الإعلام عمن تولى إفتاء حلب من الأعلام(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، نحمدك اللهم على ما فضلت وأنعمت وتكرمت وأحسنت، ونصلي ونسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، معلم الناس الخير، وهاديهم إلى الصراط المستقيم، صراط اللذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من عبادك العلماء اللذين تكرمت عليهم بالعلم، وزينتهم بالفقه والفهم، وألزمتهم الحق، يتبعون سننه، ويسيرون على نهجه، ويرشدون الناس إليه.

هؤلاء العلماء هم المنار الذي ينير للناس طريق الهدى والرشاد، ويأخذ بأيديهم إلى مسالك الحق والسداد، ويهديهم إلى النور المنبعث من مشكاة كتاب الله، وسنة نبيه سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقد تبوؤوا أعلى المراتب في هذه الأمة، بقول الله تعالى ‏{‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}[1] وأضحوا مرجع العامة في أمور دينهم ودنياهم، يسألونهم ويستفتوهم في كل ما يعترض حياتهم من المشكلات، فيقدمون لهم الحلول المناسبة المأخوذة من الكتاب والسنة، أولئك المفتون هم الورثة الحقيقيّون للأنبياء والمرسلين، يسيرون على نهجهم ويقتدون بهم .

وقد حظي التاريخ الإسلامي على امتداد العصور بالعناية والاهتمام، وتناوله المؤرخون كلا حسب وجهته ونظرته، يفسر حوادث بالطريقة التي تخدم اتجاهه، ويلوي وقائعه لتساير أغراضه وهواه، لذا كاد بعض العلماء يستبعده من قائمة العلوم الموضوعية، وذلك لما يعتريه من تسلط الأهواء والأغراض المختلفة عليه.

وإذا كان هذا الرأي يحمل في طياته شيئاً من الحقيقة، فذلك ينطبق على التاريخ السياسي، الذي يتناول الدول والممالك والملوك والأمراء، أما علم التراجم، ومعرفة الرجال عند المسلمين، فهو يختلف عن هذا التاريخ، ذلك أنه نشأ جزءاً من علم مصطلح الحديث الشريف، هذا العلم الذي اختصت به الإمة الإسلامية بهدف رعاية دينها وصون أحاديث نبيها صلى الله عليه وسلم من العبث والكذب، وهو قائم في جانب من جوانبه على معرفة الرجال وتوثيقهم، وقد قيض الله لهذه لأمة رجالاً يضعون خوف الله بين عيونهم، وهم يترجمون لرجال الحديث بكل أمانة وموضوعية، لأنهم يرون هذا الحديث ديناً، فهم يتحرون عمن يأخذون عنهم دينهم، ولهذا فقد حظي هذا العلم بسقط كبير من المصداقية والموضوعية.

وقد منّ الله على مدينة حلب بمجموعة من العلماء والمؤرخين، الذين أرخوا لهذه المدينة العظيمة، وترجموا رجالها من العلماء والمحدّثين والأدباء والشعراء والأمراء والولاة وغيرهم عبر العصور، غير أني ما رأيت أحداً أفراد الفقهاء وعلماء الشريعة والمفتين فيها بالترجمة والتأريخ، وفي القرون الأخيرة خاصة.

ولقد كان للعلماء في حياتي منزلة عالية رفيعة مذ وعيت الحياة، فأحببتهم واقتفيت آثارهم، وتتبعت أحوالهم وأخبارهم ومؤلفاتهم، ومناهجهم في الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس، لهذا فقد عقدت العزم على سدّ هذا الفراغ، والترجمة لعلماء حلب وفقهائها في القرن الرابع عشر، فنهضت إلى ذلك، وقطعت شوطاً بعيداً، فقد منّ الله علي ويسر لي إصدار الجزء الأول من كتابي (علماء من حلب في القرن الرابع عشر)، وانتهيت بحمد الله من كتابة الجزء الثاني من الكتاب، وارجو الله أن ييسر لي طباعته وإخراجه في أقرب وقت، وقد ترجمت في الجزأين لأكثر من مئتين وخمسين علماً من علماء حلب، وأعمل الآن في تحرير الجزء الثالث من الكتاب، ورصدت في كتابي (التعليم الشرعي ومدارسه في حلب في القرن الرابع عشر) المدارس الشرعية التي تخرج فيها هؤلاء العلماء، ونقلوا هذا العلم لطلابهم فيها، أما كتابي (سلاسل الذهب من الأسر العلمية التي تزينت بها حلب)، فقد ترجمت فيها لعلماء من أسر حلبية أربت على الخمسين أسرة كان لهم الأثر البين في الحياة العلمية والثقافية في هذه المدينة العظيمة

أما المفتون فمكانتهم عظيمة في نفسي، وذلك لما لهم من الفضل على الناس عامة، وأصحاب الفتاوى والمشكلات خاصة، ولهذا فقد جمعت ترجمات لأكثر من مئة وخمسة وعشرين عالماً حلبياً، تولوا الإفتاء في هذه المدينة العظيمة، منذ القرن السادس الهجري إلى يومنا هذا، و بذلت كثيراً من الجهد والوقت في البحث عن هؤلاء المفتين وفي العصور القديمة خاصة، إذ لم تكن الفتوى منصباً رسمياً يتسنّمه رجل واحد، بل كانت عملاً شرعياً يجب على كل فَقِيه امتلك ناصية الفقه، ورأى شيوخه فيه الأهلية لذلك، فأجازوه في الفتوى والإفتاء، وما أكثرهم في تاريخنا الإسلامي، مع ندرة الكتب التي تتحدث عنهم.

عدت إلى كتب التاريخ والتراجم وطبقات الفقهاء، وبحثت في طياتها عن الفقهاء الحلبيين الذين ولدوا وعاشوا ثم توفوا في مدينة حلب، ثم أولئك الذين نزلوا المدينة أو أقاموا فيها، أو مروا بها، فرأيتهم أكثر من أن يحصيهم العدّ، فاستبعدت كلّ من لم يكن حلبي الأصل، ولم تكن وفاته في حلب، لكنه نزلها لفترة من الزمن، أو مرّ بها، أو أقام بها مدة، وبقي عددهم كبيراً جداً، عندها استبعدت كلّ من لم تنص كتب التاريخ والتراجم والطبقات على أنه أفتى، أو أُذِن لَهُ بالإفتاء، أو تولى إفتاء دار العدل، أو أسند إليه هذا المنصب بشكل رسمي، أو تولى أمانة التوى أو كتابتها.

عندها انحصر العدد في مجموعة من العلماء الفقهاء الحلبيين، تمكنْتُ من دراسة حياتهم باختصار، صارفاً اهتمامي إلى علم الرجل، وذكر شيوخه ومؤلفاته وأعماله وصلته بالفتوى، وبعض أخلاقه التي اشتهر بها دون الدخول في تفاصيل حياتهم، إلا ما كان من الفقهاء المفتين، الذين تولوا الفتوى في حلب في القرن الأخير، فقد فصلت القول في ترجمة حياتهم وأعمالهم ومؤلفاتهم، ذلك أنهم لم ينالوا حقهم من الاهتمام ولم يتناولهم أحد قبلي بالترجمة والتأريخ على ما أعلم.

وقدمتهم في هذا الكتاب، بعد أن صدرته بدراسة عن معنى الإفتاء، وتاريخه، والفرق بين الإفتاء والقضاء، والشروط الواجب تحققها في المفتي وأمين الفتوى وكاتبها، وآداب المفتي والمستفتي، ثم استعرضت عدداً من كتب الفتوى العامة، وكتب الفتوى في كل مذهب من المذاهب المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، واتبعت ذلك ببحث مفصل عن القوانين الناظمة لعمل دوائر الإفتاء والتدريس الديني الحديثة في الجمهورية العربية السورية

ولا بد من الإشارة إلى أن هؤلاء الرجال بشر غير معصومين، يجوز عليهم ما يجوز على جميع البشر من الأخطاء والهنات والمآخذ، غير أني تعمدت إغفالها، إلا ما كان ضرورة، وفي مجال الفتوى فقط، وذلك استجابة لوصاية الرسول صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم)[2] وتحسيناً للظن بهم، وإبقاءاً على مكانتهم العلمية، وأخيراً: مخافة أن يتخذ بعض الجهلة من أخطائهم مبرراً للتمادي في الغي والضلال، غير أني أشرت إلى بعض من تولوا الإفتاء في حلب، في عصرنا الحاضر، وكانت لهم مواقف تؤيد الظلم والطغيان الذي يمارسه الحكام الطغاة ضد شعبهم ، فأشرت إلى مواقف هؤلاء بموضوعية تامة

وقد عزوت كل ترجمة إلى مصادرها ومراجعها، متحرياً ألدقة والموضوعية، مبتعداً عن العواطف ما استطعت إلى ذلك سبلاً، وقد حاولت جهدي الاعتماد على الوثاق الرسمية، والسجلات والمصادر والمراجع، أجمع منها المعلومات عن المترجم له، وأحاول الجمع بينها وإثبات ما هو أقرب إلى الصحة والموضوعية، مستغنياً عن الروايات والقصص التي تتحدث عن الكرامة وخوارق العادات، والمبالغات التي درج بعض المؤرخين على ذكرها.

وكنت قد أصدرت كتابي (تاريخ الإفتاء في حلب الشهباء) سنة:1424هـ ـ 2003م، ولقي الكتاب في وقته قبولاً حسنا لدى السادة العلماء، وإقبالاً ملحوظاً من قبل طلاب العلم والمهتمين بتاريخ هذه المدينة المباركة، ولكنه لم يخل من بعض الملاحظات والهنات، ونقص في تراجم بعض المفتين الذين تولوا الإفتاء في حلب، ذلك أني لم أحصل على ترجمات لهم في ذلك الوقت، أو حصلت على معلومات قليلة مبتسرة لا تعطي الرجل حقه بل قد تحط من قدره.

وتلقيت من كثير من الإخوة الأفاضل المهتمين بتاريخ علماء هذه المدينة طلبات إعادة طبع الكتاب، ونشره لتعم فائدته ويصبح في متناول كل طالب علم، وعندما رجعت إلى الكتاب رأيت فيه كثيراً من الأمور التي تحتاج إلى المراجعة أو الإلغاء بالكلية أو الإضافة،

فرأيت أن أجعل منه نواة لهذا الكتاب، فقمت بمراجعة الأبحاث المتعلقة بتاريخ الإفتاء، وأضفت إليها أبحاثاً جديدة مهمة، كما توسعت كثيراً في ذكر الكتب التي تتحدث عن الفتوى وشروطها وشروط المفتي وأمين الفتوى والمستفتي وآدابه، ثم كتب الفتوى في كل مذهب من المذاهب المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، ثم كتب الفتوى العامة، وأتبعت ذلك بشرح مفصل عن الكتاب ومؤلفه وأهم أبحاثه ومن حققه ومن اعتنى به، وعدد طبعاته وتاريخها ومكانها، ثم قمت بإعادة كتابة ترجمات السادة المفتين، مضيفاً إليها الكثير مما يتعلق بحياتهم العلمية، مستفيداً مما اطلعت عليه من المراجع التي لم أقف عليها في كتابي الأول، واستدركت عدداً من العلماء اللذين تولوا الإفتاء في مدينة حلب، وفي المناطق التابعة لها، كمنطقة الباب، وجرابلس، وحارم، ومنطقة جبل سمعان، ولم تتيسر لي ترجماتهم في ذلك الكتاب، فترجمت لهم، وأضفت إلى هؤلاء المفتين اثنين تولوا الإفتاء بعد صدور كتابي الأول، وهؤلاء المفتون الجدد هم:

 

1. المفتي محمد بن عمر ابن الخباز الحنفي، المتوفى سنة: 752 هـ.

2. المفتي محمد بن نجم النجار الحنفي، المتوفى سنة: 794هـ.

3. المفتي عبد الرحمن بن فخر النساء الحنفي، المتوفى سنة: 930 هـ.

4. المفتي أحمد بن موسى الجابري الحنفي، المتوفى سنة: 1191هـ.

5. المفتي مصطفى بن أحمد الجابري الحنفي المتوفى سنة: 1194هـ.

6. المفتي أحمد الجذبة الحنفي، المتوفى سنة: 1287 هـ.

7. أمين الفتوى بكري العنداني، المتوفى سنة: 1345 هـ.

8. المفتي نجم الدين شهيد، مفتي منطقة حارم، المتوفى سنة: 1368هـ.

9. محمود العلبي مفتي منطقة منبج، المتوفى سنة: 1372هـ

10. كاتب الفتوى محمد مهدي الكردي، المتوفى سنة: 1373هـ.

11. المفتي محمد سعيد المسعود، مفتي منطقة الباب، المتوفى سنة: 1397هـ.

12. المفتي عبد الله خير الله مفتي منطقة جرابلس وجبل سمعان، المتوفى سنة: 1399هـ.

13. المفتي محمد زكريا المسعود مفتي منطقة الباب، استقال من عمله في الإفتاء سنة: 1425هـ

14. المفتي الدكتور الشيخ إبراهيم بن محمد السلقيني، المتوفى سنة: 1432هـ.

15. المفتي محمود عكام، ما زال قائما على الإفتاء حتى تاريخه.

16. أحمد شريف النعساني، ما زال على قيد الحياة حتى تاريخه

وزيلت كل ترجمة ذكرتها في هذا الكتاب بأهم المصادر والمراجع التي رجعت إليها، ليسهل على طالب العلم الرجوع إليها والاستزادة منها، ورفدت كتابي هذا بمزيد من الصور والوثائق التاريخية، وسميته

يتبع...

[1] المجادلة. 11

[2] رواه أبو داود والترمذي والطبراني والحاكم عن ابن عمر ضي الله عنه.