إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي (8) 

الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع:

وهو للقاضي عياض بن موسي اليحصبي، من الصف الأول من علماء المغرب، ولد في مدينة سبتة، في منتصف شعبان من سنة 476هـ، وهنا نجد أنفسنا أمام كتاب لا يقع بشكل مباشر في حقل الفكر التربوي، كما رأينا في كتابات ابن سحنون والقابسي وابن عبد البر، فهو في الحديث، ولكن عدداً من موضوعاته يمكن أن تشكل رافداً يرفد الفكر التربوي الإسلامي بزاد تربوي على درجة عالية من الأهمية، وهذه هي الصورة التي يمكن أن نجدها في جهود كثيرين آخرىن.

وسوف نقتصر على فكرتين اثنتين من الكتاب لما لهما من صلة وثيقة بعلوم التربية:

أولهما: ما يتعلَّق بالفهم والوعي، فعلى الرغم مما هو مشهور من احتلال (الحفظ) مكانة مرموقة في التربية الإسلاميَّة، فإنَّ ذلك لم يكن ناتجاً عن التقليل من ضرورة (الفهم) و(الوعي)، فلقد كان الحفظ مسألة ضرورية بالنسبة لمجتمع لم تتوافر فيه أدوات ووسائل الطباعة، والدليل على ذلك هو هذه الأقوال والمواقف المتعدِّدة التي تنوِّه بالفهم، وبضرورة حسن الإدراك والوعي، وهو ما عُبِّر عنه بألفاظ مختلفة، لكنها تحمل المعنى نفسه، ونفس المضمون.

فلقد روى القاضي عياض عن مصعب الزيدي أنَّه سمع من مالك بن أنس يقول لابني أخته، أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس: (أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه - يعني الحديث - ؟ قالا: نعم، قال: إن أحببتما أن تنتفعا وينفع الله تعالى بكما، فأقلا منه وتفقَّها).

فهو يشير إلى أنَّ المسألة ليست (كمّاً) من الأحاديث يحفظها المتعلم، وإنما لابد من (الإجادة)، والإجادة لا تتأتي بمجرَّد الحفظ وإنما بالفقه الذي هو الوعي والفهم. 

ويؤيد هذا ما روي عن مالك أيضا قوله: (ليس (العلم) بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله تعالى في القلوب) [أحمد فؤاد الأهواني، مرجع سابق، ص 91].

والعلم عندما يتحوَّل إلى نورٍ في القلب، فإنَّما يعني ذلك حسن الاستفادة به في مسالك الحياة ودروبها المختلفة.

ثانيهما: التدرُّج، فمن المهم في عمليَّة التعلُّم والتعليم أن يسير الإنسان بخطى مُتئدة، لا ينتقل إلى واحدة قبل أن ينتهي من سابقتها، وهو ما سبق أن أشرنا إليه من أساسيات التعلم والتعليم عند المؤسس الأول، الإمام مالك. ولا غرو في ذلك، فالعلم (تراكمي) طابقاً بعد طابق، مما يجعلنا نحرز تقدماً فيه وتطوراً، وهذا يوجب كذلك الالتزام بقاعدة (التدرُّج) لا القفز جملة واحدة، وينقل القاضي عن ابن شهاب:

(... ولا تأخذ العلم جملة واحدة، فإنَّ من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الليالي والأيام) [أحمد فؤاد الأهواني، مرجع سابق، ص 248].

ونحن مع ميلنا إلى عدم المقارنة دائماً مع توجيهات العلوم الحديثة، إلا أننا لا نملك هنا إلا أن نشير إلى ما أكدته دراسات علم النفس في مجال التعلم من أنَّ التدريب الموزَّع، خير من التدريب الذي يتمُّ دفعةً واحدة، ومن أجل ذلك تحرص نظم التعليم في مختلف أنحاء العالم على توزيع المادة المقرَّرة على عدَّة أسابيع تمتدُّ إلى فصل دراسي، وربما إلى عام كامل.

كذلك، فهناك مراحل لابد من المرور بها وعدم الوقوف عند واحدة منها دون الأخرى، والمرحـلة الأولى -بطبيعة الحال- تقدم على المستويات الثلاث، أولها: الاستماع، وثانيهما: الإنصات، وثالثها: الحفظ، ومن ثم يمكن تسمية هذه المرحلة (الاستيعاب).

وهو في قوله وتفرقته بين (الاستماع) و(الإنصات) إنما يعي جيداً ما ورد في القرآن الكريم، مما يتصل بواجبنا حين يقرأ أمامنا القرآن أن (نسمع) وهي مرحلة الاستقبال السلبي، ثم (ننصت) حيث يكون الانتباه والإدراك لما استقبلته الآذان.

ثم تأتي المرحلة الثانية المهمة، وهي الانتقال بما نعلم من حيز الفكر إلى حيز التطبيق، من المثال إلى الواقع، هي مرحلة العمل بما نعلم.

وأخيراً لابد من (إذاعة) و(نشر) ما تعلمناه حتى تعم الفائدة ويكثر المستفيدون ونكسر بها احتكار المعرفة [أحمد فؤاد الأهواني، مرجع سابق، ص 248].

الموافقات في أصول الشريعة:

وهو لأبي إسحاق الشاطبي، الغرناطي المالكي، المتوفى سنة 790هـ.

والكتاب -كما هو واضح في عنوانه- يدخل في باب أصول الفقه، ولا علاقة له بالمسألة التربويَّة، حيث تناول فيه مقاصد الشريعة وقسَّمها إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يُفصِّل كلَّ نوع منها، وأضاف إليها مقاصد المكلَّف في التكليف، وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة، وتسعة وأربعين فصلاً، مبيناً كيف أنَّ الشريعة مبنيَّة على مُراعاة المصالح، وأنها نظام عام بشري أبدي، لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية [عياض بن موسي: ترتيب المدارك وتقريب المسالك، بيروت، دار الحياة، د.ت. ج3، ص 808].

لكن، وبحكم العروة الوثقي بين التربية والفقه، كما ألمحنا مراراً، عرَّج على الكثير من القضايا التربويَّة، كما سيتضح لنا فيما يلي.

ففي المجلد الأول، في القسم الأول من الكتاب والذي خصَّصه للمقدمات الأساسيَّة، نجد:

المقدمة الخامسة: الاشتغال بالمباحث النظريَّة التي ليس لها ثمرة عمليَّة مذموم شرعاً، والقدر المطلوب من علم التفسير والعلوم الكونية.

المقدمة السادسة: في بيان هدي الشريعة في التعليم وأنَّ التعمُّق في التعاريف والأدلة والبعد بها عن مدارك الجمهور ليس من هدي الرسول ولا السلف الصالح.

المقدمة السابعة: العلم ليس مقصوداً لذاته بل للعمل به، حتى أنَّ العلم بالله تعالى لا فضل فيه بدون العمل به، وتأويل أدلة فضل العلم.

المقدمة الثامنة، مراتب العلم ثلاث: علم تقليدي، وعلم استدلالي، وعلم تحقيق راسخ، وهذا هو المطلوب شرعاً؛ لأنه يبعث على العمل، ويعصم عن الزلل.

المقدمة التاسعة، أقسام العلم ثلاثة: ما هو من صلب العلم، وما هو من ملح العلم، وما ليس من صلبه ولا من ملحه.

المقدمة الثانية عشرة: لابد للعلم من معلم، ولابد في المعلم أن يكون متحققاً بالعلم، وطريق أخذ العلم.

وفي القسم الثاني، وهو كتاب الأحكام، نجد في المسألة الحادية عشرة فصلاً عن بيان الاختلاف في الغرائز والأهليات في الناس (القدرات والاستعدادات)، ووجوب توزيع الأعمال في المسلمين على هذه القاعدة، وقد علَّق شارح الكتاب (عبد الله دراز) على هذا المبحث بقوله: (بحث قيم في التربية والاجتماع).

وفي المجلد الثاني، نجد في القسم الثالث المخصَّص لمقاصد الشارع:

في المسألة الثالثة يشير الشاطبي إلى ما كان للعرب به عناية من العلوم، وأنَّ القرآن أتى عليها بالتقرير أو التعديل أو الإبطال أو الزيادة.. الخ.

وفي المسألة الرابعة نجده يؤكد أن ليس كل العلوم لها أصل في القرآن كما زعم كثير من الناس.

وفي اعتقادنا أنَّ في مباحثه التي أوردها في كتاب الاجتهاد، في المجلد الرابع، القسم الخامس، عدد غير قليل منها يفيدُ إلى حدٍّ كبير في منهجيَّة البحث التربوي الإسلامي، وكذلك في فلسفة التربية الإسلاميَّة.

أما ما جاء بعد ذلك عن الاستفتاء والاقتداء في المجلد الرابع نفسه، فعددٌ من مسائله قريب الصلة بطرق التعليم، كقوله، على سبيل المثال في المسألة الأولى: لا يسعُ المقلِّد إلا السؤال عما يجهل، وفي الثانية: إنما يسأل أهل الذكر، فإن تعددوا وجب الترجيح. وفي المسألة السابعة يذكر فيها أوصاف العلماء الذين يصحُّ تقليدهم.

وفي نهاية الكتاب، في الجزء الخاص بلواحق الاجتهاد، وخاصة في موضوع (أحكام السؤال والجواب)، نجد المسألة الأولى يتناول فيها: بيان الحال التي يلزم فيها للعالم أن يجيب المتعلم، والثانية تتعلق بذمِّ الإكثار من الأسئلة، ويتناول في المسألتين الخامسة والسادسة أموراً تتعلق بقواعد وآداب المناظرة.

جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض بين المعلمين وآباء الصبيان:

وهو لأحمد بن أبي جمعة المغراوي، الملقب بشقرون، المتوفى سنة 929هـ على وجه التقريب، وهو من مغراوة بالمغرب الأوسط بين مليانة وتلمسان شمالاً[عبد الرحمن النحلاوي: يوسف بن عبد البر القرطبي، دمشق، دار الفكر، 1986، ص 9].

والحق أنَّ أهميَّة الكتاب ترجع إلى كشفه عن ملامح المجتمع المغربي أثناء القرن التاسع، وعن البواعث والعوامل التي ساعدت على إبراز السمات الفكريَّة في تلك الفترة، فهو زيادة على ما يقدمه من معلومات عن أساليب التعليم ومناهجه وموضوعاته ابتداءً من القيروان ومروراً بالمغرب الأوسط إلى المغرب الأقصى، يقدم لنا وصفاً غير مباشر للوضع الأخلاقي الذي كان سائداً [عبد البديع عبد العزيز الخولي: الفكر التربوي في الأندلس، القاهرة، دار الفكر العربي، 1985، ص 90].

والكتاب يتضمَّنُ قَدْراً لا بأسَ به من الأحكام الفقهيَّة التي تتصلُ بالمعلمين وعلاقاتهم بأولياء أمور التلاميذ، كما تتصل بالأجور التي يتقاضونها في مقابل قيامهم بواجبهم.

وتشير مقدمة الكتاب إلى الدافع الذي دفع المغراوي إلى كتابة الكتاب، وهو الدافع نفسه على وجه التقريب الذي رأيناه عند غيره من الكتاب، فهو يشير إلى ما طلبه منه بعض الإخوان من أن يضع جامعاً مختصراً مفيداً في أحكام المعلمين والمتعلِّمين وآبائهم، وحقوق بعضهم على بعض وأمر الحذقة وأجرة الشهور والأعوام والحذاق وسائر ما هو عرفٌ لهم وعليهم في مواسم المسلمين (ليرتفع بذلك بينهم الشقاق، مما ورد في ذلك عليه في الشراح من أنقال أئمتنا المالكية والأمهات وتشتته في الدفات والكناشات بما لا يطيق حصره مع ضيق الوقت) [عبد البديع عبد العزيز الخولي: الفكر التربوي في الأندلس، القاهرة، دار الفكر العربي، 1985، ص 92].

وباستقراء الكتاب، نجده يتناول موضوعات مثل:

- باب الحذقة، وما موضعها من القرآن، وهل هي محدودة أو موكولة إلى العرف، ولمن تعطى من المعلمين إذا تداولوا صبيّاً ومتي يستحقها المعلم، وهل له ذلك إن عاود الصبي القرآن أم لا؟

- باب حكم الإجارة على تعليم القرآن والأصل فيها، وهل يقضى بما يعطى للمعلم في المواسيم؟ وحكم آداب الصبيان وتعليمهم وتسريحهم وقبول هديتهم.

وقد تناول المغراوي موضوع أجرة التعليم حيث أخذ يبحث فيما يبرِّرها من مصادر الحديث والفقه، وهنا يظهر المذهب المالكي واضحاً في جواز أخذ الأجرة من قبل المعلم في مُقابل قيامه بمهمَّة التعليم، فعلى غير ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، نجد مالكاً قد سوَّغ للمعلم أن يتصرَّف فيما يقدم إليه من لدن الأولياء، ذلك أنَّ النظر من جهة، وعمل أهل المدينة من جهة أخرى يعززان الرأي بأخذ الأجرة [ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1968م، المقدمة].

وإذا كان المغراوي قد تأثر بكل من ابن سحنون والقابسي، فإننا لا نراه موافقاً لما ذهب إليه القابسي من حيث (الإجبار) بالنسبة لوالد الطفل أن يعلِّم ابنه، فذلك ينبغي أن يتم عن طواعية واختيار، ووفقاً لظروف هذا الوالد.

وبعد:

فإننا ونحن نختتم هذه الدراسة لابد وأن نشير إلى ما ساقه د. الأهواني من نقد قاسٍ للمنهج الذي سار عليه القابسي ألا وهو منهج أهل الفقه، فالمسألة لا تتعلق بالقابسي وحدَه، وإنما بكل الفقهاء على وجه العموم وفقهاء المالكية على وجه الخصوص، حيث اتهم هذا المنهج بأنه يؤدي إلى الجمود، بينما الحياة في حركة دائمة، تتغير من زمن إلى زمن.

ونحن نسجل دهشتنا لهذا، فليس الجمود لصيقاً بكون المنهج نقليّاً، ولكنه قد يكون ناتجاً عن سياق حضاري عام يقهر الأمَّة، ويمنع حرية التفكير والنقد، فلا ينتج العلماء والمفكرون إلا آراء متخلِّفة.

إنَّ منهج الفقهاء إذ يجعل مصدريه اللذين يَسبقان غيرهما، القرآن ا لكريم والسنة النبوية، لابد أن يعلم مستخدمه أنَّ الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتغيير النفس هو أخطر وأهم تغيير، وهما يدعوانه دائماً إلى الأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأمَّة، وما دامت مصلحة الأمَّة تحكمها في كثير من الأحيان مُتغيرات العصر وتحولاته، كان على المستخدم للمنهج أن يراعي ذلك.

لقد أشار الأهواني إلى قول إبراهيم النخعي: (من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد) [رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه على شرط الشيخين، ولم يخرجاه]. وثنَّى على ذلك الرأي مُستنبطاً أنَّ فيه دليلاً على أنَّه لا بأس أن يلعط (المتعلم) الكتابة بلسانه!

وهنا ينتهز الأهواني الفرصة ليدلِّل على صحة حكمه بأنَّ المنهج الفقهي يؤدي إلى الجمود ! لكن الحقيقة تقول أنَّ اتباع المنهج الفقهي إذا كان قد أدَّى بالقابسي في زمنه إلى هذا الرأي، فقد كان هذا أمراً لا غبار عليه لأنَّ المعطيات العلميَّة لم تكن قد كشفت ضررَ ذلك، أما في عصرنا الحاضر، ومقاصد الشريعة، وتحكيم العُرف والمصلحة تجبرنا على قبول ما كشفت عنه المعارف الطبية بعدم فعل ذلك، خاصَّة وقد كشف التقدم التقني عن وسائل أخرى مُتقدمة سواء للكتابة أو لمحوها ! ونكرِّر مرَّة أخرى أنَّ الذنب قد لا يكون ذنب الكاتب بقدر ما يكون الأمر راجعاً إلى المستوى المتواضع الذي كان في ذلك الوقت للمعرفة التربويَّة.

وفضلاً عن ذلك، فإذا كان المنهج النقلي لم يؤدِّ بالبعض إلى إنتاج فكري يتميز بالجدة والحيوية والعقلانية، فإنه أدَّى بكثير إلى غير ذلك، ويكفي الإشارة إلى الأئمَّة أنفسِهم، وعدد من كبار تلاميذهم ممن يضيق المقام عن الإشارة إليهم. إنَّ الجمود والتخلف عندما يتسرَّبان إلى عروق الفكر، فغالباً ما يكون ذلك إشارة إلى أنَّ السياق الحضاري العام القائم قد رضي بذلك، وربما أدَّت معطياته إليه.

ولا شك أنَّ المستقرئ لجملة الإنتاج التربوي الذي أنجزه فقهاء مالكيون يجد أنَّ الكثير منه قد ساد الفكر التربوي الإسلامي على وجه العموم، واعتبر من علاماته وصفحاته المشرقة التي تحتلُّ دائماً الصفحات الأولى عند التأريخ له في معظم عهود الحضارة الإسلاميَّة، ولم ينافس المدرسة المالكية في هذا إلا بعض علماء الشافعية.

لكننا على أية حال لا نلمس تبايناً ملحوظاً بين ما ذهب إليه فقهاء المالكية في الكثرة الغالبة من المسائل التربويَّة وبين فقهاء المذاهب السنية الأخرى، حتى أننا لنجد ما قد يوجد من اختلافات، فإنما هي -في الغالب والأعم- مما يرجع إلى مُتغيرات الزمان والمكان وشخصيات الكُتّاب واجتهاداتهم الخاصة، ولا ترجع إلى اختلافات (أصوليَّة)، مثلما نرى في المسائل الفقهيَّة البحتة.

ولعل جزءاً من هذا يَرجع إلى طبيعة العمليَّة التربويَّة نفسها التي لا يَدخل كثيرٌ من جوانبها في باب الحلال والحرام مما يَقتضي مناظرات فقهيَّة ومجادلات، فطريقة تعليم يتبعها معلم من المعلمين -مثلاً- قد تختلف عن تلك التي يَتبعها آخر، ولا يَستتبع هذا أن نخطّئ أيّاً منهما بالضرورة إذا رأينا الآخر على صواب، فكلا الأمرين جائز؛ لأنَّ المسألة يحكمها كثير من المتغيرات، كطبيعة المعلم نفسه ونوعيَّة المقرَّر الذي يشرحه، وطبيعة التلاميذ وأعمارهم، والثقافة السائدة، والمكان الذي يعيشون فيه.. وهكذا، مما يجعلنا نؤكد كثيراً أنَّ ما يصلح في مكان قد لا يصلح في مكان آخر.

وعلى أية حال، فإنَّ ساحة البحث التربوي إذا كانت قد شهدت عدداً غير قليل من البحوث والدراسات التي اختصَّت بدراسة الجهد التربوي في هذا المذهب أو ذاك، أو عند هذا المفكر أو ذاك من علماء وفقهاء مذهب ما، أو عند جملة المدرسة الفقهيَّة، فإننا نطمع أن يتوفَّر باحث -أو أكثر- للقيام بدراسة مقارنة بين المذاهب الأربعة بصدد قضايا تربوية يتم تحديدها، فإن هذا يمكن بالفعل أن يضيف جديداً إلى بنية البحث التربوي الإسلامي.

لقد سبق لنا أن عقدنا فصلاً بالفعل عن الإسهامات التربويَّة لبعض علماء الفقه في كتابنا (اتجاهات الفكر التربوي الإسلامي / 1991م)، لكننا اكتفينا فيه ببيان الموقف الفقهي من عدد من القضايا التربويَّة دون عناية بالمقارنة؛ مما يجعلنا نلحُّ على النهوض بمثل هذا العمل العلمي المنشود.

إنها طبيعة البحث العلمي، كلما اقتحم الإنسان مَوقعاً، وظنَّ أنَّه بهذا قد أشبع نهمه، ويأمل أن يشبع نهم القرَّاء، تبين له أنَّ باباً آخر قد ظهر أمامه يحتاج إلى جهد آخر لاقتحامه بحثاً عن جديد، وصدق من قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.

------------------

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423 هـ )

الحلقة السابعة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين