أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة

التقديم للبحث:

في القرن الماضي صرخ قس إنجليزي يدعى ( مالتوس) بصيحة تحذير من الزيادة السكانية المستمرة والمواد الغذائية المتناقصة، فقال: ( السكان يتزايدون بمعدلات حسابيةإنه إذاً الاختلال فالمجاعة .. )، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكذب ظن مالتوس .. وأن يحل التقدم العلمي والتقني ( الذي حدث في ميدان الزراعة) المشكلة ويتضاعف الإنتاج .. !!

وفي عام 1968 كتب العالم البيولوجي المعروف ( بول أيرلخ) في كتابه الشهير ( القنبلة السكانية) ما نصه : ( لقد انتهت معركة توفير الغذاء للجميع بالفشل التام، وسيعاني العالم في السبعينات من هذا القرن ( العشرين) من المجاعات وموت ملايين من البشر جوعاً، وذلك على الرغم من أن أي برنامج قد نبدؤه اليوم لتفادي ذلك) .. وقد استمر هذا العالم يطلق صيحاته التحذيرية هذه .. حتى أنه في عام 1970 حر من أن هناك احتمال موت /65/ مليون من البشر [أمريكيين بالتحديد] من الجوع، وأربعة بلايين من بقية سكان العالم، بين سنتي 1980/1989، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث !! ومع أن سكان العالم قد تضاعفوا منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، إلا إنتاج الغذاء قد تضاعف [ ثلاث مرات ] في الفترة نفسها.

 

ثم بدأت صيحات التحذير تنطلق مرة ثانية هذه الأيام، لكنها في هذه المرة مدعومة بالإحصاءات والدراسات، لكنها في الحقيقة أقل تشاؤماً من الدراسات السابقة عليها.

فتقارير منظمة الفاو ( منظمة الأغذية والزراعية) تؤكد أن نحو /25/ ألف مليون طن من التربة الخصبة تتعرض للزوال سنوياً، بفعل عوامل التعرية .. وأن تصيب الفرد من الأرض الصالحة للزراعة سينكمش بحلول عام 2010، من 0.85 إلى نحو 0.4 هكتار، ويقول ( كيث كولينز) – وهو كبير اقتصادي وزارة الزراعية الأمريكية – : ( ينبغي معالجة الوضع عن كثب)، وفي السياق نفسه يذكر تقرير المعهد الدولي لأبحاث السياسية الغذائية ( أنه ستصبح العلاقة بين إنتاج المواد الغذائية على مستوى العالم والأسعار علاقة مضطربة، الأمر الذي سيترجم على مخاطر أكبر بالنسبة للأمن الغذائي في دول العالم النامي) ..

أرقام .. ونتائج تدعو [بالفعل ] إلى القلق، وتبدوا وكأنها صيحات لطيفة، بالقياس إلى صرخات مالتوس وبول إيرلخ .. ولكن الذي يربط بينها جميعاً هو الخوف من المستقبل .. والسؤال الآن هو : أين تكمن المشكلة الحقيقية .. أهي في الإنتاج أم في التوزيع .. ؟ وهل بدأت الأرضفعلاًتعجز عن إطعام ساكنيها .. ؟؟ هل يمكن وصف هذه الحالة باختلال في الموارد أم أنه فقر في التقنية .. ؟؟

 

والأمر الذي يؤسف له أننا كمسلمين كثيراً ما ننغمس في مناظرات وتدلى بآراء دون أن نطلع على حقائق إسلامنا ونصوص شريعتنا ..

فها هو كتاب الله تبارك وتعالى يخبرنا في سورة فصلت : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت : 10].فأقوات العباد مقدرة، وهي مبثوثة في كل الأرض، وقد اختص الخالق عز وجل كل جزء منها ثروة تكفي ساكنيها وتسد احتياجاتهم، ولكن الذي يحدث هو أن بعض البشر يجور على البعض، ويبادئه بالعدوان، وإن الطغيان ومجاوزة الحد تشيع بين الناس فيظهر بذلك .. ( المتخمون) .. و(الجائعون).. !!

لقد شكل نقص الغذاء على مر العصور تحدياً للإنسان يدفعه إلى العمل والكدح وابتكار وسائل جديدة من أجل الإفادة من هذه الأقوات المقدرة التي بثها الخالق جل وعلا، وكانت النتيجة من نصيب الإنسان وهذا هو الحال اليوم أيضاً .. فسكان الأرض قد بدؤوا بمواجهة تحد جديد، والمقدر أن ينجح الإنسان المعاصر في هذا الامتحان كما نجح فيه سابقه، ولنستمع إلى شهادة عالم كبير هو ( نورمان بورلو) الذي نال جائزة نوبل لجهوده في دراسة مسألة نقص الغذاء العالميلقد أعلن هذا العالم : ( إن العالم ينتج ما يكفي لإطعام شعوبه بشكل جيد، لكن المشكلة تكمن في التوزيع العادل للإنتاج الغذائي .. ).

فالأمر ( إذن) يتعلق التوزيع .. ولعل مشهد المزارعين الأمريكيين والأوربيين وهم يقذفون بأطنان الزبد إلى البحرللمحافظة على أسعارهاكما يفعلون في أكثر من موسم وفي أكثر منتج غذائي وزراعي، مقارنة بمشهد الطفل المنتفخ البطن من أمراض الجوع في إفريقيا، ما يلخص القضية كلها..

ونتأملمن أجل المزيد من التأكيد بأن هناك اختلالاً مريعاً في التوزيع وفي التقنيةإلى رقم (الخمسين مليار دولار) الذي تنفقه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على أدوية إنقاص الوزن وتقنيات إذابة الشحوم وغيرها .. فهذه الخمسون ملياراً كافية لتوفير الجرارات والمخصبات لكل قارة إفريقيا الجائعة التي لا تنقصها الأرض .. ولذلك فمقولة الأرض التي تعجز عن إطعام سكانها خرافة ووهم كبير، فالأرض لم تبخل، ولن تبخل، على سكانها بالغذاء الوفير.

وهذا البحث إطلالة على ( أصول الأمن الغذائي في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة)، لنتعرف على الهدى الإسلامي في أصول الأمن الغذائي، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي تعرض لاقتصاديات الأمن الغذائي من خلال لفت الأنظار إلى أهمية إعمار الأرض وفلاحتها والاستفادة منها، مع ملاحظة أن هذه الثروات الطبيعية يشترك فيها جميع البشر، وفقاً لتعاليم السنة النبوية المشرفة، وعملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ) .. قال أبو سعيد الخدريراوي الحديثأن النبي عدد أصنافاً وأشياءً حتى رأينا أنه ليس لأحد الحق في أي فضل …. (رواه البخاري).

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الناس شركاء في ثلاثة الماء والعشب والنار).

ولقد أولى الإسلام عناية خاصة بالزراعة وأهميتها، فهي أساس الأمن الغذائي، وهذا الاهتمام المستمر هو أول الأمور في تحقيق الأمن الغذائي للعالم الإسلامي، لو استاد العالم الإسلامي من المنهج الإسلامي الصحيح.

 

ولقد قسمت البحث على قسمين أساسيين مع مقدمة وخاتمة ..

أما الفصل الأول : فقد تحدثت فيه عن بعض المفاهيم والمصطلحات والأفكارحول الأمن الغذائي، وخاصة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي والعالم العربي، مع بعض الإحصاءات لتقريب الصورة.

وأما الفصل الثاني فقد خصصته للحديث حول أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة، وكيف أن القرآن الكريم هو الذي يوجه الأنظار إلى أهمية تحقيق الأمن الغذائي، مع المحافظة على هذا الأمن، مع ملاحظة أن دول العالم الإسلامي الآن في ذيل القامة بالنسبة لإنتاج وتصدير واستيراد الغذاء، وكيف يتحقق للعالم الإسلامي الوصول بالفعل إلى تحقيق هذا الأمن الغذائي.

فقد أدى سوء توزيع الموارد الطبيعية والطاقات البشرية في العالم الإسلامي إلى تفاوت الدخول وإلى حدوث اختلالات كبيرة في مستويات المعيشة بين أبناء الوطن الواحد، إضافة إلى عدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من التناسب والتوازن، وفي توزيع السكان، والموارد والاعتماد على سلعة واحدة، وندرة رأس المال، وانخفاض مستوى المعرفة والتقنية، وعدم الاستفادة من الأساليب المتقدمة في الإنتاج، وارتفاع نسبة الأمية، وعدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاكإضافة إلى عدم التنسيق بين الدول الإسلامية في غيبة استراتيجية واضحة المعالم ترسم الطريق وتحدد الأولوياتكل هذه الأمور والمعوقات تنذر بوقوع خطر محدق يجب أن ننتبه إليه قبل أن تتفاقم الكارثة، ويصعب الأمر، ويصعب السيطرة عليه، ويصاحبه انهيار في البنية الأساسية لهذه المجتمعاتوذلك في إطار برنامج عمل يحقق التكامل والتوازن، ويتجاوز الخلافات والتناقضات السياسية والأيديولوجية في عالم يقوم نظامه على التكتلات الاقتصادية الكبيرة ..

فهل يأتي اليوم الذي تنتصر فيه العاطفة الدينية الإسلامية على السياسة وما فيها، ونرى العالم الإسلامي وقد أصبح تكتلاً اقتصادياً وكياناً واحداً، أن ذلك ليس على الله ببعيد ..


تحميل الملف