الإعلام عمن تولى إفتاء حلب من الأعلام (20)

المفتون في القرن الحادي عشر الهجري

58 ـ أبو الجود البتروني

1039هـ 1629م

الشيخ أبو الجود بن عبد الرحمن بن محمد البتروني[6]، الطرابلسي ثم الحلبي الحنفي.

فقيه علّامة، بارع في الفقه والتفسير.

قدم حلب مع والده وإخوته، سنة: 964هـ، وصار والده واعظ حلب، وخطيب جامعها الأموي الكبير.

اشتغل أبو الجود على علماء عصره حتى نبغ وتولى الوعظ والخطابة بالجامع الأموي الكبير، والتدريس في عدد من مدارس حلب، وقد أفاد منه كثير من علماء حلب وفقهائها، واشتهر وذاع صيته وعلا شأنه في حلب، حتى تولى قضاء القدس والمدينة المنورة، والإفتاء في مدينة حلب، ونال من الرتب ما لم ينله أحد من أقرانه.

ثم تقاعد عن القضاء وبقي في الإفتاء، حتى نزع منه منصب الإفتاء الشيخ أحمد الكواكبي المتقدم ذكره، وبعد فترة استطاع استرداد المنصب منه، وبتكرار سفر الكواكبي إلى القسطنطينية استطاع عزل أبي الجود مرة ثانية، وأخذ منصب الإفتاء منه، ثم عزل الكواكبي بالقاضي شرف محمد أفندي.

كان المفتي أبو الجود صاحب سخاء ومروءة وحمية.

أحبه الناس، ووثقوا بفتاويه، حتى صار العلماء يحكمونه بالخلافات التي كانت تحصل بينهم.

وكانت وفاته في غزة صفر سنة تسع وثلاثين وألف للهجرة، وقد ناهز التسعين وهو في نشاط ابن العشرين، وحزنت عليه مدينة حلب، ورثاه عدد من شعرائها. منهم حسين الجزري وفتح الله النجار ومحمد العرضي وقد أورد الطباخ بعض هذه المراثي في إعلامه [7].

ومن مرثية محمد العُرضي التي تقع في ثلاثة وعشرين بيتاً قوله [8]:

بفقدك قامت نواعي الحكم=وقد فُلّ بعدك حدّ القلم

أقامت مآتمها المشكلات=عليك وسوّد وجه الرقم

فتباً ليومك من طارق=نسخت به لذتي بالألم

إلى أن يقول:

يعز علي بأن ينطوي=بساط الدروس ونشر الحكم

فقد شدت مجلس أهل العلوم=ولكن بأيدي المنون انهدم

سقى جدثاً أنت ثاوٍ به=رخيُّ السيولِ مفاض الديم

وقيل في تاريخ وفاته:

إنّ أبا الجود فاق الورى=وروّج العلم وساد سؤددا

أدركه الموت الذي تاريخه=العلم مات بعده وأرقدا

1039

59 - محمد بن عبد الرحمن البتروني

1042هـ 1632م

محمد بن عبد الرحمن بن محمد البتروني، ثم الحلبي الحنفي، مفتي الحنفية بحلب، ويعرف بمفتي العقبة لسكناء في محلة العقبة [9] قال المحبي في خلاصة الأثر عنه: (كان قليل البضاعة في العلم، وتولى الفتوى ولم يكن أهلاً لها..) [10]

ومع أنه لم يكن بمنزلة أخيه أبي الجود، فقد أخذ منه منصب الفتوى، وذلك بمكر من الشيخ فتح الله البيلوني.

ورضخ الاخوان لمكر البيلوني، ليقينهما بأن الأذى والشر سيلحق بهما ما لم ينفذا ما خطط له[11]، وهكذا تنازل أبو الجود عن الفتوى لأخيه محمد، ولم يقبلها بعد ذلك، وتصرف لها محمد ووجهت بعده لأخيهما أبي اليُمن (وكان محمد وأبو اليُمن بمنزلة الخدام عند أخيهما أبي الجود..) [12].

وكانت وفاة محمد سنة: اثنتين وأربعين وألف للهجرة النبوية الشريفة[13].

60- أبو اليُمن البتروني

1046هـ 1636م

أبو اليُمن، بن عبد الرحمن بن محمد البتروني الحلبي الحنفي، شقيق أبي الجود ومحمد السابقين.

فاضل، فقيه، من علماء حلب وفقهائها، قدم حلب مع والده وأخويه، سنة أربع وستين وتسعمائة هجرية، ونشأ في الجد والاجتهاد، وأخذ عن علماء عصره في حلب، ونبغ ودرّس في عدد من المدارس في حلب منها العادلية[14] والقرناصية[15] وغيرهما.

آلت إليه الفتوى بعد أخيه محمد، وبقيت في يده مدة طويلة، وأقبل عليه الناس في حلب، وقصده طلاب العلم والعامة، يستفتونه ويأخذ برأيه؛ وذلك لسلامة طبعه وكرم أخلاقه وتودده للناس.

قال عنه البديعي [16] في ذكرى حبيب: "وهو بحر علم، وطرد حلم، وواحد الآفاق في مكارم الأخلاق.."[17] وله بعض أبيات من الشعر حسنة، ولما أحس بدنو أجله فرغ لابنه إبراهيم عن كل وظائفه، ومنها الفتوى وأرسل عرضه بهذا إلى دار السلطنة، وصادف أن كان الشيخ مصطفى العلبي هناك يسعى بمنصب له بحلب، فوجد شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية (يحيى بن زكريا الأنصاري) الفتوى أسهل وأنفع منصب له، فولّاه إياها، وهكذا خرج منصب الفتوى من يد آل البتروني.

توفي الشيخ أبو اليُمن سنة: ست وأربعين وألف للهجرة النبوية الشريفة [18].

المدرسة القرناصية

[6] نسبة إلى (البترون): مدينة لبنانية ساحلية تقع بين بيروت وطرابلس، وقد أطلق عليها ياقوت الحموي اسم (البثرون)، وقال: حصن بين جبيل وأنفه على ساحل بحر الشام. يُنْظَر: معجم البلدان، 1/402 ومصور لبنان الحديث.

[7] تراجم الأعيان 1/260، والكواكب السائرة 3/163، ومعادن الذهب ص57-106، وخلاصة الأثر 1/114، وإعلام النبلاء 6/215.

[8] والقصيدة بتمامها ذكر الشيخ محمد راغب الطباخ في إعلام النبلاء، 6/217.

[9] العقبة: وتسمى عقبة بن المنذر: حي من أحياء حلب القديمة يقع قرب باب أنطاكية، وسميت عقبة؛ لنشوزها عن بقية حلب، وهي حي نزه الهواء، وكانت مسكناً لأغنياء حلب ووجهاتها وذلك لإشرافها على نهر قويق والبساتين المحيطة به. يُنْظَر: نهر الذهب، 2/70، وأحياء حلب وأسواقها، ص280.

[10] خلاصة الأثر 3/493.

[11] انظر تفاصيل المكيدة التي دبرها فتح الله البيلوني في إعلام النبلاء 6/232 وخلاصة الإصر 3/493.

[12] خلاصة الأثر 3/493.

[13] معادن الذهب ص203، 235، وخلاصة الأثر 4933 وإعلام النبلاء 6/231.

[14] العادلية: بناها جامعاً محمد باشا بن أحمد دوقه كين في حدود سنة: 963هـ، على طراز جوامع العثمانيين؛ جمالاً وبهاء، ووقف عليها الأوقاف العظيمة، وعُرف بجامع العادلية لأنه مجاور لدار العدل، وله بابان: أحدهما غربي تجاه خان البرغل في الطريق المؤدي إلى سوق المحمص، والثاني شرقي إلى الشمال من سوق القطن. يُنْظَر: نهر الذهب، 2/89، وإعلام النبلاء، 2/203، وأحياء حلب وأسواقها، ص217، 342.

[15] القرناصية: مدرسة كانت جامعاً، بناء بكتمر القرناصي، سنة: 770هـ، وفي سنة: 1242هـ عمر فيه الحاج إسماعيل بن عبد الرحمن الشريف إحدى عشرة حجرة ووقفها لطلاب العلم، وهي الآن معطلة من طلبة العلم لكن الجامع موجود تقام فيه الصلوات الخمس، يقع في آخر شارع السجن، وقد أعيد ترميمه حديثاً وهو في حالة جيدة. يُنْظَر: نهر الذهب، 2/135، وإعلام النبلاء، 5/75، وأحياء حلب وأسواقها، ص116،293، والتعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر للمؤلف ص106.

[16] البديعي: يوسف البديعي الدمشقي، أديب من شعراء نقحة الريحانة، دمشقي المولد، استقر واشتهر بحلب، ومات في بلاد الروم (تركية)، سنة (1073هـ/ 1662م)، له عدد من الكتب في الأدب والتاريخ، منها: (ذكرى حبيب)، و(الحدائق البديعية)، وغيرهما. يُنْظَر: الأعلام، الزركلي، 8/220.

[17] إعلام النبلاء 6/234.

([18]) الكواكب السائرة 3/163، ومعادن الذهب ص86، 118، 134، 203، ،271، وخلاصة الأثر 1/156، وإعلام النبلاء، 6/233.