الإمام أبو المعالي الجويني 

تجديد فريد في الدين

ذكرنا في الحلقة الماضية أول محاولات التجديد في تراثنا الإسلامي التي بدأها الإمام أبو بكر الباقلاني، وذكرنا أن محاولات التجديد لم تتوقف على مدار تاريخنا الإسلامي، وأن محاولة التجديد الثانية جاءت من قبل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت 478هـ) الذي طرح نظرية كادت تشكل في حينها منعطفاً تاريخياً فعلياً في أصول الفقه، طرحها في كتابه البرهان، وقد أقام الجويني نظريته على أساس المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية وهي جملة المعاني والغايات والحِكَم العامَّة والخاصَّة التي ترومها الشريعة من نصوص الوحي، فقد رأى الجويني أن معرفة المقاصد الكلية للشريعة هي العمدة في النظر الاجتهادي، ولهذا دعا إلى تنزيل هذه المقاصد تنزيلاً يراعي مقتضيات العصر ومشكلات الناس الذين هم محلُّ الحكم الشرعي، وبناء على هذا وضع مجموعة من القواعد التي بدت في حينها أشبه بعلم جديد في أصول الفقه، له أدلته الخاصة، واستقلاله عن أصول الفقه التي وضعها الشافعي، وعن طرائق المذاهب الفقهية المعروفة في عصره .

 ومن أبرز ملامح النظرية التي طرحها الجويني :

1 - أن مقاصد الشريعة تتجه إجمالاً إلى جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين (الدنيا والآخرة) 

2 - أن المصدر النسبي والمؤقت للأحكام يعود إلى مدارك العقول .

وبناء على هذين العنصرين طرح الجويني ـ بجرأة غير مسبوقة - فرضية فحواها أنه قد يأتي على الناس زمن يخلو فيه عن أصول الشريعة جملةً، حيثُ لا يَبْعُدُ في مُطَّرد العُرْفِ انمحاقُ الشَّريعةِ أصْلاً حتى تَدْرُسَ بالكُلِّية، ليصل الجويني من هذه الفرضية المستقبلية إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي ضرورة تدريب العقل البشري على الاجتهاد، في إطار المقاصد الكلية للشريعة، من أجل تأهيله لمواجهة تلك التحولات إن وقعت (!)

ويشهد الواقع اليوم أن ما تنبأ به الجويني قد حصل بالفعل، فإن كثيراً من المجتمعات البشرية اليوم - بما فيها بعض المجتمعات المسلمة - قد استبعدت الدين من حياتها استبعاداً تاماً، وصارت الدراسات الإنسانية في تلك المجتمعات هي مصدر الصواب والخطأ، وصارت القوانين وسلوكيات المجتمع تقرَّر بناء على نتائج تلك الدراسات ..

من هنا ندرك بُعد النظرة المستقبلية التي ذهب إليها الجويني، إذ تؤكد على أمرين :

- حق العقل البشري بممارسة الوظيفة التي أودعها الخالق عزَّ وجلَّ فيه، إلى أبعد حد ممكن .

ضرورة تأهيل العقل المسلم ليصبح قادراً على السياحة في فلك المقاصد الكلية للشريعة حتى وإن غابت عنه النصوص التفصيلية .

ولم يكتف الجويني بهذه النقلة الواسعة لتطوير العقلية الأصولية، بل دعا كذلك إلى إعادة النظر في المؤهلات التي اشترطها الأصوليون الأوائل في المجتهد، لأنها جعلت مصالح الناس رهناً بوجود فقيه قلَّما يجود الزمان به، ولهذا رأى الجويني أنه يكفي في المجتهد : معرفته بالعربية دون تبحُّر، وتحصيل ما تمسُّ الحاجة إليه من أصول الفقه وقواعده، وأسقط عنه بقية الشروط بما فيها التقوى والورع لأنها لا تطعن بقدرة المجتهد على إدراك الأحكام ومآخذها .

ولا ريب بأن هذا الطرح الجريء من الجويني - سواء وافقناه أم عارضناه - كان ينتظر من علمائنا من يناقشه مناقشة علمية، وهذا ما حصل بالفعل، فقد قيض الله عز وجل لهذه المهمة إمام كبير هو "الإمام الشاطبي" رحمه الله تعالى الذي صاغ هذا الطرح في نظرية متكاملة ستكون موضوع حديثنا في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى .. وفي هذه الوقائع من تاريخنا الأصولي والفقهي دليل ناصع على حرص علمائنا على التجديد، وعدم الجمود والتقليد كما يزعم المغرضون الذين لا يرون في تراثنا إلا الجمود والتقليد والتخلف .. فتأمل !

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين