الأديب الإسلامي الراحل فهد بن أحمد الجباوي

الأديب الإسلامي الراحل فهد بن أحمد الجباوي

 

د. أحمد بن فهد الجباوي

ولادته ونسبه

ولد الأديب الإسلامي فهد بن أحمد الجباوي في قرية الكرك الشرقي من محافظة درعا (أذرعات) جنوبي سورية عام ١٣٥٦هـ/ ١٩٣٧م. وهو فهد بن أحمد بن محمود الجباوي من عشيرة الجباوي التي تعود بنسبها إلى جدها الشيخ سعد الدين الجباوي الشيباني الحسني المتوفى عام ٥٧٥ هـ دفين منطقة جبا بمشارف دمشق الجنوبية وقد أعقب الشيخ سعد الدين الجباوي ذرية انتشرت في دمشق وحوران وعكا والقدس والخليل وصفد ونابلس والعراق. 

دراسته وتحصيله

انتسب في طفولته إلى الكتَّاب عام ١٣٦٣هـ/١٩٤٤م فختم القرآن تلاوة وتعلم الخط ثم أتم دراسته الثانوية في محافظة السويداء في سورية عام ١٣٧٧هـ/١٩٥٨م. وكان للشيخ الجليل حامد عقلة العاسمي خطيب مسجد دُمَّر الكبير (ت ١٤١٧هـ) آنذاك دور كبير في تكوينه الفكري والدعوي وخاصة لصلة القربى التي كانت تربطه بالشيخ حامد رحمه الله. هذا وقد ازداد وعيه الفكري عمقاً ومعرفة بفضل جهود الدعاة المخلصين الذين عقدوا العزم على تجشم الصعاب من أجل تبليغ دعوتهم إلى الكتاب والسنة في قرى حوران وأنحائها على الرغم من ثقل المهمة وقسوة الظروف في تلك السنين، ومن أولئك الدعاة فضيلة الشيخ د. محمد بن لطفي الصباغ (ت ١٤٣٩هـ) والأستاذ الداعية محمد علي خصاونة (ت ١٤١٦هـ) رحمها الله تعالى. وتخرج الوالد الأستاذ فهد من دار المعلمين عام ١٩٥٧م وكان ترتيبه الأول على دفعته، ثم انتسب إلى كلية الآداب في جامعة دمشق ليتخرج في قسم اللغة العربية فيها عام ١٩٦٢م وكان ترتيبه الثاني على دفعته.

عمله الوظيفي

تقدم إلى مسابقة انتقاء المدرسين بوزارة التعليم السورية، فنجح بجدارة وكان ترتيبه الثاني على مستوى القطر السوري، فعين في إثر ذلك مدرسًا للغة العربية في ثانوية فِيق في الجولان المحتل، ثم نقل إلى ثانوية البنين بدرعا عام ١٩٦٣م.

 وكان من أوائل من أعيروا إلى الجزائر عام ١٩٦٧م؛ للإسهام في تعريب التعليم هناك بعد جلاء المحتل الفرنسي عنها، فبقي فيها خمس سنوات مدرسًا لمادة اللغة العربية في ثانوية العقيد لطفي في مدينة وهران، ثم عاد إلى سورية عام ١٩٧٢م مدرسًا في ثانوية البنين بدرعا حتى عام ١٩٧٩م، حين صدر أمرٌ جائر بإقالته مع ما يزيد على ثلاث مئة مدرس من أصحاب التوجه الإسلامي في سورية من وظائفهم في التربية والتعليم، ونقلوا تعسفيًا إلى وظائف مدنية أخرى في وزارات الدولة المختلفة. وما إن تسلم قرار تنحيته حتى قدم استقالته، وهاجر إلى المملكة العربية السعودية؛ ليعمل مدرساً في إحدى ثانويات مدينة جُدَّة حتى عام ١٩٩٩م، حين قرر العودة إلى مدينته الأثيرة درعا والاستقرار فيها. 

وقد عرف عنه رحمه الله التمكن في مادته التي يدرسها لطلابه وحبه لها ومهارته في إيصال المعلومة للمتعلمين. وكان يعجب أشد العجب من الذين يتصدون إلى مهنة التعليم ولا يستطيعون إيصال أفكارهم للمتعلمين. وقبل أن يبدأ الناس باستعمال الحاسوب في الوصول إلى أماكن ومواقع من يريدون الوصول إليهم كان يتبرَّم من فشل كثير منهم في وصف عناوين المنازل وسبل الوصول إليها سواء كان ذلك بافتقارهم إلى تحري الدقة في وصف معالم الطرق أو في رسم الخرائط، فكان رحمه الله إذا وصف شيئاً يصفه وكأنه يراه أمامه ولا يترك السائل يحتار في أمره بل يتأكد بأنه فهم ما أراد أن يقوله له. وقد أنشأ مجموعة من طلابه القدماء منصة إعلامية أطلقوا عليها اسم (من أعلام حوران) وخصوا إحدى حلقاتها بالحديث عنه ووصفه د. عامر خالد بقوله (إن كان أستاذ للغة العربية ترك بصماته على طلابه فهو الأستاذ فهد الجباوي، فقد كان نموذجاً للأستاذ المتفاني الذي لم يكن يكتفي بالدرس المقرر بل كان يقرأ لنا من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كي يثري معلوماتنا الأدبية…) ويصفه د.عبد الحكيم المصري بأنه كان من عمالقة التدريس ومن الذين تركوا في عقولهم وقلوبهم آثاراً تربوية وثقافية وأدبية مضيئة لا يمحوها الزمن. ويروي عنه آخر أن طلاب الصف الثاني الثانوي كانوا يوماً ينشدون نشيد (طلع البدر علينا) قبل ابتداء الحصة الدراسية فلما دخل على طلابه وهم ينشدون هذا النشيد الخالد أخذ ينشد معهم فأنس به الطلاب وأنس بهم. وهكذا كان نهجه في التدريس نهجًا قائمًا على تحبيب الطالب بمادة الدراسة وبالمدرس واستعمال الوسائل التعليمية المختلفة في إيصال فكرة الدرس بطريقة سهلة وممتعة.

ولما هاجر إلى الجزائر للإسهام في تعريب التعليم بعد "فَرْنَسَة" هذا البلد العربي المسلم فوجئ بهُوَّةٍ لغوية هائلة تفصل بينه وبين تلاميذه وبينه وبين زملائه المدرسين وإدارة المدرسة وحتى عامة الناس. فقرر أن يتعلم الفرنسية وانتسب إلى أحد المعاهد المختصة في هذا الشأن فاستطاع أن يتغلب على هذه الهوة اللغوية، حتى إن أحد زملائه المدرسين العرب فوجئ بسرعة اكتسابه مهارة تعلم اللغة الفرنسية وتحدثه بها خلال المشاركة في الاجتماع الدوري الذي كان يعقد بين المدرسين والإدارة بعد أن كان عاجزاً عن الحديث بها. ويقول الوالد الأستاذ فهد واصفاً تجربته في تعليم اللغة العربية في الجمهورية الجزائرية:(أُعِرْتُ إلى الجمهورية الجزائرية لتدريس اللغة العربية في مدارسها الثانوية بعيد الاستقلال، وكانت الرطانة الفرنسية قد اقتحمت على الناس مدارسهم وبيوتهم وأسواقهم، وامتزجت بالعربية، فذهبت برونقها وبهائها؛ وعُينتُ في "ثانوية العقيد لطفي" بوهران، ومنذ الدرس الأول قلت لطلابي: "أنا لا أفهم اللهجة الدارجة "العامية" إلا ما كان منها عربي الأصل، ولذا لن أتكلم إلا الفصحى، ولن أقبل منكم إلا الكلام بها، وأخذتهم بالحزم، فكنت لا أسمع كلمة عربية محرفة إلا صححتها، ولا كلمة فرنسية إلا ذكرت بديلها العربي، فلم يَمْضِ عامان أو ثلاثة مع بعض الصفوف حتى رأيت الطلاب يتكلمون الفصحى بطلاقة لم أعهدها في بلاد عربية مشرقية، وأنا أعزو هذا النجاح إلى وجود بيئة عربية مصغرة (الصف) تعتمد السماع والمحاكاة أكثر من اعتمادها على قواعد النحو والصرف). من كتاب (العربية كما تعلمها الأولون، صيغ وأساليب لا قواعد وأعاريب) ص ١٥.

حياة جديدة

عندما اشتدت الأحداث في سورية الجريحة عام ٢٠١١ م، واستعرت فيها الحرب، أبى أن يغادر منزله وظل ثابتًا عاكفًا على قراءة القرآن الكريم وكتب التفسير وكتابة المقالات ونظم الأشعار.

وفي عام ٢٠١٣م، وبينما كان عائداً من مسجد علي بن أبي طالب في الحي الشمالي من مدينة درعا إلى منزله في ذلك الحي وبعد تأديته صلاة العشاء بسكينة وطمأنينة، باغته قناص مجرم بإطلاق رصاصة من سلاحه الناري مستهدفاً رأسه؛ لتهشم الرصاصة الجانب الأيسر من عظم جمجمته ويسقط مغشيًا عليه.

ولكن الله سبحانه وتعالى شاء بقدرته وجميل لطفه أن تكتب له حياة جديدة، بعد أن شهد عددٌ من صبية الحي سقوطه مغشياً عليه، فهرعوا إلى جاره الطبيب يطلبون إسعافه، ولبّى الطبيب النداء بوقف النزف، وتضميد الجرح، والعناية به، حتى أذن الله تعالى له باندمال جرحه واسترداد عافيته.

وإذا به يعود إلى الحياة من جديد، فينظر طبيبه إلى الصورة الشعاعية لجمجمته المتهشمة، وإلى فتات العظم المنتشر في مخه، ثم ينظر إليه ولا يكاد يصدق أن كل ذلك الأذى لم يضره في شيء!

ويعود الأستاذ فهد إلى حجرته الأثيرة حيث مكتبته وأوراقه؛ لينجز ما كان شرع بكتابته من مواضيع وقصائد. ولكن أثر النار في دماغه كان يهيج بين فينة وأخرى حتى انتهى به إلى انقطاع أبهره بعد ما يقرب من ثمانية أعوام على إصابته! وعسى أن يكتب الله له بذلك أجر الشهادة في سبيله، كما كتبها لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، حين توفي وهو يجد أثر السم الذي وضعته اليهودية الخبيثة في الشاة التي أكل منها في خيبر، بعد مضي ثلاثة أعوام على أكله منها. 

آثاره الأدبية: 

نشر الوالد الأستاذ فهد الجباوي رحمه الله أعماله الشعرية والثقافية في الصحف والمجلات السورية والجزائرية والسعودية كمجلة الأدب الإسلامي ومجلة الفيصل وغيرها من المجلات والدوريات وصحح كتب اللغة العربية المقررة في المرحلة الثانوية في كل من الجزائر والسعودية وسورية.

وصدرت له عدة مؤلفات منها:

 كتاب (تسهيل الإملاء)، وكتاب (العربية كما تعلمها الأولون، صيغ وأساليب لا قواعد وأعاريب) في ثلاثة أجزاء ملونة، وكتاب (تصويب أخطاء كتاب قصة الإعراب لأحمد الخوص). وله ديوان شعر لم ينشر. 

 شمائله وسجاياه

شغف المطالعة: وكان رحمه الله ملازمًا لكتاب الله تلاوة وتفسيرًا وحفظًا وكانت غاية سعادته في تأمل آياته والوقوف على معانيه وأحكامه. وكان لا ينتهي من تفسير آية إلا وقد كتب تأملاته فيها وربط معانيها بما يشهده من واقع المسلمين. لا يعرفه من يعرفه إلا وهو يقضي أيامه وسني عمره بين المساجد وأوراق الكتب فتارة يقرأ وتارة يكتب وتارة أخرى ينظم الأشعار. و كان لديه من القدرة والجلد على مواصلة القراءة ما يفوق الوصف و الخيال، وينقل عنه أحد طلابه قوله ( اقرأ كل ما وقعت عليه يداك) فجعله هذا الشغف غزير الثقافة في علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة واللغة والأدب والشعر والتاريخ والسياسة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغير هذه العلوم، كما كان ملمًا باللغة الانكليزية، لا يقع بصره على مجلة ولا صحيفة ولا كتاب مكتوب بالانكليزية إلا وقرأ ما في تلك الصحف والمجلات والكتب مستعملاً المعجم في الكشف عن الكلمات الغريبة ومدونًا ترجمتها على هامش الصفحات ليعود إلى مراجعتها في وقت لاحق. ولا أذكر أن جمعًا من الناس خاضوا في علمٍ من العلوم وهو معهم إلا وكان له نصيب في إغناء الموضوع المطروح للنقاش بما أوتي من ثقافة وعلم وبما أوتي من قدرة على التدليل على آرائه بالشواهد القرآنية والنبوية و أقوال المؤرخين وقادة الفكر والسياسة وبما يحفظه من قصص السابقين والمعاصرين.

حب الوطن: ولم أعلم أحداً ممن التقيت به محباً لوطنه ومتعلقاً ببلده ومنزله أكثر حبًا لوطنه وتعلقًا ببلده ومنزله من والدي الحبيب رحمه الله. وكان أحب مكان إليه في منزله حجرة المكتبة التي كان يقضي فيها ساعاته الطويلة في المطالعة والكتابة. ولم يكن وهو في مهجره يتمالك دموعه عندما يذكر عنده الوطن، ولاسيما إن كان ذلك الذكر منظوماً في قصيدة أو متغنى به في نشيد. ولا أنسى مشهد عبراته تتساقط على وجنتيه وصوته يتقاطر منه الأسى والحزن كلما سمع صوت المنشد الإسلامي أبي راتب يردد نشيده المشهور: 

روحي فداؤك طال البعد يا وطني

** كفى ضراماً بنفسي المعذبة

مالي اصطبار فراق الشام ألهبني

** أفديك أفديك هذا بعض أمنيتي

وحين أصيب بمرض الكورونا وأدخل إلى المستشفى لضيق نَفَسِه كان يقول أخرجوني من المستشفى وأعيدوني إلى منزلي فإن ذلك سوف يغنيني عن الأوكسيجين. وكلما عرضت عليه الهجرة من الوطن خلال الحرب التي دارت بين الشعب وأعدائه في العقد الثاني من هذا القرن كان يأبى الخروج ويجيب العروض بوابل من القصائد في حب الأوطان والتعلق بها. وما زلت أذكر أنه حينما كان يزور منتزهات منطقة الطائف وجبال عسير وهو في مهجره في تسعينات القرن الماضي ويأخذه جمال الطبيعة بجبالها ووديانها يعزي نفسه بذلك الجمال ويخفف من لوعتها لفراق وطنه الجميل لتشابه تلك الجبال والوديان بكثير من جبال ووديان بلاد الشام فكان يقول إن زياراته لهذه البقاع الجميلة تعوضه كثيرًا من الشعور بالحرمان من بلاد الشام ولكنه لا يلبث أن يعود عن مقولته تلك ويخبرنا بأنه لا شيء يغنيه عن العودة إلى وطنه سورية والاستمتاع بمنظرها وأرضها وأهلها وهوائها. وقد نظم قصيدة في هذا المعنى بعد عودته من إحدى زياراته إلى منطقة الشفا الجميلة قرب الطائف يقول فيها:

لله درُّكَ يا شفا***قلبي لظلِّكَ قد هفا

فافتح ذراعك ضمَّني***مترفِّقًا متلطِّفا

واسكب على حلْقٍ ظميءٍ سلسبيلًا قَرْقَفا

هذا نسيمُكَ أمْ يدُ الآسي تداوي مُدْنَفا؟

أذْكَرْتَني أيْكَ الشآمِ ودهْرَنا لمَّا صفا

أذكرتني برَدى على***شطآنه الحَورُ غفا

فإذا تجاوبتِ الرياحُ الهوجُ مارَ وأرْجَفا

أذكرتَني ثمَرًا لهُ***مؤتلفًا مخْتلِفا

أذكرتني طيرًا شجاني والمسامعَ شنَّفا

هذي الشآمُ فهل تُماري صاحبي فكفى كفى

 الوفاء: وكان رحمه الله شديد الحب والوفاء لرفاقه وخاصة القدماء منهم، فكان لا يألو جهدًا في مداومة وصلهم على الرغم مما أحدثته هجرته من فجوة كبيرة بينه وبينهم في الزمان والمكان. أذكر أنني كنت بصحبته في رحلة إلى مدينة دمشق وخطر له أحد أصدقائه الفضلاء الذين لم يلتق بهم منذ سنين طويلة، وكان رحمه الله قد عمل لدى ذلك الصديق في فتوته وشبابه وكان قد أخبر أنه لا يزال يسكن في مدينة دوما، فقرر الذهاب إلى دوما لزيارته على الرغم من مضي أكثر من ثلاثين عاماً على لقائهما الأخير، فلمَّا طرق الباب أجابته إحدى النساء من خلف الباب، فسألها إن كان أبو محمد في المنزل فأجابت بأنه قد توفي منذ عدة سنوات فحزن والدي رحمه الله لفقدانه حزنًا شديدًا وغادر منزله وهو يدعو له بالرحمة والمغفرة وحزنتُ معه على حزنه وأمنت على دعائه. رحم الله والدي الحبيب الوفي الشاكر لأهل الفضل والمعروف. فقد كان لا يدع العمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) فكان لا ينسى معروفاً أسدي إليه إلا وأدام مكافأة من أسدى إليه ذلك المعروف.

 الشجاعة: وكان رحمه الله شجاعًا في قول الحق والدفاع عن نفسه وأهله وماله وكان يعلم أن تلك الشجاعة قد تفضي به إلى الحرمان من الكثير بل إلى معاناة وسجن وعذاب ولكنه آثر أن يصدع بقول الحق، وقد أوذي في ذلك وتحمل تبعات جهاد الكلمة محتسبًا صابرًا. وما كان أمر تنحيته من وظيفة التدريس المحببة إليه إلا بسبب شجاعته في قول الحق وإنكاره للمنكر. ومن الأحداث التي تدل على شجاعته في الدفاع عن نفسه أنه تعرض وهو في طريقه لأداء صلاة الفجر لقاطع طريق ملثم الوجه يحمل سلاحًا حادًا في يده، فما كان من والدي رحمه الله إلا أن أمسك بتلابيب ذلك المفسد وأماط اللثام عن وجهه وجرده من سلاحه وأوعده بتحمل عواقب جريمته ففرَّ قاطع الطريق لا يلوي على شيء على الرغم من أنه كان في ريعان شبابه، وكان والدي رحمه الله في السبعينات من عمره. وبعد أن كتب والدي رحمه الله (محضرًا) في قسم الشرطة يصف بها ذلك المفسد جمعت شرطة المدينة صورًا للعديد من المشتبه بهم وألقت القبض على آخرين ثم طلب من والدي رحمه الله الحضور من أجل النظر في وجوه المشتبه بهم وإدلاء شهادته فيهم ولما حضر والدي ونظر إليهم وإذا به يجد ذلك المفسد الذي شهر عليه السلاح وسلب ماله بين هؤلاء، فما كان منه إلا أن أخبر القاضي بأنه وجده بين المقبوض عليهم فأخبره القاضي بأن عقوبة مثل هذه الجناية هي السجن لمدة تتراوح بين ١٠-١٥ عامًا فلما علم الوالد رحمه الله ذلك طلب من القاضي أن يعفو عن ذلك الجاني لأنه لم يكن متثبتًا تثبت اليقين بأنه هو الجاني، فكان يقول عفوتُ عنه لأنه كان لدي ما يقرب من ١٪؜ من الشك في هويته ولا أريد أن يقع عليّ إثم في إنزال عقوبة السجن بمن لم أكن أعلم جرمه علم اليقين. فكانت تلك الحادثة شاهداً على تحريه (رحمه الله) الحق وخوفه من ظلم الأبرياء حتى ولو كان احتمال ذلك الظلم بعيدًا.

 اتباع القواعد في كل أمور الحياة:

كان رحمه الله لا يسير في حياته إلا بقواعد السير فكان يعلمنا ويعلم من حوله بأن كل أعمال الحياة تحتاج إلى قواعد، فللحديث وللكتابة وللقراءة ولقيادة السيارة ولزيارة الأصدقاء ولإهداء الهدية ومخاطبة الناس والإصغاء إليهم قواعد وآداب يستوجب اتباعها. وكان الأمر كذلك حتى في طريقة وضع الفاكهة في أطباقها. وكان رحمه الله يحس بالضيق إن خرج الناس عن قواعد الحديث أو قواعد العمل أو قواعد المعاملات. و من أمثلة حرصه على اتباع القواعد أنه كان رحمه الله لا يمهل من يلحن في اللغة في الاستمرار في لحنه بل يصحح لحنه قبل أن يكمل جملته، و كان رحمه الله كثيرًا ما ينظر إلى مسافة الأمان التي يتركها سائقو السيارات بينهم وبين السيارات التي تسبقهم ثم ينظر إلى عداد سرعة سياراتهم ليحسب مسافة الأمان المثالية التي يجب أن تترك بين السيارتين فينصح السائقين بالتراجع قليلًا عن السيارات التي تسبقهم إن كان حسابه يدل على قربهم منها.وكان ينظر إلى صحن الفاكهة ويتأمل طريقة اصطفافها فإن وجد فيها اختلافًا أعادها ليصلح من طريقة وضعها فتصبح أكثر تناسقًا و جمالًا.

الطهارة ونظافة البدن: وكان رحمه الله شديد الحرص على نظافة بدنه وطهارته وحسن مظهره والعناية بأسنانه واستمر في ذلك وهو على فراش الموت وكان لا يحب أن يرى شعر الشاربين يتجاوز الشفة حتى لو كان ذلك بشعرة واحدة.

مع العربية

ويعد كتاب  (العربية كما تعلمها الأولون صيغ وأساليب لا قواعد وأعاريب) أهم ما قدم الوالد الأستاذ فهد رحمه الله من عمل في خدمة اللغة العربية إذ ينبني هذا الكتاب على تعلم اللغة العربية بمحاكاة أساليب العرب الفصحاء، وتقليدها بصورة تطبيقية عملية، أكثر من قيامه على تقعيد القواعد النظرية. يقول الأستاذ فهد الجباوي رحمه الله واصفاً عمله في هذا الكتاب: "بوحي من كلام الجاحظ وابن خلدون، وبتأملي تلك الأمثلة التي سقتها من الماضي والحاضر، وباطلاعي على نتائج الدراسات الحديثة في تعلم اللغات، وبخبرتي في التعليم والتعلم... اتجه تفكيري إلى تأليف كتاب في تعلم العربية ألغي فيه كل قواعد النحو والصرف، وأصوغ جملًا وأساليب تشتمل على هيئات التراكيب العربية، ونماذجها في الكلام لينسج الطالب على منوالها دون أن يسميها بأسماء النحاة: فعلًا، فاعلًا، مفعولًا، مبتدأ، خبرًا، حالًا، تمييزًا... ثم رجعت عن هذه الطفرة و اخترت طريقًا وسطًا احتفظت فيه بالمصطلحات والتسميات التي لا يحسن تركها، وألغيت أكثر من خمسين مصطلحًا، وجعلت المثل الأعلى من القرآن الكريم، وقد سميت الأنموذج المراد دراسته في كل درس "صيغة"، سواء كانت هذه الصيغة كلمة مفردة أم كلمة في جملة مفيدة تدرس حركتها تبعًا للعوامل المؤثرة فيها..."

هذا، وقد رقمت هذه الصيغ في الكتاب ليسهل الرجوع إليها، وأرفقت بجدول يقرن أرقام هذه الصيغ بمصطلحاتها في النحو والصرف، ليكون المتعلم في حالة خيار، بين أن يتعلم بطريقة صيغ المحاكاة، وطريقة المصطلحات النحوية والصرفية المعهودة بشكل مبسط وسهل.

و يقول الأستاذ فهد (إلى من فاته أن يتعلم اللغة العربية في المدارس وإلى من كانت العربية مقررة عليه في حياته الدراسية ولكنه لم يتقنها وصرفته عنها صعوبات نحوها وصرفها وإلى من يريد أن يتعلمها بمصطلحاتها التقليدية ولكن بصورة أسهل وأبسط، إلى كل من يرغب من هؤلاء في أن يتعلم اللغة العربية الفصحى بأن يتكلمها كما تكلمها العرب الأوائل وأن يكتبها كما كتبوها, فيرفع المرفوع وينصب المنصوب ويجر المجرور، أقدم هذا الكتاب القائم على تعلم العربية بمحاكاة أساليب العرب الفصحاء، وتقليدها بصورة تطبيقية عملية، أكثر من قيامه على تقعيد القواعد النظرية). و يقول جعلت هذا الكتاب في ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: للمبتدئين ولمن يرغبون في بلوغ مستوى متوسط من علم النحو والصرف. 

المستوى الثاني: لمن شاء التوسع في هذا العلم، والوقوف على مختلف أساليب العرب في كلامهم. 

المستوى الثالث: لمن بلغوا مستوى عاليًا في تعلم العربية. ثم يقول: (إذا حصلت للطالب ملكة اللسان العربي، وقامت في ذهنه صيغه وأساليبه، فصرَّفَ  الكلمة التصريف الصحيح، وحرك آخرها بالحركة الصحيحة، فلا تثريب عليه ألا يعرف من أي صيغ المشتقات هي، وألا يعرف إن كانت مرفوعة أهي صيغة الفاعل أم نائب الفاعل، وألا يعرف إن كانت منصوبة أهي الحال أم التمييز….الخ). ويقول:(وأنا مع هذا لا أدعو إلى إلغاء النحو والصرف، ولا إلى نسف ذلك البناء المحكم الذي شاده نحاتنا الفضلاء، حتى وإن رجحت فوائد طريقة صيغ المحاكاة على فوائد طريقة القواعد النحوية الحالية، وإنما أدعو إلى استخدام الطريقتين معاً، فالطلاب الذين يتجهون إلى الدراسات الأدبية والإسلامية يدرسون بالطريقة الحالية نحواً وصرفاً ميسراً؛ ليكونوا فقهاء العربية المختصين بدقائقها وتفاصيلها، والطلاب الذين يتجهون إلى الدراسات العلمية والفنية من صناعية وتجارية وزراعية يدرسون بطريقة الصيغة والمثل المحاكي. إنني أشبه الفريق الأول بمهندسي السيارات والفريق الثاني بسائقيها، فلا يلزم أن يكون كل سائق سيارة مهندسًا حتى يسمح له بقيادتها، وإلا توقفت حركة المرور وتعطلت مصالح الناس. فحسب طلاب الدراسات العلمية والفنية أن يتكلموا العربية ويكتبوها بما يقربهم من الكمال دون إلمامهم بدقائق النحو والصرف.

ويشترط الوالد الأستاذ فهد رحمه الله لنجاح هذه الطريقة كثرة المحاكاة العملية لأساليب الأوائل بالمِران على الحديث والتواصُل بالعربية وعقد حلق التدريب العملي المتتابع على استعمالها استعمالًا سليمًا وتدريس جميع العلوم باللغة العربية الفصحى. ومن أجل تحقيق هذا الغرض يقول:" أرى أن تنشئ وزارات التربية والتعليم في كل قطر عربي مدارس يقوم على تدريس العربية فيها مدرسون حذقوا علومها: لغة وأدبًا ونحوًا وصرفًا وبلاغةً وإملاءً وخطًا، وقد تعلموها بطريقتها المعروفة، ثم دُرِّبوا على تدريس بقية العلوم من رياضيات وطبيعيات واجتماعيات وفنون من رسم أو غيره يجيدون إلقاء دروسهم بالعربية الفصحى، بحيث تصبح المدرسة بيئة عربية شبه كاملة، يقضي فيها الطالب بضع ساعات في اليوم لا يسمع ولا يتكلم إلا العربية الفصحى؛ يخيل إلي أن خريجي هذه المدارس سيكونون أعرب الأجيال، وأفصحها منذ قرون عديدة. فإذا كوَّنا هذا الجيل الأول، ووثقنا من تمكنه في العربية عهدنا إليه تدريس الجيل الثاني بطريقة الصيغ والأساليب التي ينسج على منوالها، وكذا تستمر دراسة الأجيال القادمة. وبذلك نكون قد ربطنا أول جيل من خريجي طريقة الصيغ بآخر جيل تكلم العربية وكتبها قبل ظهور علم النحو والصرف. 

مع الشعر

وأما ديوان الأديب الراحل فقد كان ضمير الأمة الحي المعبر عن آلامها و آمالها و أحزانها وأفراحها فها هو  يتألم لحال سجين الفكر الذي زجت به أيدي الظالمين في غياهب السجون دون جريمة اقترفتها يداه إلا أنه آمن بالإسلام عقيدة ومنهج حياة ويتخيل نفسه أنه هو ذلك السجين وأن سياط الظالمين تنال من جسده كما تنال الأفاعي من أجساد من تلدغهم ويتخيل شدة البلاء الذي أصابه عند اقتياده إلى السجن ووداعه لأهله و بكاء أطفاله عليه والمرارة التي عصفت بهم وهم يرون سقط الرعاع يسوق أباهم إلى المعتقل، ثم يعزي نفسه بأن ما يقع عليه ما هو إلا فتنة لتمييز الشجاع من الجبان والمؤمن من المخادع وأن سنة الله اقتضت أن يكون الامتحان بالشدة سبباً للعزة و التمكين. وربما قد نظم هذه القصيدة عندما راعه نبأ زج كثيرٍ من رفاقه في السجون في أوائل ثمانينات القرن المنصرم أمثال الأستاذ عبد الغني العلوة والأستاذ حمد الخصاونة رحمهما الله تعالى وغيرهم ممن لم يكن جرمهم إلا أنهم آمنوا بشريعة الله منهجًا للحياة.

يقول في قصيدة (سجين):

أقول لها وقد طارت شعاعاً

** من السجان وحشيِّ الطباع

من الظلمات في سجن رهيب

** وأسياطٍ كما لدغ الأفاعي

أما عاهدتِ ربكِ ذات يومٍ

** على حمل الرسالة والدفاعِ

على بذل الدماء وبذل مالٍ

** وبذل الغاليات من المتاعِ

فصبرًا يا نُفَيسي ثم صبرًا

** فذا يوم ابتلاءٍ لن تراعي

فما لك تذكرين وداع أهلٍ

** فما أغناك عن ذكر الوداعِ

وما لك تذكرين وداع زوج

** مدامعها سواكب في التياع

وأطفالٍ عويلهم تعالى

** يسوق أباهمُ سَقَطُ الرَّعاع

دَعِي ذا واعلمي يا نفس أني

** أُمحَّصُ فاثبتي حين الصراعِ

دعي ذا للجبان فأنت نفسٌ

** مصاحبةٌ لذي قلبٍ شجاع

فهذا يوم إيمانٍ وعزم

** به الإخلاص ميزَ من الخداع

فكم من مؤمنٍ أمضى عقودًا

** بهذا السجن من دون انقطاع

فما لانت لظالمه قناة

** وما أغراه ممراع انتجاع

فنحن الواثقون لنصرِ ربٍّ

** وأمرُ الكافرين إلى ضياع

وها هو يتفطر قلبه شوقاً إلى عودة الإسلام إلى قلوب الناس وحياتهم وأن يعم الأمن والسلام أرجاء الأرض وأن يكف الأقوياء عن عدوانهم على الضعفاء وأن يسود العدل ويكون رادعًا للمعتدين في قصيدة جعل عنوانها (ياغيث مكة) رمزاً للإسلام:

يا غيث مكة إن الكون ظمآنُ

** هلاَّ يجودُ عليه منكَ هتَّانُ

قد صوَّحَ الروضُ فالأزهار ذابلةٌ

** جفَّتْ أقاحيه ثم اصفَرَّ ريحانُ

كبِّرْ بلالُ فأرواح الورى زهقت

** وسوف تحيا إذا ما انهَلَّ إيمانُ

كبر بلال فذي الآذان مصغيةٌ

** قد قرَّعَتْها أباطيلٌ وبهتانُ

كبر بلال، جباه الناس صاغرةٌ

** إذ عبَّدَتْها طواغيتٌ وأوثانُ

كبر بلال، فهذي الأرض مَسْبَعَةٌ

** والأقوياء ثعابينٌ وذؤبانُ

أين السلام؟ وكل الناس في فزعٍ

** كأنما الموت بالمرصاد يقظانُ

لا الفرد في سربه يحيا بمأمنه

** لصٌّ يصول وسفاحٌ وخوَّانُ

ولا الشعوب بأوطانٍ لها دَعَةٌ

** فطالما دمَّرَ الأوطانَ عدوانُ

وكم رجونا نتاجَ العلم يسعدنا

** فليس ثمَّةَ جَوْعانٌ وعريانُ

وأن تكون شعوب الأرض عائلةً

** والأرض من حولها قصرٌ وبستانُ

خاب الرجاءُ فأمسى بعدُ محْترِقاً

** ونحن والقصر والبستانُ نيرانُ

كبر بلال تقود الناسَ شهوتُهم

** على القلوب لها لُجْمٌ وأرسانُ

كبر بلال فلا الأخلاق ما رسمت

** كُتْبُ السماء ولا الإنسانُ إنسانُ

كم فيلسوفٍ وكم من مدَّعٍ بصَراً

** قادوا الجماهيرَ والقوادُ عمْيانُ

فليس يُصلِحُ هذا الكونَ مُشْتَرَعٌ

** إن لم يكن منهجَ الإصلاح قرآنُ

ولا تغيب قضية فلسطين عن مهجة الأستاذ فهد بل تظل حاضرة في قلبه وشعره وهو الذي يعتبرها أمَّ القضايا ويرى عودته إليها أحب إليه من جميع ما في الدنيا من متاع، ويبشر المسلمين بأن عودة فلسطين هي وعد إلهي لا ريب فيه، ثم يتخيل نفسه وهو يدخل القدس مرحبًا به بعد غياب طويل وقد خلت أزقتها وأحياؤها من كل ما يدنسها من الغرباء عنها والمحتلين لأرضها. يقول في قصيدة (دنا إيابي):

أضعْتُ العمر في تيه اغترابي

** فلسطينُ إليكِ دنا إيابي

تركنا في ثراكِ لنا قلوبًا

** تحنُّ إليها أجسامٌ صوابي

فلو أنَّ الدنا منحت إلينا

** أبَيْنَاها بصاعٍ من ترابِ

نعود إليكِ في وعدٍ يقينٍ

** من القهار في نصِّ الكتابِ

ففي "الإسراءِ" آياتٌ فصاحٌ

** بأن النصر آتٍ كالشهابِ

يُجَلِّي للمشرَّدِ كلَّ دربٍ

** ويحرقُ كلَّ سورٍ أو حجابِ

نعود لعشنا من كل صوبٍ

** نعود إليه من بعد الغيابِ

نرى الأبواب مُشْرَعةً إليه

** يقال لنا: ادخلوا من كل بابِ

كأنْ لم يكن فيهِ علوجٌ

** من الشُّذَّاذِ من كلِّ الشِّعابِ

نعود إليه يقدمنا شبابٌ

** أولو عزمٍ فأعظم بالشبابِ

من التنزيل قد نهلوا مضاءً

** وإيمانًا كبحرٍ ذي عبابِ

بمِثْلِهمُ صلاحُ الدين أرسى

** قواعدَ نصرِ "حطينَ" العُجابِ

ويناجي الوالد الأستاذ فهد الجباوي ربه في قصيدته (حنانيك يا رباه) وكأنه يودع هذه الدنيا ويتوسل إلى ربه بأعماله الصالحة وخاصة في عبوديته لله تعالى وامتناعه عن التزلف للظالمين وفي مطعمه الحلال ويسأل الله أن يفرج كرب المسلمين وأن ينصر أمة الإسلام على من ظلمها:

حنانيك يا رباه إنك واحدُ

** فلستَ بمولودٍ ولا أنت والدُ

كفرتُ بأربابِ الألى ضلَّ سعيُهمْ

** وحسْبيَ أني مخلصٌ لك قاصدُ

فمنهمْ عبيدُ الجاه والمالِ والهوى

** ومنهمْ لأصنامٍ من الناس عابدُ

فأنت الذي أدعو إذا ما أصابني

** سهامُ خطوبٍ مُرْدِياتٌ قواصدُ

وإنْ عصفَتْ في القلبِ هُوجُ بلابلٍ

** فأنت لهاتيك البلابلِ ذائدُ

فذكرك بردٌ فوقه وسكينةٌ

** به ينطفي جمرٌ حَوَتْهُ مواقدُ

وأدعوك إنْ أنعمتَ يوماً بنعمةٍ

** عليَّ بأنْ يبقى لها منكَ رافدُ

أجَبْتَ دعائي عندَ كلِّ رغيبةٍ

** ومرزأةٍ دوماً أنا لك حامدُ

فمالي شفيعٌ غيرُ طيِّبِ مَطْعمٍ

** وصالحِ أعمالٍ، وفضلُكَ زائدُ

وأسألك اللهم أمةَ أحمدٍ

** فقد نزلتْ فيها رزايا أوابدُ

غدَتْ دُوَلاً من بعدِ دولة عزةٍ

** موطَّدة الأركان يخشاها الكائد

غزاها العدا من كلِّ جنسٍ وملَّةٍ

** وجاس أراضيها غريبٌ وحاقدُ

وأضحى لها منْ حاكمِينا محالِفٌ

** يحاصرُنا طَوْراً وطوراً يطاردُ

عصيناكَ يا رباه لمَّا أمرتنا

** بتحكيم شرع الله فيما نكابدُ

عصيناك لمّا قد رضينا بقادةٍ

** يسوسهمُ أنكى العدى وبئس القائد

يسوموننا سوء العذاب وإنهمْ

** لأعدائنا سيفٌ علينا وساعِدُ

وفاته ودفنه

وافته المنيَّةُ يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي القَعدة عام 1443هـ، يوافقه الحادي عشر من شهر حَزيران ٢٠٢٢م في مدينة درعا (أذرعات) عن خمس وثمانين سنة وقد صُلِّيَ عليه في مسجد مصعب بن عمير في حي الكاشف في درعا المحطة ودفن في مقبرتها. وكانت وفاته رحمه الله تعالى من آثار عللٍ متوالية ألمَّت به من جَرَّاء الطَّلق الناري الذي كان أصاب رأسَه، على ما تقدَّم آنفًا.

هذا وقد رثاه كثير من إخوانه وطلابه وأقربائه الذين عرفوه وتعلموا منه كما رثاه كثير ممن وصل خبره إليهم، وفي رثائه يقول الشاعر هاني أحمد:

يبكيك مجلسنا يا فارس الأدبِ

** فالدمع يهراق من حزن ومن وصبِ

وصار مجلسنا قفرا نهيم به

** تجري جداوله من دمعنا السربِ

يبقى يراعك فينا خالدا أبدا

** إذا البلا طاش بالأقلام والكتبِِ

حياتنا بكمو كانت تدللنا

** واليوم قد قلبت رأسا على عقبِ

ما زلتَ تُحيي- وإن تنأى-ضمائرَنا

** كالشمس قد أشرقت فينا ولم تغبِ

قصيدتي من حروف الحزن أنسجها

** تكون عَبرة أبناءٍ لخير أبِ

تأبى عليّ ودمع العين يغرقها

** وسلوتي نفدت والبحر يعصف بي

تجهمت لي القوافي وهْي مدبرة

** فكيف مثليَ يرثي فارس الأدبِ

ولست أرثيكمو بل أرثي أفئدة

** بفقدكم كُفنت بالحزن والنصبِ

يا أمة العرب هذا البدر نعرفه

** فإنه من خيار السلة النجبِ

دعني أقبل قبرا ضم أعظمه

** وأذرف الدمع تهمالا وأنتحبِ

هذا وقد نظمتُ بعض الأبيات في وصف حالي وحاله وأنا بعيد عنه بعد أن عصفت به العلل وقرر الأطباء إدخاله إلى جناح العناية المركزة قبل وفاته، فانتابني الأسى لعجزي عن ملازمته وعلاجه وأنا الطبيب الذي يداوي من يقصدني من كل أجناس البشر وأعراقهم وأديانهم. وهذه بعض أبيات القصيدة: 

أنفاسك انقطعت من بعد أنفاسي

** والهول قد راعني من شرِّ وسواسِ

إن كان سُقْمُكَ قد ألقى بهم فَزَعًا

** ما بالهم قد سَلَوا سُقْمي وإحساسي

يا والدي هل تنوء الأرض عن وَلَدٍ

** بَرٍّ بكلِّ الورى مِنْ كُلِّ أجناسِ

يأسو ويسعفُ من فاضتْ مواجعُهُ

** ما جُرْمُ بِرٍّ منِ ابنٍ محسنٍ آسي

باتت مهاجِرُنا في كلِّ ناحيةٍ

** كنَّا بحَبْسٍ فأضحينا بأحباسِ

والناسُ قدْ جَمَعَتْ في حربِنا مِلَلاً

** لا بارك اللهُ في مَلْعُونةِ الناسِ

ما كان جُرْمُ الأُلى في سُقْمِهِمْ وهَنُوا

** أنْ يقذفوا بين أخيامٍ وأرْماسِ

والحُرُّ ما له بينَ الذابحين سوى

** جَزٍّ بأسيافهم أو نَحْرِ أمواسِ

مَحقٌ وقحْطٌ وآهاتٌ ومَسْغَبَةٌ

** عامُ الرَّمادةِ في طاعونِ عَمْواسِ

في خَطْبِها أُحُدٌ جاءت لتفتننا

** في نارِ مَقْتَلِها في ألْفِ جَسَّاسِ

هل كنتُ أرْقُبُ أن أسعى إلى زمنٍ

** والنَّحْبُ قدْ حلَّ في أهلي وجُلَّاسي

يا والدي هل يعودُ الشمْلُ مجتَمِعاً؟

** والفجْرُ يُشْرِقُ في عيدٍ وأعراسِ

تُحْيِي محافِلَنا والأنسُ يجمعُنا

** والنصرُ يزهو بأعلامٍ وأقواسِ

هذا خطابك في كلِّ الألى شهدوا

** حانَ اللقاءُ أأنت الذاكرُ النَّاسي؟

كان أملي أن ألقاه مرات ومرات في هذه الحياة بل أن أكون معه في كل حين، ولكن شاء الله ألا ألقاه بعد مرضه الأخير وكما قال أحدهم يصف حال أبيه المتمسك بالبقاء في أرضه:" كان يعرف أني لن أعود، وكنت أعرفُ أنه لن يسافر". 

رحم الله الوالد الحبيب الأديبَ الإسلامي الفاضل فهد بن أحمد الجباوي، ورزقه الفِردوسَ الأعلى من الجِنان، وجعله مع الذين أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقًا، وجمعني به وبهم وأكرمني بصحبتهم وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.