النصر للمؤمنين وعدٌ من الله، ما من شكٍ في تحققه في واقع الحياة وإن تأخر عن حساب البشر، مهما فشت الضلالة، واستحكمت الغواية، فسينصر الله دينه، وستكون خلافة على منهاج النبوة، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار؛ بصدق العلماء، وجهود الدعاة، ودماء الشهداء، بالجد لا بالهزل، بالأعمال لا بالأقوال ولا بالآمال، بالقلوب الصادقة لا النفوس الخائنة: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:6].. {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}[غافر:51].. {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ}[الصافات:173].. {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}[المجادلة:21].
كيف تيأس أمةٌ معها هذه النصوص من كتاب الله، بل معها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟!!
كلما أطفئ منها قبس .. .. أشرق القرآن بالفجر الجديد
كيف تيأس أمةٌ معها خبر صادق ثابت لا شك فيه أنها باقية ظاهرة منصورة إلى قيام الساعة؟!!
كيف تيأس أمةٌ هي غيث لا يدرى خيرٌ أوله أم آخره؟!!
كيف تيأس أمةٌ معها خبرٌ يقين أنها سوف تهيمن، وتحكم الدنيا، وتملأ الأرض عدلاً بعد أن تملأ جوراً وظلماً؟!!
كيف تيأس أمةٌ عبوديتها لربٍ كريمٍ رحيمٍ، لا يزداد على السؤال إلا كرماً وجوداً؟!!
كيف تيأس أمةٌ تقرأ في قرآنها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33]؟!!
كيف تيأس أمةٌ أو تستسلم وهي مدعوةٌ حين تنقطع بها الأسباب أن تتصل بمسبب الأسباب، وتظل تأمل في زوال الغمة، وتحسّن الأحوال؟!!
فاطرح اليأس .. .. جـانبا واتخذ مئزر الثقات
ما التفات إلى الورا .. .. بالذي يوصل السعاة
ما ارتماء عـلى الثرى .. .. بالذي ينقذ الحفاة
أسباب تأخر النصر:
إن تأخر النصر لا يعني عدم تحقق وعد الله، لكن ذلك لسببٍ يبحث عنه، بلا يأس ولا كلال، ومن سعى باحثاً لم يعدم السبب:
يقول سيد رحمه الله ما مضمونه: قد يبطئ النصر؛ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج نضجها بعد، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكاً ولم تحمه طويلاً.
فاتئدوا في أمركم وائتلفوا وامشوا على الهدى ولا تستيئسوا
قد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وما تملكه من رصيد، فلا تبقي عزيزاً ولا غالياً إلا بذلته هيناً رخيصاً في سبيل الله، وحالها:
وهبت نفسي لمولىً لا يخيب له .. راجٍ على الدهر والمولى هو الواقي
إني مقيمٌ على عـهدي وميثـاقي .. .. وليس لي غير ما يقـضيه خـلاَّقي
قد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة كل قواها، فتدرك أن هذه القوى بدون سندٍ من الله لا تكفل لها النصر، فتكل الأمر بعدها إلى الله وحالها:
فيا رب! أدركنا فقد بلغ الزبى .. .. من الكرب سيل الفاجعات المغرِّقُ
قد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس في تلك البيئة لاستقبال الحق واستبقائه:
فالنـصر يا قـوم لن تهـمي سحـائبه .. .. إلا بجــيلٍ عظـيم البذل مغـــوار
هبوا ولبوا فما في البؤس من رغد .. فالجذع من مكة والغصن أنصاري
ولــم تـزل رايــة التوحـــيد خـافقةً .. .. ومرهف الحد مسنوناً على النار
قد يبطئ النصر؛ لتزيد الأمة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتتضرع، فإذا ما أذن الله لها بالنصر لم تطغ ولم تنحرف عن الحق الذي نصرها الله به، لكنها:
كالجبال الشمِّ قد ثبتت .. .. فما يزعزعها بغيٌ وإرجاف
قد يتأخر النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد في جهادها لله، فهي تجاهد لمغنمٍ أو حميةٍ أو شجاعة، والله يريد أن يكون الجهاد لإعلاء كلمته وفي سبيله.
قد يبطئ النصر؛ لأن في الشر الذي تجاهده الأمة بقيةً من خير، يريد الله أن يجرد الشرَّ منها؛ ليتمحض خالصاً ويذهب وحده هالكاً.
فلو كان ملقىً بظهر الـطريق .. .. لم يلتقط مثله اللاقط
وقد يبطئ النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة لم ينكشف زيفه للناس، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى ينكشف ويذهب غير مأسوفٍ عليه، ولذا فإن علينا تعرية الباطل والكشف عن وجهه القبيح، وفضح أهله؛ لتكفر الأمة بهم، وتتبرأ منهم، فذلك من أعز مقاصد التشريع: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55].
النصر وسنن الله فيه:
مع ذا فالنصر آتٍ، لكنه لا يأتي عفوياً، بل له سننٌ خلدها الله في كتابه ليعلم ويتعامل معها المؤمنون:.. ومنها:
أن النصر من الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِه}[آل عمران:160] .. {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[آل عمران:126].. ونعم الناصر الله، كتب الله بأن الحق غالب، وبأن الرسل منصورون باسم الله مهما أرجف الطاغوت واستعلى وأفنى وتكالب. إن دين الله غالب.. إن أمر الله غالب.. إن وعد الله غالب.. إن حزب الله غالب.
ومنها: أن الله لا ينصر إلا من ينصره: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7].. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ}[الحج:40].
ومنها: أن النصر لا يكون إلا للمؤمنين وبالمؤمنين: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:62].
قد ينصر الله بالملائكة، وبالريح، وبالرعب، وبجنودٍ لا ترى، ولكن هذه تتوقف كلها على وجود المؤمنين، فالملائكة نزلت في بدرٍ على المؤمنين، {فثبتوا الذين آمنوا}، والجنود التي لا ترى، والريح التي أرسلها الله يوم الأحزاب حين ابتلي المؤمنون: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم:47]،
متى نصر الله؟
{ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214].
لا تيأسوا ليـل الشقــاء سينجلي .. .. والفجر سوف يزف صوت البلبل
وستحمل الدنيا مشاعل نصرنا .. .. في كفــها وتــدك كـــل مضـــلــل
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول