الإسلام أساس حياتنا، وسرُّ قوتنا، وضمان بقائنا – 3-

 

ماذا يصنع الإسلام أبعدُ من هذا في توسيع ميدان العمل الصالح؟ ماذا يصنع بعد أن جعل رَوث الدابَّة المعدَّة للخير في ميزان الحسنات؟ هل يَدري العامل المعفَّر الجبين بسواد الدخان، وغبار الجو، أنَّ كفاحه هذا نورٌ يشرق به جبينُه يوم القيامة، إذا كان نظيف النيَّة في عمله، نبيل الغاية في سعيه؟! 

الأعمال المعتادة كلها، التي يباشرها الناس من كل جنس على أنَّها شيء طبيعي في حياتهم، أو على أنها مأرب شخصي، أو خدمة جماعية، هذه الأعمال كلها إذا باشرها امرؤ أسلم لله وجهه، وأحسن من أجله عمله فهي ـ على اختلاف فنونها، وسعة ميادينها ـ واشتمالها على تجارة أو زراعة أو كتابة أو دراسة... الخ: أعمال صالحة مؤكدة الثواب: [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:112}. 

وتتحوَّل الأعمال العادية إلى فرائض محتومة مثل الصلوات المكتوبة إذا ارتبطت رسالة الأمَّة بها وتوقَّف نجاحها على التفوق فيها.. وفي هذا الزمان ليس نهوض المسلم إلى تجربة كيماويَّة، أو صناعة آليَّة، بأقلَّ من نهوضه لصلاة يفتتحها بتكبير الله، ويختتمها بالسلام على خلقه! 

على هذه الركائز من رسوخ اليقين، وشمول العمل قام الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي، وانطلقت الحضارة الإسلامية صعداً تشقُّ طريقها في أطواء التاريخ، وتصنع للإنسانيَّة جمعاء ما لم تصنعه حضارة أخرى. 

لم يكن البشر في ظلها يعانون فراغاً ما في صِلاتهم بأنفسهم أو صلات بعضهم بالبعض الآخر، أو صلاتهم جميعاً بالدولة الموجِّهة وإن اضطرب حبل الحكم. 

ونهضت الثقافة الإسلامية بعبئها في كل ميدان. فدراسة القانون وتطبيقه، ودراسة الخلق وتطبيقه، وتعليم الآداب من شعر ونثر، وتعهد الأولاد بالتربية، وضبط التقاليد الشائعة بين شتى الطبقات، وإجادة الحِرَف والمِهَن والفنون التي يستمسك بها العمران، وسدِّ حاجات البلاد العسكرية وما يقتضيه ذلك من براعة وإعداد.. كل هذا النشاط الإنساني كان فروعاً لشجرة واحدة، يغذيها وينميها روح واحد، وتروى وتزدهر في ظروف مُتقاربة. 

كان الإسلام هو المعنى الجامع المحيط بهذه الحياة الممتدَّة المتشابكة، يدخل الرجل المسجد بالحالة التي يدخل بها المتجر أو الديوان. ويسمع النداء للجهاد فيجود بنفسه، أو بابنه لله تعالى، دون ارتياب. ويذهب إلى المحكمة ليستقبل حكم القاضي بإقامة الحدِّ أو القَصاص، وهو شديد التسليم لإرادة الله سبحانه. لقد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. وفي ظلال هذا الرضا يقبل ويدبر، ويضحك ويبكي، ويحيا ويموت. 

ولقد طوت الأمة الإسلامية قروناً عديدة، وجازت عقباتٍ كؤوداً، وهي مشدودة الأواصر بهذه المواريث الروحيَّة والفكريَّة، محكمة النسج بتلك الروابط الماديَّة والأدبيَّة. يصعد الجد بها ويكبو، وتمرُّ بها أيام سَعْدٍ ونحس. حتى تعرَّضت منذ قرن لأخبث استعمار عرفته منذ وجدت. 

فإذا هذا الاستعمار يصوِّب قذائفه بمهارة ودأب نحو مواريثنا الثقافية، ويبذل آخر ما لديه من دهاء وعنف لجعل الأمة برمَّتها في ناحية، وجعل تعليمها وتشريعها وخلقها وأمانيها في ناحية أخرى غير ما تُؤمن به وتحنُّ إليه.. إنَّه يحول بين المرء ونفسه. إنَّه يحول بين الأمَّة، وروحها، وضميرها، وتاريخها، ورسالتها، وهو بهذه الحيلولة يحكم عليها بالموت البطيء أو السريع، على قدر ما يلقى من نجاح في كيد! 

أجل، إنَّ القضاء على ميراثنا الروحي والفكري ـ نحن المسلمين ـ هو التمهيد الحاسم للقضاء علينا إلى الأبد. 

ولستُ أجد أصدق ولا أفصح ـ في تقويم هذه المواريث ـ من الكلام الطيب الذي ألقاه في قاعة الأزهر الأستاذ محمد فريد أبو حديد. فقد بيَّن أنَّ الأمة من غير هذه المواريث لا تساوي إلا صفراً، وأنَّها بدونها لن تعقل خيراً، ولن تستطيع خطوا... قال: 

(وما دامت هذه المواريث الثقافية هي التي تخلع على الأمة شخصيتها وتشكل حياتها، فهي التي تجعلها تحدد لنفسها غاية، ثم تسعى لتحقيقها، وهي التي تجعل لحياتها معنى وتراها جديرة بأن تحياها، وهي التي تحمل على أن تحب أو تكره. وتصادق أو تعادى، وتأمن أو تخاف. 

هي التي تقيس بها الأمور لتميز ما هو جميل وما هو قبيح، وما هو كريم وما هو دنيء، هي التي تهديها إلى مواطن كرامتها، وتصدها عن مواطن هوانها، وهي التي تدلها أين توجد حريتها وإنسانيتها، فتدفعها إلى التضحية بمادَّة الحياة، وبالحياة نفسها في سبيل ما تعده قَوام حياتها وحريتها). 

قال: (والمواريث الثقافيَّة بانتقالها من جيل إلى جيل تحفظ على الأمَّة كيانها، فإذا اعتراها ما يعجزها عن ذلك الانتقال كانت الأجيال التالية معرَّضة لفناء شخصيتها، وقد يؤدى ذلك إلى فناء الأمة نفسها بصفتها عاملاً من عوامل بناء الحضارة). 

ثم قال الأستاذ مُنوِّهاً بعظمة الإسلام وصلاحيته المطلقة لقيادة النهضة، تحت عنوان: "الإسلام وعاء مواريثنا الثقافية":

 (... ويمتاز الإسلام بأنَّه الحلقة المتممة للديانات الكبرى، فهو لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين طبقة وطبقة، بل ترتكز دعوته العليا على أسس إنسانيَّة شاملة لا تفرق في الرعاية بين حقوق للمجتمع وحقوق للفرد. وليس فيها فصل بين ما على الحاكم، أو على المحكوم من واجبات. بل هو دين يُنظِّم حياة الإنسان من جانبيها الفردي والاجتماعي، والإسلام يقيم تنظيم الحياة على عقيدة يؤمن بها الناس، ويدع لهم أن ينظروا في أمورهم على هدى عقيدتهم، وينذرهم بأشدِّ الأخطار إذا هم تنكَّبوا وحيها. 

ونحن إذا قلنا: إنَّ الإسلام وعاء مواريثنا الثقافية، فذلك لأنَّ الإسلام ينطوي على خير ما في مواريث الديانات الكبرى ويتممها، كما أنَّ هذه الديانات الكبرى تنطوي على خير ما في المواريث الثقافية الإنسانيَّة من عناصر تنظيم الحياة الاجتماعية). 

على أنَّنا إذا نظرنا إلى الخلف، محاولين استقصاء العبر من تاريخنا الطويل نجد مآسي جمَّة قد حاقت برسالتنا، وتركت غضونا عميقة في ملامحنا. ولذلك يقول الأستاذ أبو حديد: 

(لقد توالت على الأمة العربية والإسلامية كوارث شديدة، وعصفت بها حوادث خطيرة من خارجها ومن داخلها. فمن الخارج تعرَّضت الأمَّة لغزوات أجنبية مُتعاقبة ما زالت تلحُّ عليها منذ ثمانية قرون أو تسعة إلى أمسنا القريب، بل إلى يومنا هذا. ومن الداخل تعرَّضت الأمَّة لأجيال من الحكام والسادة المفسدين الذين كانوا يعملون على تحطيمها، وهم المسؤولون عن صلاحها. وكان أكبر هَمٍّ للمُغِيرين من الخارج، وللمفسدين من الداخل، أن يدمِّروا أول كل شيء هذه المواريث التي تحفظ كيانَ الأمَّة وتكفل حياتها). 

لكن هل نستسلم للخطأ، ونتهاوى في حفر الفناء؟ كلا! يقول: 

(ما أجدرنا نحن في نهضتنا الحاضرة أن نستخلص العبرة مما جرَّبته الأمم الأخرى، وأن نعرف أنَّ المواريث التي حفظت عليها حياتنا وشخصيتنا وحريتنا عبر القرون الماضية هي الكفيلة بحمايتنا، وحفظ حرياتنا وحقوقنا في مُستقبل أيامنا). 

ثم يقول شارحا أمثل الطرق للعمل الواجب: (الأمَّة العربيَّة في عصرنا هذا تستقبل نهضة لا شكَّ فيها. نهضة كموجة المد تعلو في أَناة، ولكنها تمتد ولا يمكن إنكارها أو وقفها.. إنها إفاقة جبَّارة بعد غفوة طالت بهذه الأمَّة، نحو خمسة قرون أو تزيد كثيراً أو قليلاً بحسب ظروف الأماكن والحوادث. 

هذه الأمَّة تنبض بالحركة في كل مكان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن شمالها إلى جنوبها. بل من الحق أن نقول: إنَّ حركتها تعدَّت حدودها، وسرت هزتها إلى قارات أخرى تحيط بها. هذه النهضة مُتعدِّدة الجوانب والمظاهر، وبقدر ما تنطوي عليه من قوة وحياة، وبقدر تعدد جوانبها ومظاهرها، تتعدَّد فرص التدافع والتصادم بينها وبين النظم القديمة، التي أصبحت اليوم غير صالحة لأن تكون تطبيقا سليما لمواريثنا. ومن هنا نشأت مشكلة أو مشكلات عدة: فالأسلوب القديم الذي طبقت به مواريثنا يحتاج إلى وضع جديد يتلاءم مع هذه النهضة. 

ويمكننا أن نُشبِّهَ مشكلتنا بحالة صبي كان يعد له ثوب على قَدٍّ من نسيج معين، ثم كبر عن قَدِّ ثوبه، فاحتاج إلى ثوب يناسب جسمَه. أو حالة مريض هزيل دبَّ في جسمه البرء، وأخذ جسمه ينمو ويمتلئ. فهو في حاجة إلى ثوب يناسب حالته بعد الشفاء. ومن المغالطة الواضحة أن يزعم أنَّ النسيج أصبح لا يوائمه. إنَّ تفصيل الثوب هو الذي يحتاج للتلاؤم مع الجسم، وأما النسيج فهو النسيج الذي سبق لنا تجربته، وتحقَّقت لنا متانته، ونفاسة مادَّته).

ولكن باسم " التطور " ظهر في جملة أقطار إسلاميَّة أناس يكرهون الإسلام، ويضيقون بذكره أشدَّ ضيق، وهم يحاولون عبثاً أن يقيموا إصلاحات، أو ينشئوا يقظات، لا تمتُّ إلى الإسلام بنسب، ولا صلة!. 

وقد استطاع بعضهم الإغارة على الحكم، وتسخير سلطاته في التدمير على الدين، ونبذ شرائعه، وإقصاء دراساته، وإماتة أهدافه. ولما كانت الجماهير تحبُّ دينها، وتتعلَّق بتعاليمه وتقاليده، وتودُّ تنشئة أولادها عليه، واستدامة الحياة في كنفه، وتقاوم ذلك العدوان البغيض على مواريثها المقدسة، فإنَّ هؤلاء الحكام لم يقدروا على البقاء في كراسيهم إلا بالحديد والنار ووراء أسوار من الاستبداد والغشم.! 

إنَّ الحريات المكفولة أعدى عدو لهؤلاء الحكام الكفرة. ذلك أنَّهم كي يقيموا الأنظمة التي يريدون، يجب أن يزيلوا المخلَّفات القديمة ـ كما يسمونها ـ وأن يُغَيِّروا بيئات أمضى الزمان في بنائها الروحي أربعة عشر قرناً، ودون صعوبات هائلة، وعراك طويل.

 ولن تنتهي هذه المحاولات أبداً بخير يعود على الأمة، أو يصون غدها. ونختم هذا البحث بكلمة أخيرة للأستاذ أبى حديد، لعلها تكون عظة زاجرة لأولئك الحكام السفهاء، قال: 

(وقد سبق أن بينا في ثنايا هذا الحديث ما يَنطوي عليه مبدأ نبذ المواريث من مُغَالطة في المنطق، فلننظر الآن إلى ما ينطوي عليه هذا المبدأ من الخطر الفعلي في الناحية التطبيقية: من المعلوم أنَّ جماهير الشعوب تميل دائماً إلى المحافظة على اتجاهها ما لم توجد عوامل قويَّة تعمل على تغيير هذا الاتجاه. فقَانون القصور الذاتي ينطبق عليها كما ينطبق على كل شيء في الوجود. 

الساكن يبقى ساكناً ما لم يحرِّكه محرِّك، والمتحرِّك يحتفظُ باتجاهه ما لم تصدمه قوَّة مخالفة لاتجاهه فيغير وجهته وحركته. وقد تقدَّم أنَّ العدول عن المواريث الثقافية إنَّما هو هدم وإزالة يَقتضيان بذل مجهود ضخم لإفناء قوتها وتغير اتجاهها. ومعنى هذا أنَّ محاولة القضاء على مواريثنا يطلب بذل جهود النهضة في عمليَّة الهدم، وهذا يؤدى إلى إضاعة هذه الجهود في محاولة سلبيَّة نتيجتها الهدم وحده...! 

ويعقب هذا ـ لو فرضنا إمكانه ـ مرحلة ذبذبة وبلبلة، يفقد فيها المجتمع إيمانه بمقدَّساته، ويفقد فيها مقاييسه جميعاً. ثم هو لم يصل إلى إقامة هيكل جديد يحلُّ محلَّ تلك المقدسات، فماذا ينشأ عن هذا سوى الفوضى في كل شيء؟ انفراط العقد، وزوال الرابطة التي كانت تربطُ الأفراد، وتحدد علاقاتهم فيما بَينهم، أو بينهم وبين المجتمع الشامل الذي يَعيشون فيه. 

فلا يكون لتلك الحال من علاج سوى وجود قوة مسيطرة من فرد واحد أو مجموعة أفراد تسلبُ حرياتِ الآخرين، وتفرضُ سلطانها على الجميع، للمحافظة على كيان هذا المجتمع المفتعل. وليست الأمثلة البعيدة عنا، فإنَّ بعض الدول الإسلامية تعرضت لمثل هذا الخطر، ولا تزال تعانى منه أكبر الأحزان. 

فسلامة النهضات لا تكون بهدم المواريث الثقافيَّة التي حفظت كيان الأمَّة في العصور الماضية. بل تكون بإعادة تطبيق تلك المواريث بحيث تلائم ظروف الحياة الجديدة، وهي هي في جوهرها صافية. ثم إنَّ التاريخ يدلنا على أنَّ الأمم التي تقاسي مثل هذه المحن لا تصل إلى نتيجة إيجابية من وراء نهضاتها، بل لا تلبث أن تبين خطأها وتعود لتلتمس النهضة من المواريث التي نبذتها، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان؛ لأنَّ النهضة تكون قد استهلكت نفسها في جهود الهدم، وجهود السيطرة التي يجرها الهدم من ورائه). 

أقول: وهذا كله حقٌّ ينطق به العيان، بأجلى بيان. 

الحلقة السابقة هـــنا

[وللمقالة تتمة]

المصدر: (كتاب الإسلام والطاقات المعطَّلة)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين