الإعلام عمن تولى إفتاء حلب من الأعلام (5)

المفتون في القرن السادس الهجري

فاطمة السمرقندية وأبو بكر الكاساني

3- فاطمة السمرقندية

بعد 580 هـ. بعد 1185م.

فاطمة بنت محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي، صاحب (تحفة الفقهاء)، وزوجة أبي بكر الكاساني.

علّامة، فقيهة، مفتية، فاضلة، ولدت في تركستان في مدينة كاسان، لاب فقيه ومحدث، فتفقهت عليه، وحفظت تحفته، حتى كان والدها لا تأتيه الفتوى الا وعرضها على ابنته وسمع رأيها بها، فكانت الفتوى تخرج وبها توقيعان توقيعه وتوقيع ابنته، واشتهرت بخطها الجميل.

خطبها من أبيها الكثير من ملوك الروم والعرب من المسلمين إلا أن والدها لم يجب أحدًا لهذا، وزوجها تلميذه النجيب علاء الدين الكاساني، بعد أن شرح التلميذ كتاب شيخه (تحفه الفقهاء) في كتابه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، وكان مهرها هذا الكتاب، حتى قال الفقهاء (شرح تحفته وزوجه ابنته)، وكان زوجها الكاساني ربما يَهِمُ[1] بالفتوى فترده إلى الصواب، وتعرفه وجه الخطأ، وكانت تفتي، وكان زوجها يحترمها ويكرمها، وكانت الفتوى تخرج على خطها وخط أبيها السمرقندي، فلما تزوجت الكاساني كانت الفتوى تخرج بخط الثلاثة [2]. وهي التي سَنّت الفِطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية، وكان في يديها سواران أخرجتهما وباعتهما، وعملت بالثمن الفطور كل ليلة، واستمرت هذه العادة بعدها.

تنقلت مع زوجها في كثير من البلاد حتى استقرا في حلب بجوار الملك الأيوبي نور الدين محمود، الذي أكرمهما، وكان كثيراً ما يستشيرهما في أموره الخاصة، وكانت فاطمة تحث زوجها كثيراً على العودة إلى موطنهما، فلما أراد إجابتها علم الملك نور الدين محمود، فأرسل إليها أن تبقى في حلب، فأجابته وبقيت هناك إلى أن ماتت سنة: 581هـ، ودفنت في مقبرة الصالحين، بمسجد إبراهيم الخليل بحلب[3]، وكان زوجها لا ينقطع عن زيارتها كل ليلة جمعه إلى أن مات هو الآخر بعدها بست سنين[4]

4- أبو بكر الكاساني

587 هـ. 1191م.

أبو بكر علاء الدين بن مسعود بن أحمد الكاساني، نسبة إلى كاسان بلدة وراء الشاش[5].

ملك العلماء، فقيه وأصولي حنفي، اجتهد في طلب العلم منذ الصغر، فحفظ القرآن الكريم، ثم ارتحل إلى بخارى، واشتغل فيها بطلب العلم على علمائها، واستقر به المقام على شيخه وأستاذه الإمام علاء الدين السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل (التحفة في الفقه الحنفي)، و(شرح التأويلات في تفسير القرآن العظيم)، وغيرها من كتب الأصول. وسمع الحديث منه ومن غيره من العلماء، وبرع في علمي الأصول والفروع، وشرح كتابه (تحفة الفقهاء) شرحاً عظيماً في ثلاث مجلدات وأسماه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) [6]. فزوجه ابنته فاطمة وجعل هذا الشرح مهراً لها.

قدم حلب رسولاً من ملك الروم[7] إلى الملك نور الدين محمود الزنكي فولاه التدريس في المدرسة الحلوية وتلقاه الفقهاء بالقبول، فكانوا يبسطون له السجادة ويجلسون حولها انتظاراً لدرسه.

وقد تقدم في ترجمة زوجته الفقيهة الفاضلة فاطمة السمرقندية، أن الفتوى كانت تخرج بخطها وخط أبيها فلما تزوجها الكاساني كانت تخرج بخط الثلاثة.

ترك الإمام الكاساني عدداً من الكتب بالإضافة إلى كتابه بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع منها: كتاب (السلطان المبين في أصول الدين)، وكتاب (المعتمد من المعتقد)، وغيرها من الكتب، وكان حريصًا على العلم والتعيلم، لا يمنعه عنه مانع، ولما ألم به مرض النقرس كان إذا اشتد عليه الألم، يأمر من حوله بأن يحمل في محفة ويخرج إلى الفقهاء، ويقدم درسه، ولا يمنعه المرض عن أداء واجبه التعليمي، ولا يذكر أنه تخلف عنه مرة، حتى لقي وجه ربه، يوم الأحد العاشر من شهر رجب سنة: سبعة وثمانين وخمسمائة، ودفن عند زوجته في مقام إبراهيم الخليل، وقبره يزار إلى اليوم[8].

[1] يتوهم أو يخطئ

[2] الخط هنا بمعنى التوقيع.

[3] من الطريف أنني كنت أزور قبرها كلما أردت زيارة أحد قبور العلماء، الذين كنت أترجم لهم، في مقبرة الصالحين، وكان في المسجد رجل بلحية طويلة وعمامة ضخمة، يجلس بجوار القبر فلاحظ كثرة زيارتي لقبرها وقبر زوجها الكاساني، فأراد هذا الرجل ان يتقرب مني، ويقص على حكاية هذه (الولية الكبيرة)، قال لي: هل تعرف قصة هذه (الولية)؟ قلت: خبرني، قال: هذا القبر وأشار إلى قبر الكاساني هو قبر زوج هذه (الولية)، وكان هو ولي أيضاً، وكانت تحبه كثيراً، وتكثر من زيارته بعد موته، وتأتيه بالطعام وتذهب، وفي يوم من الأيام جاءت هذه (الولية) ودخلت هذا المكان، وخلعت ملحفتها وعلقتها على هذا المشجب، وأشار لي إلى مشجب في الحائط عليه ملحفة سوداء قديمة، وإلى الآن لم تخرج، انظر الملحفة، ما زالت معلقة في مكانها، وفي كل ليله يسمع المارون حديثهما، (هذه القصة باختصار شديد) في الحقيقة لم أجرؤ على مناقشته، حتى أنني لم أجرؤ على إخباره بأن هذه المرأة توفيت قبل زوجها بست سنوات، فخرجت من المكان وانا أقول (الله يعين هؤلاء العوام كم يسمعون من هذه الخرافات ويصدقونها) (المؤلف).

[4] الجواهر المضية 4/122 باب النساء ترجمة رقم 2012، والدر المنثور في طبقات ربات الخدور ص 367، وإعلام النبلاء 4/259.

[5] كاسان أو كاشان: مدينة كبيرة في أول بلاد تركستان. فتوح البلدان، 3/769، ومعجم البلدان، 4/488.

[6] قال عنه العلامة ابن عابدين في حاشيته: (هذا كتاب جليل الشأن لم أرَ له نظيراً في كتبنا. ا.هـ).

[7] انظر سبب إرساله في إعلام النبلاء 4/287.

[8] الجواهر المضية 4/24 في كتاب الكنى، 3/15، وتاج التراجم 84-85، وكشف الظنون 371-996، والفوائد البهية 53، وإعلام النبلاء، 4/287، والأعلام، الزركلي، 2/70.