أيّها المجاهدون: لا تلقوا بأنفسكم في النار

 


-1-


في سورة هود حكم عجيب في التلاوة، وهو فريد في القرآن الكريم. في قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو ينادي ابنَه: {يا بُنَيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} جاءت باء ساكنة وبعدها ميم متحركة، وهما حرفان شفويان، أي أن مخرجهما من الشفتين (ويُنطقان بإطباقهما)، وحكمهما في التلاوة إدغام المتجانسَين كما يقول علماء التجويد، فتُقلَب باء الكلمة الأولى ميماً -فتصبح "ارْكَمْ"- ثم تُدغَم في الميم الثانية، فنقرأ الكلمتين (ارْكَمَّعَنا)، مع غُنّة في الميم المشددة طولها حركتان.

هذا الإدغام الفريد لم يرد في القرآن كله إلا في هذا الموضع عند أكثر القراء، وزاد قالون والدوري فأدغما الباء والميم في قوله تعالى {ويعذبْ مَن يشاء}، وهي عندهما بسكون الباء، وقرأها عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتحريك.


-2-


عندما أقرأ هذه الآية أتخيل صورةَ أب محزون مكلوم، يبصر ابنه الذي هو أحب الناس إليه وهو يُصِرّ على المُضيّ في طريق الكفر والتكذيب، ولا يرعَوي حتى عندما يرى آية الله ويحصره الماء، بل يردّ باستكبار وغرور عجيبَين: {سآوي إلى جبل يَعصمني من الماء}.

ويدرك الأبُ الملتاع أنها لحظة الفراق. وما أصعبَ لحظة فراق الابن على الأب المحب، ولكنه يتعزّى عن ألم الفراق في الدنيا بترقب اللقاء القريب، وكلُّ لقاء ولو طال فهو في الدنيا قريبٌ، لأن الدنيا كلها جزء صغير وطريق قصير من الرحلة الطويلة للنفس الخالدة. حتى أصعبُ لحظات العمر التي يمكن أن يمرّ بها أب أو تمرّ بها أم: عندما يوضع الولد الحبيب في الحفرة ويُهال عليه التراب، حتى هذه اللحظةُ العصيبة يهوّن من صعوبتها وقسوتها على المؤمن رجاءُ اللقاء في جنان الخلد برحمة الرحمن الرحيم.

ولكنْ أيُّ عزاء لأب مؤمن، نبي من أنبياء الله، يفارق ولدَه فراقَ الأبد، فراقاً لا لقاء بعده لا في دنيا ولا في آخرة؟ ما أصعبَ هذا الموقف، ومن صعوبته تعبّر عنه التلاوة بهذه الطريقة العجيبة: "يا بُنَيّ ارْكَمَّعَنا ولا تكن مع الكافرين". فنتصور نوحاً عليه السلام وهو يطيل الوقوف عند الميم المشددة في ختام فعل الأمر بالركوب (اركب)، فكأنه رجاء اليائس، وكأنما هو لا يريد أن يغادر هذه الكلمةَ إلا وابنُه معه في السفينة. ولكنّ الكِبْر والعناد تفوّقا على الرباط الوثيق الذي يربط البنوّة بالأبوّة... وحال بينهما الموجُ فكان من المُغرَقين.


-3-


تذكرت هذه الآية وأنا أنظر إلى وجه فتى أحسبُ أنه نشأ في طاعة الله، ولعل أبوَيه فرحا به واستبشرا بصلاحه، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال وآنَ أن تنتفع به الأمّةُ انقلب قاتلاً يفتك بخيار مجاهديها، فصار ملعوناً مغضوباً من شرار أهل النار: {ومن يقتلْ مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها، وغضبَ الله عليه ولعنَه وأعدّ له عذاباً عظيماً}.

لم أتخيل القاتلَ المجنون ولا المجاهدين المصلّين الذي اغتالهم غدراً وهم في السجود، بل تخيلت أمّه وأباه، اللذين فارقا الابنَ الذي يحبان فراقاً لا لقاء بعده. فإنّ مَن ربى الولدَ على الإيمان لا بد أن يكون من أهله، فإذا صدقا الله رزقهما الجنة، ففصل بينهما وبين ولدهما سورٌ له باب، باطنه -مِن قِبَلهما- فيه الرحمة وظاهرُه -مِن قِبَل الولد- فيه العذاب الأليم. أيُّ ألمٍ أعظمُ من ألم أبوين يتصوران ابنَهما هناك، فقداه في الدنيا وفقداه في الآخرة؟ إنه الفَقد الأليم والفراق الكامل إلى أبد الآبدين!

ما أسهلَ أن يولد الفتى في الكفر وينشأ في الكفر ويموت عليه إذا كان البديل هو أن ينشأ مسلماً ثم يتحول إلى قاتل يفتك بالمسلمين، فإنّ الأول في فسحة ورحمة من ربه، لعله كأهل الفترة الذين لم يبلغهم الدين أو وصلهم ناقصاً مشوهاً بسبب بعد المسافة وضعف الدعاة والمبلّغين، أما المسلم الذي عرف الإسلام ثم ارتكب تلك الجريمة البشعة فليست له فسحة وليس له في رحمة الله أمل.

أخرج البخاري عن ابن عمر عن الصادق المصدوق أنه قال: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً". وفي حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أبو داود وصححه الألباني: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلاّ مَن مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً". وفي حديث أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي وصححه الألباني أيضاً: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النار".


-4-


يا أيها الآباء ويا أيتها الأمهات: احجزوا أولادكم عن النار، لا تسمحوا لهم بأن يلقوا فيها أنفسَهم وأنتم تبصرون، اسحبوهم من جيوش الغلاة البغاة فإنها مسالكهم إلى النار.

ويا أيها المجاهدون الصادقون في الفصائل كلها ومن جميع الجماعات: إياكم والدمَ الحرام، لا تفسدوا آخرتكم استجابةً لعصبيات وأهواء، أهواء الانتماء والتعصّب للجماعات. أستحلفكم بالله: إياكم أن تجترؤوا على الدم الحرام. اعصُوا في طاعة الله الأمراءَ وتمردوا على الأوامر ولا تسمحوا بأن تكونوا حطباً يحترق في حرب المسلمين، واحفظوا هاتين القاعدتين فإن فيهما العصمةَ والنجاةَ بأمر الله:


(1) لا يحل دمُ المسلم الفرد إلا بقضاء، ولا يقضي في الدماء قضاءٌ تقيمه الجماعةُ الصغيرة لأنه سيكون تَبَعاً لها وذراعاً تنتقم به من أعدائها. إنما القضاء الحقيقي هو القضاء المستقل الذي يصدر عن الجماعة الكبيرة، جماعة المسلمين التي تمثلها في الثورة حالياً المجموعاتُ الصالحة من الفصائل الجهادية والقوى الثورية مجتمعة، فإذا رأيتم قضاء خاصاً بفصيل فهو جهاز أمني وليس قضاء شرعياً تتحقق فيه العدالة وتُصان الدماء.

(2) ولا يحل قتال جماعة مسلمة إلا قتالَ بغي امتثالاً لقوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي}. ولهذا القتال ضابطٌ مهم إذا فقدناه تحول قتالُ البغي إلى قتال دنيا ومصالح وتحولت الجماعة المسلمة إلى قطيع من وحوش الغاب. هذا الضابط هو أن يكون تحديدُ الطرف الباغي من مهمة الجماعة الكبيرة التي تمثل الأمة، ولا يُباح ذلك لأي جماعة صغيرة أو فصيل مقاتل، لأن كل فصيل سيرى نفسَه على الحق ويرى خصمه هو الباغي، فيختلط الحق بالباطل وتسيل الدماء الحرام باسم الله، والله بريء منها وسيحاسِب كل مجترئ عليها يوم الحساب.

وقد استبق -تبارك وتعالى- اجتهادَ المجتهدين وتأوّل المتأولين فأسند مهمة الإصلاح والتوفيق والقتال إلى الجماعة (الأمة) فقال بصيغة الخطاب: {وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، فدلّ على أن الطرفين ليسا داخلَين في "وفد الإصلاح" الذي يمثل الجماعة الكبيرة المحايدة، والذي دلّ عليه خطاب الجماعة {فأصلحوا}، وهي الجماعة التي تكلَّف بقتال البغاة {فقاتلوا التي تبغي} وليس أيٌّ من الجماعتين المتنازعتين هي من تصنع ذلك لأنها طرف في الخصومة الأصلية التي دعت إلى الإصلاح.
-5-
تذكروا ذلك أيها المجاهدون الصادقون المخلصون ولا تنسوه أبداً لكيلا تخسروا الآخرة. مَن دعته جماعته إلى قتال جماعة أخرى لأنها "باغية" فليعلم أنه قتال أهواء ومصالح، ما لم تصدر الدعوة لقتال البغاة عن الجماعة الكبيرة المحايدة التي تضم مجموعَ الفصائل وتنطق باسمها جميعاً.

إياكم أن تُساقوا إلى قتالٍ خارجَ هذا الضابط، ولو أمركم الأمراء فاعصُوا الأوامر فإنها من باب معصية العباد في طاعة الله، وإذا خُيِّرتم بين قتال المسلمين أو العقوبة بالقتل فليأبَ الواحدُ منكم أن يكون عبدَ الله القاتل وليختَرْ أن يكون عبدَ الله المقتول. اختاروا جنّة عرضُها السماوات والأرض ولا تلقوا بأنفسكم في النار.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين