الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز
العالـمُ التقيُّ الورع:
رُزِئَ الإسلامُ في عالمٍ تقيٍّ عميقِ النظرة، صادقِ الإيمان، ثَبْتٍ في علمه، قويٍّ في تديُّنِه، آتاه اللهُ تعالى الحظَّ الأوفر، في علومِ الإسلام، فكان فيها العَلَمَ الذي يُشارُ إليه، وأُوتيَ مثـلَ هذا الحظِّ من علـم أوروبا، فكان العالـمَ بما عنـدَ الأوروبيين، وما طغى في قلبِه علمُ هذه الدنيا على علمِ الإسلام، ولا تلك الحضارةُ البرّاقةُ على حقيقةِ الإيمان، ومـا بَـهَرتْه زخارِفُ هذه المدنيّـة عن الثروةِ الروحيّـةِ التي اشْتَملتْ عليها الحقائقُ الإسلامية، ولا عن تلك الذخيرةِ الإنسانيَّـةِ التي اشْتَمَلتْ عليها أحكامُ القرآنِ المقرَّرةُ الثابتةُ الباقيةُ الخالدةُ إلى يومِ القيامة.
ذلك العالمُ الجليل، هو صديقُنا الوَرِعُ العالم، الدكتور محمدُ عبد الله دراز.
اتِّجاهه إلى طلب الحقيقة وحدها:
لقد عرفْتُ ذلكَ الأخَ الطاهر، من نحوِ خمسٍ وعشرين سنة. منذ التقيْنا في كليَّـةِ أصولِ الدين زميليْـنِ عنـدَ إنشائِها. فوجـدْتُ أكرمَ ما يجـدُ المحـبُّ لعلمِ الإسلام: سلامةَ تفكير، وحُسْنَ قصد، واستقامةً في الغايةِ وفي العقل، يتَّجهُ إلى طلبِ الحقيقةِ لا يريدُ سواها، ولا يبغي عِوَجاً ولا أمْتاً، لا يَسْتهويه بدعُ الآراء، ولا يستطيرُ لُـبَّـه بَدِيءُ الأفكار، كما لا يَقِفْهُ عن طلبِ الحقيقةِ تقليدٌ لرأيٍ سابق، فلا يتَّبعُ الرجالَ على أسمائهم. ولا يأخذُه بريقُ الجديدِ ولَـمَعانُه، بل هو مُسْتقلُّ التفكيرِ في فهمِ النصوصِ وطلبِ الحقائق، لا يُقيِّده إلّا قَيْدٌ واحد، وهو النُّصوصُ القرآنيةُ والنبوية، فعند النصّ الـمُحْكَمِ القاطعِ في سندِه ودلالتِه يقفُ خاشعاً غيرَ مُتهجِّم، لا يحاولُ التأويلَ فيما لا يقبلُ التأويل، ولا إخْضاعَ النصوصِ لتلك المدَنيّـة، التي لم يقمِ الدليلُ على صلاحيّتِها للبقاء.
هكذا رأيتُ الأخَ في زمالتِه، فأنِسْتُ به واطْمَأنَنْت إليه، وانعقدَ بيننا ما هو أكبرُ من زمالةِ المكان، بل صِرْنا زميليْنِ في طلبِ علم القرآن، يتفكَّرُ كلُّ واحدٍ منّا على منهاجه، ثم نلتقي على رأيٍ واحد، وأشهدُ أنّنا منذُ تعارفْنا ما اختلفَ رأيُنا في أمرٍ كُلِّيٍّ ولا في أمرٍ جُزْئيٍّ إلّا نادراً، ويكونُ ذلك في أطْرافِ الموضوعاتِ لا في جواهرِها.
دراسته في فرنسا واستمساكه بدينه:
ولقد فارقَنا الدكتور محمد عبد الله دراز إلى أوروبا كما فارقَنا غيرُه، وأقامَ في فرنسا ما شاءَ اللهُ أنْ يُقيم، وكانتْ إقامتُه أكثرَ من إقامةِ غيرِه أمداً، وكانتْ أوفرَ إنتاجاً، فقد أقامَ فيها نحوَ اثنتي عشرةَ سنة، نالَ فيها أعلى الدرجاتِ العلميّةِ هنالك.
ولقد عادَ بعدَ هذه الرحلةِ الطويلةِ الشاقّةِ الـمُجْهِدَة، وتوقَّعْنا أنْ نجدَ تغيُّراً في مظهرِه أو مَلْبسِه أو عاداتِه، أو تديُّنِه. كما رأيْنا في بعضِ مَنْ ذهبُوا وأقاموا بعضَ إقامتِه، ولكنّا وَجَدْناهُ كما تَـرَكَنا خُلُقاً وديناً وإيماناً، فأثبتَ بذلك سلامةَ جوهرِه، لأن جيِّدَ المعادنِ تجلوه التجاربُ وتصْقلُه الحوادث من غيرِ أنْ يفنى ويَبْلى.
ولقد ازدادَ استمساكاً بدينِه، وتشدُّداً فيه، فزاد بهاءً ونوراً وجلالاً.
لم تُقطَعْ صلتي النفسيَّةُ بذلك الأخِ النابِغةِ منذُ تَعَارفْنا، وإنْ غابَ عني أمداً، التقيْنا من بعدِ الغياب، وأُنْسُ اللقاءِ يقضي على زمانِ الابتعاد، وكأنّه يطويه أو يمحوه.
في النَّدوة الإسلامية العالمية بلاهور:
وكانَ آخـرَ لقاءٍ بينَنا وأطولَه ملازمة، عندما سافرْنـا معَ رُفْقـةٍ كـرامٍ إلى النـدوةِ الإسلاميةِ العالمية، التي انعقدتْ بدعوةٍ من جامعةِ البنجابِ بلاهور في الباكستان، ترافقْنا في السفر، والسفرُ يكشفُ النفوسَ أكثرَ من الـحَضَر، خرجْنا معاً معَ صديقِنا الدكتور علي حسن عبد القادر، والتقيْنا في مطارِ القاهرة معَ الأخِ الصديقِ الدكتور محمد خلف الله أحمد، وهنالكَ انعقدتْ بينَنا رُفقةُ طريق، وتلاقي أرواح، وتمازجُ نُفوس، وأصبحَ كلُّ واحدٍ منّا يرى نفسَه في أخيه، والشيخُ الجليلُ إمامُنا، لا نفترقُ عنه إلّا في النوم، حتى صارَ المؤتمرُ كلُّه ينظرُ إلى هؤلاءِ الأربعة، وانطلقَ بعضُ الإخوانِ يُنشِدُ الشعرَ فينا، ونَتَداعبُ بروايتِه.
تلك أيامٌ من الأيامِ الحلوةِ في هذه الدنيا. نقضي أوقاتَ فراغِنا في عبادةٍ أو في سَمَرٍ بريء، وأحاديثَ ذوات شُجون، فإذا جاءَ ميقاتُ النوم، بعد أنْ نُؤخِّرَه الفيْنةَ بعدَ الفيْنة، حتى لا ينقطعَ من بينِنا ذلك الأُنْسُ الروحيّ، اتَّجهْنا إلى الصَّلاة.
ثم يذهبُ كلٌّ منّا إلى مَضْجعِه بعد أنْ يَؤُمَّنا في صلاةِ العشاء، ولكنه هو يستمرُّ في صَلَواتِه، كان يَتَخفَّفُ من النوم، فكان نومُه قليلاً كنوم الأنبياء، ثم يقومُ الليلَ مُصلِّياً متهجِّداً، أو قارئاً للقرآن، وكان رضي الله عنه قد أخذَ نفسَهُ بقراءةِ سُدُسِ القرآنِ في كلِّ يوم، وما كنتَ تراهُ إذا اخْتَلَى بنفسِه إلا مُصَلِّياً، أو قارئاً للقرآن.
وفاته وسَرْيُ نعيه وتشييعه:
صَاحَبْناه نحوَ ثلاثةَ عشرَ يوماً في أُنْسٍ روحيّ، وسُرورٍ بريء، وحديثٍ كالنَّمِيرِ نَتَسَاقاه، وما كنّا نخشى إلّا ما يُـكنُّه المستقبـل، وكأنما القـدَرُ سَقَانا حُلوَ هذه الحيـاةِ لنعرفَ مُرَّها، ولنعرفَ حقيقتَها، ففي الثلُثِ الأخيرِ من الساعةِ الثالثةِ من مساءِ الاثنين السادسِ عشرَ من شهرِ جُمادى الآخرة سنةَ 1377 شكا الشيخُ الإمامُ وَجَعاً، فاحتطْنا به، وأرسلْنا إلى الطبيبِ ندعوه، وتداعى إخوانُنا إلينا من سائرِ الـحُجُرات، والشيخُ في صَحْوِه الكامل يتلو معَ الآلامِ أدعيتَه الضارعة إلى طَلَبِ مرضاةِ الله تعالى، ثم دَعَوْنا طبيباً آخر، وَوَصفَ دواء، ولكنَّ المنيةَ كانتْ أسبق من الدواء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأخَذَنا نشيجُ البكاء، وتَسَامعَ الناسُ بالخبرِ الفاجع، فتَعَطَّلتِ الـمَحَافِل، وتوقَّفَ الاجتماع، وسَرَى النَّعيُ في البقاع، وبكى مَنْ عرفه أخيراً، ومَنْ عرفه أولاً، حتى كأنّ لاهور كلَّها صارتْ مأتماً.
لقد صلّى على جثمانِه الطاهر ممثِّلون لكلِّ الأقاليمِ الإسلامية، وشيَّعهُ إلى المطار ممثِّلون لاثنتيْنِ وثلاثينَ دولة.
لقد كانت آخرَ كلماتٍ نطقَ بها: «يا ربِّ إنْ كنتَ راضياً عنّي لا أبالي».
رحِمَ اللهُ الإمامَ محمد عبد الله دراز، لقد ماتَ شهيداً، وكانَ برّاً تقيّاً، وكانَ من الصِّدِّيقين والصَّالحين.
* * *
كلمة أخرى في الدكتور محمد عبد الله دراز
في يوم الاثنين 16 مِنْ جُمادى الآخِرة سنةَ 1377هـ، الموافقِ 6 من ينايرَ سنة 1958م، استأثرت رحمة الله عزّ وجلّ، بالعالمِ الثَّبْت، والباحثِ الإسلاميِّ الجليلِ فضيلةِ الدكتور محمد عبد الله دراز، عضوِ جماعةِ كبارِ العلماء، والأستاذِ بكليةِ اللغةِ العربيةِ بالأزهرِ الشريف، وقد جاءتْه الوفاةُ فَجْأة، وهو مشترِكٌ في المؤتمرِ العلميِّ الإسلاميّ بمدينةِ «لاهور» بالباكستان، فكان لهذا النَّبأ وقعٌ أليمٌ في نفوسِ الذين عَرَفوا الراحلَ الكريم، وعَرَفُوا فيه العلم الغزير، والـخُلُق الكريم، والهمَّة الرفيعة، والتَّعالي عن الصغائر.
وُلِدَ عليه رحمةُ الله في قريةِ «محلة دياي». وانتسبَ إلى معهدِ الإسكندرية الدينيِّ سنة 1905، وحصلَ على الشهادةِ الثانويةِ الأزهرية، سنة 1912، وكانَ أولَ الناجحين فيها، وحصَلَ على شهادةِ العالمية سنةَ 1916، وكانَ أولَ الناجحين فيها، ثم تعلّم اللغةَ الفرنسية وكتب بها، وفي سنة 1928 اختيرَ للتدريسِ بالقسمِ العالي بالأزهر، وفي سنة 1936 اختيرَ للسفرِ إلى فرنسا في بعثةٍ علمية، وحصلَ على شهادةِ الدكتوراه برتبة الشَّرفِ العُليا من السوربون سنة 1947م.
وعاد فاشتغلَ بالتدريسِ في جامعةِ القاهرة، وفي دارِ العلوم، وفي كليةِ اللغةِ العربية، ثم نالَ عضويةَ جماعةِ كبارِ العلماء سنة 1949. وكان عضواً في اللجنةِ العليا لسياسةِ التعليم، وفي المجلسِ الأعلى للإذاعة، وفي اللجنةِ الاستشاريةِ الثقافيةِ في الأزهر، وشاركَ في نشرِ الإسلام بكُتُبِه ومقالاتِه ومحاضراتِه وأحاديثِه في الإذاعة.
وله بحوثٌ ممتعةٌ في تفسيرِ القرآنِ الكريم، وفي الحديثِ النبويِّ الشريف، وفي القانونِ الدوليِّ العامّ في الإسلام، وفي موضوعِ الرِّبا، وفي مكانةِ الأزهرِ الشريف، إلى غيرِ ذلك من البحوثِ والموضوعات.
كان الراحلُ الكريمُ مَثَلاً فاضلاً للعالمِ الأزهريِّ الإسلاميِّ الغيورِ على دينِه، المحافظِ على كرامتِه، المتَصَوِّنِ في مظهرِه وسَمْتِه، الداعي إلى صراطِ ربِّه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة؛ وبموتِه فقدَ المسلمون رُكناً ركيناً من دعائمِ البحثِ الإسلاميِّ والدعوةِ إلى الإسلام.
رحمه اللهُ رحمةً واسعةً، وجزاه خيراً وبِراً بِقَدْرِ ما خَدَمَ دينَه وقرآنهُ وسُنَّـةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وإنّا لله وإنّا إليهِ راجِعون.
* * *
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول