استشهد اليتيم

 

في رحيل الشهداء تبقى الكلمات يتيمة، وباردة أمام الدم الدفيء، والقلوبِ التي نعرف أنها تكْبت نارَها في مكان ما، ونعرف أن اللغة التي بأيدينا تخذلنا أمام مفارق الوجود الكبرى، ونراها أقل مما ينبغي، ولكننا في رحلة الدنيا محكومون بالنقص وما لا يكتمل، وبالرحيل أيضاً.

 

رحيل الشيخ أسامة اليتيم، يفتح علينا أبواب غضب كبيرة، من أنفسنا أولاً، ومن ذاكرتنا المتأخرة والخؤونة أمام الأحياء، الذين يغرقون بيننا بملامات الناس وخذلانهم، ويرحلون عنا بالأكفان وبيانات التعزية والإشادة.

 

في الشهور الأخيرة قبل رحيله، لم يكن يمر يوم على القاضي الأول في درعا دون أن يسمع من يتهمه أو يتهم دار العدل بالتقصير أو الانحياز أو الظلم أو الكفر، من يتهمونه هم ذاتهم الذين أضعفوا مشروع دار العدل بعدم تقديمهم القوة اللازمة لإقرار العدالة، ثم يتذكرونها حين يكون لديهم قضية ويطلبون من القضاء أن يعتقل الجناة، بعد أن أفشلوا هم أنفسهم قدرتها على ذلك.

 

كنت أردتُ أن أكتب من قبل إن مشكلة دار العدل في حوران تلخص أزمة المثقف في الثورة، وفي بلداننا بالعموم، يُطالب هذا المثقف بأن يقدم حلوله للواقع، ويُلام لأنه ليس بين الناس، فيكون بين الناس ويقول حلوله، فلا يستجيب له أحد ولا يرون أنه أهل لهذه المرجعية، وإن وقع الخطأ كان هو الملوم أيضاً، أين المثقفون؟، أين دار العدل؟

أندم الآن أنني لم أكتب ذلك في حياته.

 

بعد مغادرته الأردن وعودته إلى درعا، انغمس الشيخ أسامة اليتيم في مشروع توحيد المرجعية القضائية في درعا، ستة أشهر التقى فيها الجميع وكان محلّ توافق بينهم، حتى أعلن دار العدل، وألغيت كل المحاكم الأخرى، بما فيها محكمة جبهة النصرة الشهيرة (الكوبرا) والتي لم يكن يظن أحد أنهم سيتخلّون عنها.

 

كانت دار العدل في حوران المشروع الأنجح (وشبه الوحيد مع القضاء الموحد في الغوطة) في توحيد المرجعية القضائية وتنظيم العمل القضائي في المناطق المحررة، حتى على المستوى القانوني والشرعي الذي تمّ العبث به كثيراً في ملهاة المحاكم الشرعية في الثورة السورية، حيث أقرّ -وهو السلفي- مع القضاةِ القانونَ العربي الموحد كمرجعية قانونية للمحكمة بعد وقت من تشكيلها.

 

بعد وقت قصير ترك لواء شهداء اليرموك المحكمة، ثم حركة المثنى، ثم جبهة النصرة، ثم تركت دعمّها معظم فصائل الجيش الحر، ولكن المحكمة لم توقف عملَها وبقي الشيخ أسامة اليتيم مصرّاً على ألا ينهي مشروع العدالة، بين من يلومه لأنه لا يعتقل متهماً من الحر، أو من يلومه على ضحايا جبهة النصرة قبل تشكيل المحكمة، هو كان واعياً بقدرته وأدواته المحدودة، ويحاول أن يمرر مشروعه بأفضل منها.

 

كان يحاول، يحاول أن يصلح شيئاً في هذا الخراب، وأن يؤدي أمانته في الدينا، ويقدم واجبه تجاه الثورة، وحاولَ كثيراً، خدمةً للثورة ولحلمه ببناء هذا الوطن الذي تخلّى عنه الكثيرون، حتى من تظاهروا ثم أصبحوا متابعين ومتضامنين ولائمين من بعيد، نشط في المظاهرات وفي الدعوة وفي الكتابة وفي الإغاثة وفي السلاح وفي القضاء، التقى مع الجيش الحر ومع الجبهة الإسلامية ومع جبهة النصرة ومع غيرهم، وواجه النظام والفاسدين والجناة والتكفيريين، وتخلّى عنه الكثيرون، وحاول إسقاطه الكثيرون، واغتيل في النهاية متعباً، عائداً إلى جوار أبي تمّام وإخوته الشهداء في جاسم.

 

مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبْقَ روضةٌ

غداةَ ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ

 

كما قال أبو تمام نفسه، مضى تاركاً لنا حلمنا الأول الجميل بدولة العدالة، الذي لم ينكره حتى أيامه الأخيرة، رغم الفائض الهائل لدينا بالمزايدات التي تكفي لنوزّعها على الثورات اللاحقة والسابقة، كان جوابه لأحدهم:

 

سقفي دولة لا تقمع الحريات ولا تقوم علی الفساد والظلم والقمع، إذا حصلت عليها وسُمح لي بالكلام والدعوة والإصلاح فهذا هو غاية الثورة في نظري "

في رثاء من حاولوا.. ليخجل الواقفون على المسافة، ثمة دوماً فراغ في الجدار لن تملأه الشكوى.

 

إلى رحمة الله 

سلّم على الشهداء