيعة من طبائعه، وليس هذا الجسم الطيني، إلا آلة مسخرة لقضاء لبانات المعنى الروحي، وتنفيذ رغباته، وبهذا كان الإنسان حساساً بطبعه، ميالاً بغريزة حب الاستطلاع، وتعرف الحقيقة إلى تعرف ما حوله من الآيات الكونية؛ فنظر فرأى عظمةً وجلالاً وتدبيراً وإحكاماً، فعلم بفطرته السليمة أنَّ جلال هذا الوجود لا يصدر إلا عن حكيم، مُدبِّر، قادر، عليم سبحانه.
 
فتكوَّن في نفسه من هذا النظر إحساس العلم والمعرفة، وهو مبدأ التدين والاستعداد للفيض الإلهي، فكان مهيئاً بهذا الإحساس لقبول وحي السماء وأمر الدين.
 
وإذا كان الدين موجوداً مع الإنسان الأول ذي المعنى الروحي السامي، وله عراقة في نفسه، وأصل أصيل مُنزَّل من عند الله لهداية الخلق إلى ما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم على ألسنة قوم اصطفاهم وميَّزهم بكمال العقل وسلامة الفطرة، فلا يستطيع  أن يتخلَّى عنه: [فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] {الرُّوم:30} .
 
وما زالت الشرائع مُتفقة في الأصول والعقائد، مُتشعبة في الأمور المعاشية المدنيَّة على حسب الأزمنة والأمكنة والأمزجة واستعداد الأمم، وكلما كانت الأمة أكملَ استعداداً للنواميس الإلهية كانت الشريعة أكمل وأدوم، وهذا هو سرُّ الفرق بين شريعة القرآن الكريم والشرائع السابقة كشريعة التوراة والإنجيل.
 
أما بعد:
فماذا يقول هؤلاء الثائرون على الأديان خصوم الإنسانية أعقاب الإباحية دعاة الإلحاد، وأنصار الدعارة والأدب المكشوف، هل يزورون معرضين عن الحق، وينفضون رؤوسهم وتأخذهم العزة بالإثم؟ أم ينكفئون راجعين إلى الهداية مُنيبين إلى ربهم نادمين على ما فرَّط منهم...
 
ألا ليسمعوا إن كانوا لا يؤمنون إلا بأقاويل الغرب، قول رينان: (ومن الممكن أن يضمحلَّ ويتلاشى كل شيء نعدُّه من ملاذ الحياة ونعيمها، ومن الممكن أن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي الدين أو يتلاشى وسيبقى أبد الآباد حجَّة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يرد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة الطينية).
وقال عالم ألماني: ( الدين مُخلَّد مثل خلود الإحساس الذي ينتجه).
 
هذه أيها السادة، مكانة الدين من نفس الإنسان وما ذاك إلا لأنَّها تشعر تمام الشعور بأنَّ الدين هو الطريق الوحيد المعبَّد الذي يوصلها إلى سعادتها ونعيمها.
 
وإذا كانت هذه مَكانة الدين عُموماً فالدين الإسلامي هو حماطة القلب، وسويداء الفؤاد وإنسان العين، هو المهذِّب للنفوس، نصير الإنسانية الجامع لكل فضيلة أتى بها دين سماوي، ولكل مكرمة وصل إليها عقل بشري.
وحسبه أنَّ الناس أمامه سواسية، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وقد علم القوم منه ذلك، وأنَّ كل دين عداه منسوخٌ به فتألَّبوا عليه، وفي عنقنا واجب حمايته، فعلينا بالاعتصام لصدِّ تيار الإلحاد حتى يعيش الناس هادئين مُطمئنين.
 
والله ولي التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


([1])  مجلة الهداية الإسلامية، مجلد 1/ جزء 9، ( صفر 1348هـ ).
وهي خطبة ألقاها حضرة الفاضل الأديب صاحب التوقيع في دار جمعية الهداية الإسلامية في 20 محرم سنة 1348هـ.
 


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين