إلى متى سنظل أمة أميّة؟

 

لقد اشتهرت أمتنا على مدى تاريخها الطويل بكثرة العلماء والمفكرين والمبدعين مما جعل معظم دول العالم تسعى إلى عواصم العلم والمعرفة (دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة والقيروان) فقد أرسل الملك جورج الثاني، ملك إنكلترا، بعثة من بنات الأشراف وعلى رأسهنّ ابنة أخيه دوبانت، الى الخليفة هشام في قرطبة يلتمس منه احتضان البعثة ورعايتها قائلاً: "أردنا لأبنائنا وبناتنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم والفن في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربع".

وفي مقابل هذا التقدم العلمي الكبير لأجدادنا أصبحنا أسوأ خلف لأفقه وأعلم سلف، ففي العام 1966 كشف وزير الدفاع الصهيوني موشي ديان لصحيفة فرنسية عن خططه في غزو مصر وسورية والأردن، واستغربت الصحفية الفرنسية التي أجرت اللقاء معه كشفه لهذه الأسرار؛ فضحك قائلاً: العرب أميون لا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون، وصدق فيما قال، وتم غزو سورية ومصر والأردن في الخامس من حزيران عام 1967، واحتل سيناء وأغلق قناة السويس واحتل الضفة الغربية والقدس واحتل مرتفعات الجولان.

وتحضرني الحالة المأساوية التي يعيشها وطننا العربي من مشرقه إلى مغربه: هجمة بربرية صهيونية على قطاع غزة، شلال دماء في سورية على يد نمرودها بشار الأسد، قمع وتكميم للأفواه في مصر، صراع واحتراب الإخوة الثوار في ليبيا، حروب أهلية طاحنة في اليمن، صراعات واغتيالات في لبنان، تخاصم وتنابذ ومناكفات بين حكام الخليج.. دون أن يظهر في هذه الأمة رجل رشيد ليس أمياً يقرأ التاريخ والحاضر والمستقبل لينقذ هذه الأمة من أميتها.

لست أزعم أنني ذاك الرجل الرشيد، ولكنني ألتمس من القادة العرب أن يقرؤوا التاريخ ففيه الكثير مما يمكن أن يوضح الصورة لهم، فلو رجعوا إلى وثيقة مؤتمر "كامبل بنرمان" لوجدوا صورة واقعهم الحالي الذي خطط له الغرب قبل مئة سنة وأوجدوه في غفلة من عقلاء الأمة الذين غيبوا لأكثر من مئة سنة في ظل حكم الأميين من هذه الأمة، فقد عقد في لندن العاصمة البريطانية، التي كافأتنا على ما قدمناه لها من علوم ورقي وحضارة، عقد في لندن عام 1905 مؤتمراً استمرت جلساته حتى عام 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطاني؛ يهدف إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن، وقدم فكرة المشروع لحزب الأحرار الحاكم في ذلك الوقت، وضم الدول الاستعمارية في ذاك الوقت. وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية سموها "وثيقة كامبل" نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل-بانرمان.

قدّم المؤتمر توصيات الى حكومة الأحرار  بهدف إقناع رئيس الوزراء الجديد بالعمل لتشكيل جبهة استعمارية لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ولتحقيق بعض الأهداف التوسعية في آسيا وأفريقيا. وبالفعل تأسست هذه اللجنة العليا، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضم ممثلين عن الدول الاستعمارية الأوروبية وهي: انكلترا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وبلجيكا وهولندا، الى جانب كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول في تلك الدول. واستعرض المؤتمر الأخطار التي يمكن ان تنطلق من تلك المستعمرات، فاستبعد قيام مثل تلك الأخطار في كل من الهند والشرق الأقصى وإفريقيا والمحيط الأطلسي والهادئ، نظراً لانشغالها بالمشاكل الدينية والعنصرية والطائفية، وبالتالي بُعدها عن العالم المتمدّن. وأن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لاسيما بعد ان أظهرت شعوبها يقظة سياسية، ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية وحكم "الاتحاد والترقي" التركي... ويتابع المؤتمر، ليضيف، إن خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها وهي: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان، ولم ينس المؤتمر أيضاً، عوامل التقدم العلمي والفني والثقافي. ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية متأخرا، وعلى ايجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. ولذا أكدوا فصل الجزء الافريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة الدولة العازلة، عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية. وهكذا قامت الدولة العبرية.

وتوصل المؤتمرون إلى نتيجة مفادها: "إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات". والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة: "ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان".

وأبرز ما جاء في توصيات المؤتمِرين في هذا المؤتمر:

1- إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة:

وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا لتصل إلى مستوى تلك الدول.

الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها.

الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديداً لتفوقها، وهي بالتحديد "الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام" والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف والتقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.

2- محاربة أي توجه وحدوي فيها:

ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب ألا وهي "الدولة العبرية" واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة.

3- فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة العبرية، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، مما أبقى العرب في حالة من الضعف.

وهذا ما فعلته الدول الاستعمارية الآنفة الذكر في وطننا العربي الذي يخشاه الغرب، وكلنا يعرف ما تلاه من تمزيق هذا الوطن إلى دويلات بموجب اتفاقية سايكس بيكو، فهل من حاكم رشيد يقف بشجاعة أمام الحالة المتردية والمحزنة التي يعيشها وطننا العربي فالرجال مواقف سيسجلها التاريخ له أو عليه، يخرج هذه الأمة من أميتها ويقرأ حقيقة ما خططه ويخططه أعداء هذه الأمة لنا؟!!

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين