إستانبول عاصمة المخطوطات في العالم

لو كان العالم كلُّه دولة واحدة لكانت إستانبول عاصمتها، كذا قال نابليون بونابرت. ولو كانت المخطوطات مملكة لكانت إستانبول -بالتأكيد- هي العاصمة.

مدينة تطوي بين جوانحها روحًا عبقريًّا متفرِّدًا بين المدن، كما التراث الإسلامي الذي يطوي بين جوانحه روحًا عبقريًّا متفرِّدًا بين تراثات العالم، والأرواح -كما قال الرسول الكريم صلى لله عليه وآله وسلم - جنود، إذا ما التقت كان الائتلاف الذي يعتصر الجغرافيا ويعتصر التاريخ ويبني رؤية جديدة مغايرة وإنسانًا جديدًا قادرًا على الحضور، بل على الشهود الحضاري الذي هو أعلى وأغلى ما تسعى إليه الأمة اليوم.

إستانبول مدينة حاضرة، بل شاهدة، والحضور والشهود فوق أي نعت آخر سواء للأمكنة، أو للجماعات الإنسانية، فعندما تكون المدينة المكان شاهدة، فإنَّ أثرها وتأثيرها ينداحان في مسارب المكان، وفي تلافيف الزمان؛ لذلك فهي تعلو بشهودها على السياسة.

ليست إستانبول اليوم عاصمة. العواصم مدن سياسية، والسياسة تغدو وتروح، تصحو وتنام، إستانبول كانت وستبقى حاضرة تاريخية، والتاريخ لا يموت. الحواضر التاريخية الحضارية كما الشمس لا تغيب، وإن غربت فإنما هي مشرقة على أرض أخرى، وإن لم نر إشراقها. أو أنَّها تستعد لشروق جديد.

إستانبول من تلك الحواضر التي لا تعنيها السياسة ولا تأبه بها، ولذلك فإنَّها عندما غادرتها إلى مدينة أخرى (أنقرة) ظلت مصدر نور وإشعاع وعطاء.

رحم الله ياقوتًا الحموي الذي قال عن إستانبول في (معجم البلدان): "والحكايات عن عظمها وحسنها كثيرة"، وذكر أنَّ لها نحو مئة باب، ونقل عن بطليموس اليوناني أنَّها مدينة الحكمة، وأنَّها مدينة ليست كسائر المدن.

كيف يجتمع في مدينة واحدة شمل الحكمة والعِظَم والحُسن، حتى تكون منفردة، بل متفرِّدة، وكأنَّها خارج المقايسة والمنافسة، فهي هي وحدها! أبوابها (القديمة) ربَّما اختفى كثير منها اليوم، لكن ما اختفى هو الرسوم، رسوم هذه الأبواب وهيئاتها. أمَّا الأبواب بوصفها رموزًا فما زالت لم ينقص منها شيء. الأبواب المئة مشرعة، وسيزداد -إن شاء الله- عددها، وتتضاعف مع الأيام المقبلة.

إستانبول مذ كانت أي قبل (27) قرنًا وهي شاخصة واقفة، سواء كان اسمها (روما) واقترن الاسم بالشرقية أو الجديدة، أو كان اسمها القسطنطينية، أو إسلامبول، أو كان دار السعادة، والدار العالية، والباب العالي، ومقام العرش، والآستانة. تتغير الأسماء وتختلف العناوين، ويبقى المكان حيًّا.

تختلف إستانبول (إسلامبول) عن غيرها من المدن بأنَّها مدينة بعيدة قريبة في آن معًا. هكذا قال التاريخ، وهكذا يقول الحاضر، بعيدة صعبة المراس، أسوارها عالية، وحجارتها صلبة، وطبيعتها جامحة: جبل ووادٍ، بحر ونهر، حر وبرد، صفو وغيم، لذلك فهي متأبِّية على الغزاة، لكنها في الآونة نفسها قريبة، ما إن تعرف الحق حتى تُسرع للإيمان به، وتفتح له قلوبها وأبوابها. عندما أطلَّ الفاتح بإيمانه وصِدْقِه وعزمه عاندته وخاتلته ثلاثة وخمسين يومًا، وكأنَّها تريد أن تختبر القيم التي يحملها، فلمَّا تيقَّنت استبشرت ورحَّبت. وأدرك الشاب أنَّها ليست كبقية المدن، وأنَّ فيها أثارة من الدين العظيم، الذي يؤمن به ويعتنقه، لذلك ما إن انفتحت الأبواب ودخل، حتى دعا المسيحيين واليهود الذين كانوا فيها للعودة إليها.

إستانبول مدينة أكبر من أن تتسع لها قارة، لذلك توزعت على قارتين.

هالة القداسة لا تفارق هذا المكان، هي (روما) أو (بيزنطة) مدينة بالغة الأهميَّة للمسيحيين، وهي إسلامبول والآستانة مركز ثقل المسلمين وخلافتهم.

إستانبول مدينة التاريخ والحضارة والقداسة، هذه الثلاثية تعني أنَّها (منجم تراث) يختزن المخطوطات وفي الوقت نفسه ينتج المخطوطات. والمخطوطات هي الوعاء الحامل للفكر والمعرفة والعلم.

إستانبول اليوم هي عاصمة المخطوطات في تركيا (ثلث الرصيد التركي فيها) وهي عاصمة المخطوطات في العالم؛ نحو خُمس المخطوطات العربية فيها وفي بعض المدن التركية. تاريخية المكان وقداسته تضيق بالحدود، فتشرِّق وتغرِّب في الجغرافيا القريبة، وتجتذب المخطوطات من كلِّ مكان في العالم.

مجموعات خطيَّة كثيرة في إستانبول، وهي ليست ابنة اليوم ولا الأمس، إنَّها ثمرة من ثمار تفاعل تاريخية المكان وجغرافيته، وإنسانه كذلك، الذي أخذ من طبيعته المتأبِّية على الوحدة، والقائمة على التنوع، وأخذ من أسواره شخوصها، ومن حجارته صلابتها، ومن جوِّه ثراءه وخصوبته.

وإذا ما اكتفينا بنظر قريب لا يجاوز ستة قرون إلى الوراء، فإنَّنا سنرى الفاتح الشاب الذي حقَّق نبوءة نبي الإسلام في القرن التاسع للهجرة يؤسس مكتبة نفيسة وضخمة هي الآن في سراي طوب قبو، استحالت سريعًا إلى نواة بنى عليها سليم الأول، وقد غدت بعدُ موئلًا لعدد من المجموعات الثمينة التي تُهدى إلى السلاطين.

في القرن نفسه ولدت مجموعات مهمَّة في آيا صوفيا ومدرسة أيوب، ومدرسة محمود باشا، ومدارس الفاتح.

وعندما نتحدث عن إنسان هذه المدينة، فإنَّنا لن ننسى الإشارة إلى المرأة شقيقة الرجل، أسماء خان مثلًا التي تركت لنا مجموعة خطيَّة مضى عليها اليوم نحو خمسة قرون شاهدة على عقل تلك المرأة، وعِظَم انشغالاتها.

ويشهد القرن الحادي عشر ولادة مكتبة نعرفها جميعًا، مكتبة الصدر الأعظم كوبريلي فاضل أحمد باشا، ليراكم عليها من بعد أبناء الأسرة.

وتتوالى في القرن التالي المكتبات: فيض الله، والسلطان أحمد (هي الآن في قصر طوب قبو سراي)، ومكتبة الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا، وحكيم أوغلي...وأسماء المجموعات والمكتبات كثيرة يعرفها المتخصِّصون، كثير منها في السليمانية العامرة.

وقد رصدت الذخائرَ الإسطنبولية والتركية تاريخًا وحاضرًا العديدُ من الدراسات والفهارس التي قام عليها أمثال محمود الطناحي، ورمضان ششن، وإسماعيل أَرْأونصال، وأحمد آتش، ومحمود السيد الدغيم.

كما كتب د. محمود مصري بحثًا جامعًا عن المخطوطات العربية في تركيا، نُشر ضمن كتاب المخطوطات العربية المهجرة الذي صدر في الرياض.

حديث إستانبول حديث يطول، فالمدينة التي لا تتسع لها قارة، قد لا تعبِّر عنها الكلمات، فكما ضاقت الجغرافيا، تضيق الحروف.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين