أين الخير في الانتخابات التركية؟



إن القراءة الظاهرية لنتيجة الانتخابات التركية الأخيرة تبدو مقلقة، ولا سيما بالنسبة لأهل سوريا الذين كانت تركيا لهم في السنوات الماضية خيرَ صديق وخيرَ ظَهير، وكانت هي العمق الإستراتيجي للثورة والحاضنةَ الكبرى لمؤسساتها وناشطيها ولعدد هائل من اللاجئين.

ولكن الدنيا ليس فيها شَرٌّ محض وليس فيها خير محض، إنما يكون هذا في الآخرة، أما الدنيا فإن الخير فيها مَشوب بشيء من الشر والشرّ مَشوب بشيء من الخير لا محالة. وإن من علامة عقل العاقل أن يبحث في كل شر عن الخير ليَجْتَبِيَه، وفي كل خير عن الشرّ ليَجْتَنِبَه، وكثيراً ما يسوقنا الله إلى الخير أو يسوق الخيرَ لنا بما ظاهرُه شر، فإذا نفرنا منه وأعرضنا عنه لظاهره خسرنا الخيرَ الذي فيه: {
فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً}.



-1-



يقول آرنولد تويْنبي في نظريته الشهيرة، "التحدي والاستجابة"، إن الجماعة البشرية التي تواجه تحديات كبيرةً تستجيب لها بإحدى طريقتين: استجابة سلبية ينشأ عنها ضعف وضمور، أو استجابة إيجابية تنتج عنها حضارة عظيمة. أي أنّ ما يدمّر الجماعات ليس التحدي نفسه، بل طريقة التعامل معه والاستجابة له، على أن لا يبلغ درجةً من القوة تدمّر الجماعة، ولا درجةً من الضعف تقتل حاجتَها إلى الاستجابة.

هذه النظرية لا تنطبق على الحضارات الكبرى فحسب، بل إنها تنطبق أيضاً على الجماعات والمنظمات وعلى أفراد الناس، وهي تشبه نظرية كارل يونغ الرائدة في علم النفس السلوكي، حيث يقول إن الإنسان الذي يتعرض لصدمة يُصاب بالاضطراب والضياع لوقت قصير، ثم تتبلور استجابته للصدمة بإحدى طريقتين: استجابة سلبية، فيرتدّ إلى الماضي فراراً من الواقع المرير، أو استجابة إيجابية، فيعترف بالمصيبة ويتقبلها، وبدلاً من الاستسلام لنتائجها المُحبطة فإنه يتطلع إلى المستقبل، ويبدأ بالتخطيط الإيجابي للتغلب عليها والخروج منها بفوائد ومكتسبات.



-2-



إن القراءة الأولية لاستجابة حزب العدالة لنتائج الانتخابات تُثبت أنه حزب حيّ ديناميكي قادر على تجاوز الأزمة والانتقال من النجاح الجزئي الذي حققه في الانتخابات (وهو فشل جزئي أيضاً) إلى نجاح أكبر، فقد طالبَ قادةُ الحزب الكبار (آغابيلِرْ) بمراجعة شاملة ونقد ذاتي لأداء الحزب، وتمت الدعوة على عجل لعقد لقاءات تشاورية تضم قيادة الحزب ورؤساء فروعه في المحافظات ورؤساء البلديات وأعضاء الأمانة العامة، وسوف تسعى هذه اللقاءات إلى البحث في أسباب تراجع شعبية الحزب وتحديد مسؤولية الإخفاق الأخير واستشراف المستقبل والتخطيط الجيد للغد القريب والبعيد.

إن هذا التحرك السريع يعبّر عن امتصاص للصدمة ويمثل استجابة إيجابية للتحدي، حيث يُنتظَر أن يجدّد الحزبُ نفسَه ويطور أداءه وينوّع أداوته، وهذه الاستجابة الإيجابية تحملنا على التنبؤ منذ الآن بعودة قوية لحزب العدالة في الانتخابات القادمة بعد أربع سنين.

 


-3-



إذا كانت هذه هي استجابة حزب العدالة الذي يلعب على أرضه والذي ما يزال هو القوةَ الكبرى في البلاد، فكيف كانت استجابة ثورتنا التي تمثل تركيا عمقَها الإستراتيجي الضروري للبقاء؟ وماذا صنعت مؤسساتنا الثورية التي صارت تركيا موطناً لها فاستقرت وتجذرت فيها منذ عدة سنوات؟

لقد كانت الضريبة التي دفعها السوريون في مصر بعد الانقلاب قاسية. بالتأكيد لا يتوقع أحدٌ أن تتدهور حالة السوريين في تركيا بتلك الصورة التراجيدية، ولكن لا بد أن تحصل تغيّرات، ولا يمكن أن نتجاهل أن بعض الأحزاب حصلت على أصوات كثيرة بناء على برنامج انتخابي يتضمن وعداً بالحدّ من تمدد السوريين في البلاد، وأن أي حكومة ائتلافية قد تُضطر إلى ممارسة بعض الضغط على أفراد السوريين ومنظماتهم الثورية والسياسية والإغاثية، ولا بد أن ينعكس أيُّ تغير في السياسة الخارجية على العمل العسكري في الداخل السوري بطبيعة الحال.

هذه كلها صعوبات محتمَلة، ولكنها ليست كارثة تستحق الشكوى بقدر ما هي تحديات تحتاج إلى استجابة إيجابية خلاّقة. لقد أثبت أحرار سوريا منذ بداية هذه الثورة المباركة أنهم يتفاعلون بإيجابية مع التطورات والتحديات وينجحون بفضل الله، ولكنهم كثيراً ما يترددون فيتأخرون، فعسى أن لا يصنعوا ذلك الآن، وعسى أن يكون أهل الرأي والقرار في المنظمات الثورية والفصائل العسكرية أسرعَ في التفكير والتدبير مني بكتابة هذه الكلمات.



-4-



وثمة وجه آخر من أوجه الخير لا ينبغي أن يغيب عن البال: إن للعمل السياسي نتائجَ خطيرةً على الأفراد والمؤسسات، فإن السلطان يُطغي، هذه واحدة من قواعد الحياة الكبرى ومن سنن الخلق المطّردة، وقد عبّر عنها القرآن بجملة فريدة بديعة يمكن أن تُشرَح في مجلدات: {إنّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى}. أي أن الإنسان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الناس، بجاهه أو بماله أو بقوته وسلطانه، فإنه يميل فطرياً إلى الطغيان، وإذا طغى السلطانُ أفسد آخرتَه وأفسد دنيا الناس.

لذلك كان من أفضل المنتجات السياسية التي طوّرها البشر عبر الأجيال مبدأ "تداول السلطة"، وهو مبدأ سياسي ينبغي على الأمم الحية أن تعضّ عليه بالنواجذ وأن تقدّم في سبيل تكريسه والمحافظة عليه أعظمَ التضحيات، ولو أردنا أن نكون في سوريا أمة حية فلنحرص على أن يكون هذا المبدأ من المبادئ العليا التي تحكم نظامنا السياسي في المستقبل.

لقد انقضى وقت طويل وحزبُ العدالة هو الحزب الوحيد الذي يمارس السلطة في تركيا بتفرد كامل، ولا ندري، فلعلّه صار بحاجة إلى "دورة تدريبية تطبيقية" في العمل المشترك، فإن هذا هو الطريق إلى ترويض السلطة ومنعها من الجموح ومنحها التكاملَ والتنوعَ والثراء، وفي هذا التدريب خيرٌ له وللبلاد والعباد.



-5-



ووجه ثالث: إن العمل السياسي هو في حقيقته رعاية لمصالح الناس، فهو عبء وغرم ثقيل على صاحبه. ولا ريب أن المحسن ينال مكافأته شكراً واستحساناً من الناس وثواباً من ربّ الناس إذا صلحت النيّات، ولكن الناس يألفون الجديد مع الوقت، فمن سنن الحياة أن الأُلفة تُذهب الدهشةَ كما يقولون، ومن ثَمّ فقد صارت منجزات حزب العدالة في أعين عامة الناس من المسلَّمات التي لا تستحق الشكر والتقدير. فلماذا لا يشارك الحزب غيرَه ويلقي عليه جزءاً من المسؤولية، وليترك للناس الحكم على أداء هذا الفريق وذاك؟

ربما كان هذا هو الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الإخوان المسلمون في مصر، يوم تصدّروا لإدارة البلاد فُرادى فاحتملوا وحدَهم إرث عشرات السنين من التخريب والفساد، ولو حمل العبءَ ائتلافٌ من قوى سياسية متنوعة لضاع الدم بين القبائل واشترك الكل في حمل الإرث الثقيل.

لو كنت مسؤولاً في حزب سياسي أو فصيل عسكري في سوريا لما فكّرتُ طرفةَ عين في السعي إلى حكم البلاد منفرداً، حتى لو امتلكت قوة عسكرية عظيمة وأغلبية برلمانية ساحقة، لأنني أعرف أنه اختبارٌ مُعْجز وأن النجاح فيه مُحال، فإن إعادة بناء سوريا وإدارتها تحتاج إلى موارد دول عظمى وإلى سنوات طويلة من الصبر والكفاح والعمل الجماعي الذي يستهلك طاقات الشعب كله. فواعجبي ممّن يعيش في الأحلام فيحسب أن سوريا خَلُصت له من دون الناس، فما يزال يجادل في شكل الدولة وشكل الحكم وكأنه سيكون فيها صاحبَ الملك والحكم والسلطان!



-6-



ووجه رابع: إن الحروب والنزاعات الداخلية تُنهك الأمم وقد تتسبب في تفكّك الدول إذا بقيت بلا علاج، وقد عانت تركيا طويلاً من مشكلة الأكراد، ولا ريب أن حل هذه المشكلة مكسب إستراتيجي سيعود بالنفع على الأجيال التركية القادمة ولن يقتصر أثره الإيجابي على الجيل الحاضر فحسب.

وإن من أفضل وسائل حل المشكلة الانفتاحَ الثقافيَّ والاحتواء الاجتماعي والتطبيع السياسي، ولعل أفضل طريقة لتحقيق ذلك كله هي وجود حزب كردي مستقل يمثل الأكرادَ في البرلمان. إن أول سؤال سوف يخطر في أذهان عامة أكراد تركيا الآن هو: لقد قاتلْنا في الماضي من أجل حقوقنا، وها نحن اليوم نحصل عليها بالطريق السلمي من خلال العمل السياسي الرسمي، فلماذا نستمر بالقتال؟ أيْ أنّ مشاركة الأكراد في الحكم ستضع النهاية الحتمية لصراع مسلح استمر لأكثر من ثلاثة عقود.

إن المجتمعات المتعددة الثقافات والمذاهب والأعراق تعيش على سطح بركان ساكن معرَّض للانفجار في أي يوم، وهي لا تصل إلى الأمان والاستقرار إلا عندما يحصل الجميع على حقوقهم الكاملة. لقد كان هذا هو الدرس الذي تعلمته أممٌ كثيرة بعد حروب طاحنة مدمرة، وهو ما وصل إليه الأترك بعد نزاع مسلح منهِك طويل لم يستفد منه غير أعداء تركيا، وهو أيضاً ما يحتاج أهل سوريا إلى إدراكه قبل فوات الأوان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين