الأمة الوسط والشهود الحضاري

 

 

شكَّل غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798 صدمةً حضاريةً للمسلمين، ليس على المستوى العسكري والتقني فقط، وإنما على مستوى العلوم والنظم والقوانين، ومنذ ذلك الحين أفاق العالم الإسلامي على عدة مشاريع نهضوية للخروج من حالة التخلف القائمة حين ذاك، ولكنّها بقيت أفكاراً فردية ومشاريع نظرية لم تتحول إلى قوة اجتماعية أو تيار عام، وتمَّت  محاصرة هذه الأفكار والمشاريع بقوى داخليَّة وخارجيَّة، جعلتها مهددة باستمرار بالانطفاء والتراجع.

 

وفي العصور الحديثة علمتّنا التجربة الأوروبية درساً مهماً، وهو أن البداية الحقيقية للنهضة لم تكنّ في الأفكار التي طرحها مفكروا النهضة مثل (جون لوك) البريطاني و ( جان جاك روسو)الفرنسي، وإنما كانت البداية حينما تحولت تلك الأفكار إلى قوة اجتماعيَّة مؤمنة بأفكارها ومستعدَّة لخوض الصراع لتحقيقها على أرض الواقع، أيّ انتقلت من عالم النظرية إلى عالم التطبيق.

 

وقبل ذلك علمتّنا السيرة النبويَّة درساً عظيماً، وهي أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلم لم يكنّ رسولاً فقط، وإنما كان رجل دولة، دعا الملوك، وخاض المعارك، وأبرم المعاهدات وحوَّل التعاليم الإسلاميَّة إلى واقع مشهود على الأرض، يُبهر الناظر إليه ويريه عظمةَ الإسلام وسُمُوَّ تعاليمه، وهذا ما حَدا بالكاتب الأمريكي (مايكل هارت) إلى اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم الشخصية الأولى بين شخصيَّات مائة غيَّرت تاريخ العالم.

 

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى:[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143}.

 

أي لا يكفيكم أيها المؤمنون أن تكونوا أمة وسطاً، ولكن مهمتكم في هذا العالم أن تكونوا شهداء على الناس، وتتم شهادة الأمة الوسط على الناس بأن تشكل تلك الأُمة واقعاً مشهوداً يطبق التعاليم الإسلامية تطبيقاً صحيحاً يشهد أنه متفوق على الأنظمة الأخرى، وبذلك يستطيع المسلمون أن يقولوا يا رب إنا قد بلغنا رسالتك، وأرينا الناس كيف يطبق هذا الدين في واقع الحياة، أريناهم أن هذه الأمة الوسط لا تغلو في التجرد الروحي فتترك عمارة الدنيا، ولا في الارتكاس المادي فتقع في التوحش الحضاري، ولا تدع الحياة للضمائر فقط، لأن النفسَ الأمارة تغوي البّرَّ والفاجر، ولا تدعها كذلك لقوانين العقوبات التي يتم خرقها عند أول استطاعة، الأمة الوسط التي تدعو ـ كما قال عالمنا الجليل عصام البشير ـ ( إلى العلم المرتبط بالإيمان، والايمان المقترن بالعمل، والجسد الممدد بالروح والقوة المقترنة بالحق والتشريع المحقق للمصلحة، والخير المتوشح بالجمال والفن الملتزم بالقيم، الأمة الوسط ذات المنهج الذي يحافظ على كل قديم نافع، ويرحب بكل جديد صالح، ويتقبل الحكمة من أي وعاء خرجت...

 

الأمة الوسط التي تعمل على تعزيز المشترك الإنساني والحضاري، و تعدل رغم شنآن الشانئين.)

 

وقد يقول قائل أين هي تلك الأمة الوسط العادلة التي تتكلمون عنها؟ ونجيبهم بحماستنا المعهودة: لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعدل الناس، فقد ضرب ابن الأكرمين عندما اعتدى على القبطي، وحمل على ظهره كيس الطحين في ظلمة الليل للمرأة الفقيرة، كما أن عمر بن العزيز كفى الناس، ولم يجد بينهم من يأخذ أموال الزكاة، وفي غمرة حماستنا هذه ننسى أن هذين الخليفتين الراشِدَيْن حققا وجودهما في عالم الشهود، وقاما بتلك الأعمال المبهرة لا لكي نفاخر بهما الخلق دون حياء من عجزنا وتقصيرنا، ولكن لكي نتخذهما مثلاً في إقامة العدل في الأرض، ونطبق منهج الأمة الوسط ، وننتقل به من عالم الوجود إلى عالم الشهود.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين