الأُنس والنَّجاة في الصَّلاة على الرَّحمة المهداة

مقدمة:

لقد اصطفى الله عز وجل رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم مِن بين رسله أجمعين، وفضّله على جميع خلقه، وأنزل عليه أشرف كتبه، وبعثه بالدِّين القويم، والمنهج المستقيم، والخُلق العظيم، وجعله رحمةً للعالمين، وأعطاه المقام المحمود، والحوض المورود، وهدى به مِن بعد الضّلالة، وأنقذ به مِن بعد الغواية، وألّف به القلوب مِن بعد العداوة، فكان مِن حقّه على أمّته توقيره وتعظيمه، ونَصره ورعايته، وكان مِن أوجب الواجبات علينا أن نذكره ولا ننساه، وأن نُكثر مِن الصّلاة والسّلام على هذا النّبيّ المعظَّم، والرّسول المكرَّم، امتثالًا لأمر الله سبحانه، واتّباعا لوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنّ أَولى النّاس بشفاعته، وأحقّهم بتقديره، وأخصّهم بعنايته، يوم القيامة؛ أكثرهم عليه صلاةً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً). [ 1 ]

فالمكثرون مِن الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيكونون مِن أهل القربات والدّرجات، وتفيض عليهم أنواع الخيرات، وتُدفع عنهم المكروهات، وإنّ أسعد النّاس مَن يوفّق في حياته للإكثار مِن الصّلاة والسّلام على هذا النّبيّ الكريم، فإنّها مِن أجلّ العبادات التي يتقرّب بها العبد إلى مولاه، وينال بها مُناه؛ في آخرته ودنياه، وعند أمر الله بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بدأها بنفسه، ثمّ ثنّى بملائكة قدسه، قبل أن يأمر عباده بها، فإذا كان الله جل جلاله في عظمته وكبريائه، وملائكته في أرضه وسمائه، يصلّون على النّبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم، إجلالًا لقدره، وتعظيمًا لشأنه، وإظهارًا لفضله، فما أجدرنا -نحن المؤمنين- بأن نكثر مِن الصّلاة والسّلام عليه صلى الله عليه وسلم، امتثالًا لأمر الله عز وجل، وقضاءً لبعض حقّه علينا، وبذا تُغفر ذنوبنا، ونُكفى همومنا، وتُرفع درجاتنا.

1- وقفاتٌ بيانيَّةٌ في رحاب آيةٍ قرآنيَّةٍ

لقد أنزل الله سبحانه كتابه الكريم، وأمر النّاس أن يتلوه حقّ تلاوته؛ فقال: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121].

وبيّن الغاية مِن إنزال هذا القرآن؛ فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} [ص: 29].

ولنا وقفاتٌ مع آيةٍ عظيمةٍ، تتجلّى فيها عظمة الآمر، وعِظَم الأمر، حيث إنّها جاءت خاصّة بسيّد الخلق محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

ولو تأمّلنا آيات النّداء للمؤمنين -في تسعةٍ وثمانين موضعًا مِن كتاب الله عز وجل- لوجدنا أنّ النّداء جاء في أوّلها، ولمّا جاء الأمر بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، افتتح الآية بالجملة الاسميّة الدّالّة على الدّوام، وأكدّها بالحرف -إنّ- ثمّ أتى باسم الجلالة الجامع لصفات الجمال والكمال، وعطف عليه ملائكته الأطهار البررة جميعًا، وأتت صيغة الفعل المضارع الّذي يدلّ على الاستمرار أيضًا، ليعلمنا أنّه وملائكته صلّوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يزالون يصلّون إلى يوم الدِّين، وفي صلاة الله جل جلاله وصلاة ملائكته قبل أمر المؤمنين بذلك؛ شحذٌ للهمم، ودعوةٌ للإقبال على تنفيذ الأمر، لنيل شرف الامتثال والاقتداء، حيث ذكّرهم بصفة الإيمان، فبقدر إيمانك تكون استجابتك، وهذا معنىً مِن معاني قول الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشّرح: 4].

ولم يأتِ الأمر بالصّلاة هنا مؤكّدًا بالمصدر، لأنّ صلاة الله سبحانه وصلاة ملائكته تُغني عن ذلك، وأمّا الأمر بالتّسليم عليه فإنّه جاء مؤكّدًا، فكيف نصلّي على حبيبنا صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ، فكيف نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا باركت على إبراهيم وآل إبراهيم). [ 2 ]

ولو تأمّلنا صِيغ الصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لوجدناها أتت -كلّها- بطلب العبد مِن الله عز وجل أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنّ الله سبحانه أعلم بما يليق بحبيبه صلى الله عليه وسلم، ونحن نعجز أن نوفّيه حقّه، فمَن صلّى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، صلّى عليه ربّه جل جلاله، ورفع مِن شأنه، فجعله مع الملأ الأعلى في شرف الصّلاة، وفي هذا تكريمٌ عظيمٌ، وتشريفٌ كبيرٌ، لا يناله إلّا ذو حظٍّ عظيمٍ، فقد قرن الله سبحانه صلاة عباده مع صلاته، وتسليمهم مع تسليمه، ثمّ ضاعف لهم صلاته ورحمته أضعافًا كثيرةً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا). [ 3 ]

2- تفريج الكروب، بالإكثار مِن الصَّلاة على المحبوب

لقد خلق الله الإنسان في كبدٍ، وجعل حياته مليئةً بالكدح والتّعب، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].

وأخبر أنّ هذه الدّنيا مجبولةٌ بالهموم والغموم، فلا يكاد ينجو منها أحدٌ، ولا يهرب مِن غُصصها مخلوقٌ، فهذه حقيقة الدّنيا الّتي لا تُنكر، وقانون الحياة الّذي لا يُجحد.

طُبعت على كدرٍ وأنت ترومها    صفوًا مِن الأقذار والأكدارِ

ومكلِّف الأيَّام ضدَّ طباعها    متطلِّبٌ في الماء جذوة نارِ

وقد تشتدّ المصائب على الإنسان أحيانًا، فيعظم ألمه، ويكثر همّه، فيحتاج إلى نورٍ ينوّر بصيرته، وإلى ركنٍ شديدٍ يأوي إليه، بل إلى قوّة كبرى أقوى مِن قوى الأرض جميعًا، يجد فيها متنفّسًا مِن ضيق عيشه، وكثرة بلائه، وتسلّط أعدائه، وعِظَم أدوائه، الّتي ضاقت بسببها نفسه، وانقبض بها قلبه، وعندئذ تشتدّ حاجته إلى دواءٍ ناجعٍ، نافعٍ شافٍ مِن كلّ هذه الهموم والمنغّصات، والغموم والمكدّرات، ولن يجد أفضل مِن الصّلاة على النّبيّ المصطفى، والرّسول المجتبى، عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ)، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: (مَا شِئْتَ)، قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: (مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: (مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: (مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ). [ 4 ]

وفي هاتين الخصلتين -كفاية الهمّ وغفران الذّنب- جماع خيري الدّنيا والآخرة، فإنّ مَن كفاه الله همّه، سلم مِن محن الدّنيا وعوارضها، ومَن غفر الله ذنبه سلم مِن محن الآخرة وصعوباتها، حيث إنّه لا يهلك الإنسان يومئذ إلّا بذنوبه، فيا مَن استولت عليهم الهموم، وأحاطت بهم الغموم، هيّا للإكثار مِن الصّلاة على المحبوب، ففيها تنفيس الكروب، ويا مَن أثقلتهم الذّنوب والآثام، وعصوا الرّقيب العلّام، أقبلوا إلى الصّلاة على المختار، فبها تُمحى السّيّئات، وتُزال الأكدار، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا طَيِّبَ النَّفْسِ، يُرَى فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصْبَحْتَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ، يُرَى فِي وَجْهِكَ الْبِشْرُ قَالَ: (أَجَلْ، أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي جل جلاله، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مِنْ أُمَّتِكَ صَلَاةً كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا). [ 5 ]

فيا لسعادة مَن عمرت حياته، وملئت أوقاته بالصّلاة على رسول الله ومصطفاه.

خاتِمةٌ:

لقد جرت سنّة الله عز وجل في خلقه، أنّ مَن أحبّ شيئًا أكثر مِن ذكره، ولذا يتوجّب على كلّ مَن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكثر مِن الصّلاة والسّلام عليه، فإنّها تبلغه ويردّ على صاحبها السّلام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ). [ 6 ]

وهذه الصّلاة تعتبر وسيلةً مباشرةً تصل المؤمن بنبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث إنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ؟ - يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ- قَالَ: (إِنَّ اللهَ سبحانه حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ). [ 7 ]

وإنّها سببٌ لرفع الدّرجات، وتكفير السّيّئات، وتفريج الكربات، واستجابة الدّعوات، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ، حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ رَجُلًا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عز وجل، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (عَجِلَ هَذَا) ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ). [ 8 ]

فلنكثر مِن الصّلاة عليه، ولنعلم أنّ الصّلاة عليه طاعةٌ وقربةٌ، واقتداءٌ وسنّةٌ، وربحٌ وغنيمةٌ، فالسّعيد حقًّا مَن أحيا قلبه بالصّلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، واغتنم أوقاته بما فيه زيادة الحسنات، ونيل الشّفاعات، يوم العرض على ربّ الأرض والسّماوات

 

هوامش:

1 - سنن التّرمذيّ: 484

2 - صحيح البخاريّ: 5997

3 - صحيح مسلمٍ: 408

4 - سنن التّرمذيّ: 2457

5 - مسند أحمد: 16352

6 - سنن أبي داود: 2041

7 - مسند أحمد: 16162

8 - مسند أحمد: 23937

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين