أمّ بلال إلى الرفيق الأعلى


غادرت الداعية أم بلال زوجة الداعية الدكتور فتحي يكن أكرم الله مثواهما في جنان الخلد بإذن الله.
 
غادرت أم بلال بعد عقود من الفداء والتضحية والنضال. وأنا الآن لا أستطيع أن أعدّد مآثر رفيقة درب مؤسس الجماعة الإسلامية في لبنان، لكن يكفيها شرفاً ونبلاً أنها كانت نعم النصير لأمير الجماعة الإسلامية في جميع مراحل العسر واليسر. لقد وقفت الى جانبه في البأساء والضراء وفي زمن الراحة والهناء.
 
كانت أم بلال رمزاً للطموح والرفعة والجهاد من أجل نهضة الأمة كي تأخذ موقعها وتمارس دورها المطلوب. كانت أم بلال تدرك تبعات الزوجة الصالحة، فكانت تتعب في الليل والنهار وتهيّئ البيئة العائلية الراقية لرجل نذر حياته من أجل بناء نهضة إسلامية تحمل راية الحق والعدالة والحرية.لقد صدق من قال إن وراء كل عظيم امرأة، فعظمة الراحل الكبير فتحي يكن مدينة في كثير من جوانبها لعظمة مربية الأجيال ومنشئة الأبطال فقيدة الدعوة الإسلامية على امتداد العالم، أم بلال.
 
عندما يرى الإنسان غزارة مؤلفات الداعية فتحي يكن التي تواكب تطورات الحركة الإسلامية في لبنان والعالم، عندما يرى الانجازات الكبيرة التي قدمها للحركة الإسلامية على الصعيد الفكري والثقافي.. عليه أن يدرك أهمية دور أم بلال التي كفته مؤونة مسؤولية أسرته الصغيرة، بل وساندته في بعض حاجيات أسرته الكبيرة في لبنان وهي كثيرة وكثيرة.
 
إن الانجازات العلمية التي حققتها أم بلال عجزت عنها همم كثير من العاملين والطامحين. لقد بدأت أم بلال عملها التربوي بروضة أطفال صغيرة، ثم صارت مدرسة ابتدائية، فمتوسطة، ثم ثانوية كبيرة.
 
ولم تقف همتها هنا، بل استطاعت أن تقيم صرحاً للعلم سامقاً ينافس معظم الجامعات في لبنان والعالم العربي. وها هي جامعة الجنان تشمخ في رابية أبي سمراء لتصبح منارة لطلاب العلم على امتداد العالم العربي والإسلامي. إنها «أم بلال» التي قلّ نظيرها بين النساء وبين الرجال. لقد استطاعت أن تقدم نموذجاً رائعاً للحركة الإسلامية على امتداد العالم في ميدان العلم والمعرفة والحضارة. فهل ستكون طرابلس - ومعها أبناء الدعوة الإسلامية - على مستوى الوفاء لأبي بلال وأم بلال؟
 
اليوم أم بلال ذهبت إلى ربها راضية مرضيّة، لكنها ستبقى ملهمة للأجيال على درب الدعوة والعلم والهداية. سلام على أم بلال وأبي بلال في الأولين والآخرين.. وسلام عليهما إلى يوم الدين..
 
د. منـى حــدّاد يـــكــن
 مواليد: طرابلس/ لبنان 6/5/1943.
 زوجها: النائب السابق والداعية الكبير الدكتور فتحي يكن في 14 تشرين الثاني 1960، توفي «رحمه الله» يوم 14 حزيران 2009.
 لها أربع بنات وولد واحد، وخمسة وعشرون حفيداً وحفيدة.
 
شهاداتها العلمية
 - تلقت تعليمها الأولي في طرابلس.
 - حائزة على ليسانس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية 1970.
 - حائزة على دبلوم الدراسات المعمقة في الدراسات الإسلامية الحديثة 1987 من السوربون فرنسا.
 - حائزة على دكتوراه في تاريخ الفلسفة الإسلامية 1992 من السوربون فرنسا
 - تولّت رئاسة جامعة الجنان منذ تأسيسها.
 
 المراكز التي شغلتها
 - تولت التدريس في المدارس الرسمية مدة أربع سنوات.
- أسست مدارس جنة الأطفال ثم ثانوية الجنان في طرابلس والأقضية التي حولها عام 1964.
- أسست جمعية الرابطة النسائية الإسلامية المعروفة بنشاطاتها الإسلامية والاجتماعية عام 1972.
- أسست مبرّة الرابطة النسائية الإسلامية لرعاية الأيتام والمعوّقين وأصحاب الحاجات عام 1981.
- أسست جمعية الجنان الخيرية المالكة لجامعة الجنان.
- أسست جامعة الجنان سنة 1988 وتولت رئاستها.
- أسست مدرسة الجنان المجانية في المنية الضنية عام 2011 .
 
أمّ بلال: أمّنا الكبيرة التي رحلت النائب السابق أسعد هرموش
في رحيل الدكتورة منى حداد يكن، تفتقد الحركة الإسلامية قامة كبيرة، طالما كانت حجر الرحى في العمل النسائي الإسلامي.
 صفحة كبيرة طويت من كتاب طرابلس، عرفتها المؤسسات التربوية والاجتماعية والخيرية والنسائية.
 مؤتمنة هي، على تاريخ حافل بالمواقف والأحداث والظروف، منذ بداية عمل الجماعة الإسلامية، التي واكبتها عن كثب، مع رفيق عمرها الأخ المؤسس الدكتور فتحي يكن رحمهما الله.
 معه دائماً، في حلّه وترحاله.. تدرس وتناقش وتشارك، أخذت عنه الكثير وعرفت عنه وعن جماعته واخوانه الكثير الكثير.
 كانت في خضم الحدث، صنعته، ولم تتفرج عليه، طبعته، وغيّرته أو حاولت، ولم تضعف.. امرأة مؤمنة، حدّادية، من الطراز الأول. لأخوات العصر الحديث، اللواتي افترقن عنها، نقول: كفانا فخراً، انها الأخت المحجبة الأولى، في الساحة الإسلامية يوم كان الإسلام غريباً.
 هبّت مع الكوكبة الأولى، دعوة وتنظيماً وتربية ومدارس ومؤسسات.. تدعو، وتبني، وتعلم، وتربي، يوم كان العمل صعباً ومكلفاً.
 ستبكيك أيتها الأم الكبيرة، رفيقات الدرب: الحاجة هلا، الأخت عائشة، أم عمر، أم جهاد، أم براء، وغيرهن الكثيرات.
 سيفتقدك الاخوان، الذين كانوا يلجأون إليك أماً في اختيار شريكة حياتهم أو الإسهام في حل مشاكلهم الاجتماعية والعائلية.
 سيفتقدون الحضن الدافئ، والقلب الرحوم، والأم الرؤوم، لم تكوني أماً لسالم وأخواته فقط، كنت أماً لكل الأسماء.
 عرفتك يوم اختطفت المخابرات الداعية فتحي يكن.. وتركت ابنه وحيداً في الشارع. عرفتك مجاهدة ومناضلة لا تلين، لم تخافي يوم خاف بعض الرجال، لم تضعفي يوم خارت بعض القوى، نزلت إلى الشارع تقودين المظاهرات، تتحدّين جبروت القوة والسلاح، ترفعين الصوت، تطالبين بالحرية للأحرار.
 كنت مكلفاً بمواكبتك، وطالما كنت لا تأبهين لتدابير الحماية والمواكبة والأمن، فكنت تمنحيننا المزيد من الشجاعة والثبات.
 عرفتك، في حملة الانتخابات النيابية عام 1992 شعلة في العمل العام، والتواصل الاجتماعي، وقدرة فائقة على التحاور مع الناس، وشبك العلاقات معهم، فكنت بحق أحد أهم روافع الفوز والنجاح.
 اختلفنا معك أحياناً في تقدير الموقف، يوم أوغر العسس صدور بعضنا، ويوم سعى الحساد لزرع الفرقة والضغينة، وشجعوا البعض على البعض الآخر، وجمّلوا لهم الخروج على الوحدة، والانفكاك عن الجماعة.
 لكن في كل الأحوال، لم ينل ذلك من حبنا وتقديرنا واحترامنا.
 كأننا نقول، كما قيل لأهل بدر، افعلوا ما شئتم..
 زيتونة طرابلسية عتيقة، يكاد زيتها يضيء.. تفتقدها المدينة اليوم، ترحل مع الصباح، ونفتقد معها بعض العبق الفواح، ينقص عطر زهر الليمون في مدينتي، قارورة كبرى تلتحق بالرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء، أمنا الكبيرة، سلّمي على أبينا .
 
الداعية أم بلال.. يفتقدها أهل العلم والدعوة  بقلم: الشيخ د. محمد خير فرج
 اختلطت المشاعر في أعماق النفس، وتداخلت الأحاسيس في مكنونات القلب، وتزاحمت الأفكار في مدارك العقل، وارتجفت الأنامل أمام قلم الموت الذي سيؤرخ لألم الفِراق في رحاب الكلمة الرقيقة والحروف الدافئة من بيت الداعية والمفكر الإسلامي الدكتور فتحي يكن رحمه الله تعالى. إنها زوجه الوفية ورفيقة دربه المعطاءة وحافظة أ سراره، الدكتورة منى حداد رحمها الله تعالى. فمع مشهد الدموع السخية أقف في مقام رحلتها عند المعاني الآتية:
 
1- أم الأولاد وطلبة العلم: بكت أفئدة فلذات الأكباد قبل عيونهم، لما رأوا جسد أمهم مسجَّى على فراش الموت، وضاقت صدورهم لانحسار حنان الوالدة بغياب جسدها، وانتاب الأبناء والأحفاد شعور بالضياع لأنهم فقدوا محضنهم الحاني، صغاراً كانوا أو كباراً، رجالاً أو نساءً.. وقد بدا للجميع مشهداً جمالياً من الدموع الغزيرة والمتنوعة بتنوّع الوطن في محافظاته من مختلف الأروقة العلمية على المستوى الأكاديمي والدعوي. إنه النسب العلمي الذي شرف بالانتساب إليها آلاف الطلاب والطالبات، فكانت نعم الأم في بيتها ونعم الأم في جامعة الجنان وجادة الطريق الفكري والثقافي.
 
2- جامعة الجنان والشمال: المتأمل في تاريخ لبنان العلمي لا يسعه إلا استنطاق ماضينا المشرق برجالات الإصلاح وأعلام الفقه والفكر منذ إمام التسامح عبد الرحمن الأوزاعي (157 هـ) في بعلبك، مروراً في خربة روحا في قضاء راشيا البقاع الغربي العامرة بشيخ الإمام السيوطي (911 هـ) الشيخ المفسر برهان الدين البقاعي (885 هـ)، وسماحة الوالد المفتي الميس، بمؤسسات الأزهر، وصولاً إلى القلمون في الشمال حيث العالم الثائر على التقليد والمقلدين الإصلاحي محمد رشيد رضا (1354 هـ)، والفقيه الوسطي الشيخ المستشار فيصل مولوي، والداعية المفكر د. فتحي يكن، والشيخ المؤسساتي محمد رشيد ميقاتي، وضمن هذا المشهد العلمي والفكري والدعوي تربَّت الدكتورة أم بلال على مائدة زوجها وتراث أمَّتِها التي حوَت معالي الأمور الفكرية على مستوى الوطن والأمة، فكانت كبيرة في عقلها كزوجها، فقابلت أفكاره وآراءه ومؤلفاته بجامعة علَّها تكون قلباً واعياً وبستاناً مزهراً فسمّتها الجنان. وحتى لا يظن أحد أن العاطفة تجاه أسرتها كانت المحرك والدافع لوضعها بين أعلام كبار، بل للدلالة على أن المرأة صنو الرجل وشقيقته في الإبداع والبناء والتميّز، فأن تتمكن امرأة من تأسيس جامعة، وأن تستطيع أن تترك أثراً في مجتمعها ببصمة خاصة بها، مقابل الرجال الكبار والحركات والمرجعيات.. يجعلها بكل موضوعية ترقى سُلَّم القيادة الفكرية والعلمية، وحق للشمال الفخار باسم امرأة رفعت من شأنه في عالم المؤسسات.
 
3- سرعة البداهة والحزم في القيادة: الجرأة عنوان شخصيتها، والإقدام سرّ نجاحها، ولذا لم يستطع كبار المسؤولين إضعافها ولا إحراجها، كما لم يقدر أقرب الناس إليها ثنيها عن خياراتها وآرائها، وهنا أقف عند موقفين بارزين شكلاً جدلية إسلامية:
 
الأول - رئيس الجمهورية والجامعة: ذهبت الدكتورة منى لتهنئة رئيس الجمهورية إلياس الهراوي على رأس وفد يمثل جامعة الجنان بغية التواصل معه رجاء حصولها على ترخيص لجامعتها. ولما اقتربت رحمها الله تعالى من المكان المخصص لفخامته فاجأها بمدّ يده ليصافحها، وباجتهاد لا ضعف معه ولا حرج أمام شاشات التلفزة في مشهد لا تحسد عليه، وأثناء وضع يدها على صدرها، أدخل الرئيس كفَّه في جيبه وأخرج محرمته الخاصة وغطى بها يده فاجتهدت حينئذ وهي تستحضر عدم الملامسة المباشرة لوجود حائل اضافة لرخصة الجامعة، لتضمن حماية طلاب الشريعة والدراسات الإسلامية بعد تخرجهم منها، وبحضور ذهني قررت عدم إحراج الرئيس مقابل عدم تفويت المصلحة الكبرى عملاً في الأخذ بقاعدة أهون الشرين وأخف الضررين.. وكتبتُ آنذاك مقالة في مجلة الأمان أوردتُ فيها الحديث الذي روته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: «والله ما مسّت يد رسول الله | يد امرأة قط لا تحل له».
 
الموقف الثاني: زوجها الدكتور المفكر فتحي يكن والانتخابات النيابية:
قررت الجماعة الإسلامية المشاركة في الانتخابات النيابية عام 1996م بعدد من رموزها أبرزهم أمينها العام الأسبق الأستاذ فتحي يكن. ولأول مرة، وحصراً في الشمال، رضي مهندس الانتخابات النيابية من عنجر أن يكون مرشح الجماعة في اللائحة الأولى، وانتهى رأي مؤسسات الجماعة على التحالف مع لائحة السلطة باسم الدكتور فتحي لتاريخه وفكره وحضوره. وفجأة، بعد عقد الاتفاق مع شركاء اللائحة من كل ألوان الطيف السياسي تُرشِّح أم بلال نفسها، وهنا تجلَّى مقام أبي بلال في صورتين مشرقتين:
 
الأولى: عدم إكراه زوجته على سحب التَّرشح، لأن القِوامة الزوجية تضمن حرية الزوجة في أسرتها، وبالمقابل إذا لم يسمح لها بالتعبير عن خياراتها من قبل الزوج فكيف سيطمئن المجتمع أن الإسلاميين أو المشروع الإسامي سيضمن للمخالف بالرأي أنهم سيضمنون له حق الحرية الكاملة.
 
الثانية: التزام الدكتور فتحي يكن أركان البيعة ومنها: الطاعة للقيادة بحق نفسه، وأنه بتصرفها إذا ما قررت استبداله بمرشح آخر، فهو يثق بالقيادة وبخياراتها وهو الركن العاشر من أركان البيعة. وفعلاً استبدلته الجماعة قبل أيام من إجراء الانتخابات بالمستشار الشيخ فيصل مولوي، فلازمه في جولاته الانتخابية، لتحافظ الجماعة على ميثاقها وعهدها مع شركائها في اللائحة..
 
4- الوفاء لتاريخ زوجها: تُكشف معادن الناس عند مدلهمات الأمور، وتتحدد منزلة القوم في عدم تنكرهم للفضل في ما بينهم، ولذا لم يغب عن قلب رسول الله | مقام خديجة، حيث كان يحسن لصديقاتها رغم مرور السنين على وفاتها رضي الله عنها، وبهذا الفهم عملت الدكتورة منى عند وفاة زوجها وهي تقول: لا يُكَرِّم زوجي في جنازة مهيبة إلا الجماعة الإسلامية، وفعلاً كُرِّم بخُلَّص أبنائها من ربوع الوطن ومشاركة لافتة من الإخوان في الوطن العربي.
 
عزاؤنا بإرثها العلمي، أسكنها الله فسيح جناته، وجمعنا بها مع النبيين والصدّيقين والشهداء، وأبدلنا الله خيراً منها برحماته على أهلنا في بلاد الشام، برفع الظلم والقتل والدمار
من مجلة الأمان