أذيعت مساء الأحد بعد عشاء ليلة الاثنين 22 من رمضان 1381، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم. آمين.
أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فعنوان حديثي إليك اليوم: أسباب النزول
إن القرآن الكريم يحتاج مُفَسِّرُه إلى معرفة علوم كثيرة ضخمة، لا ينهض بمعرفتها إلا من وهب نفسه للقرآن الكريم وعلومه، وآتاه الله مَلَكة الاهتداء إلى المقاصد من الآيات القرآنية، وتوافر له في نفسه معرفة اللغة العربية: نَحْوِها وصَرْفِها ومفرداتها ومشتقاتها وعلوم بلاغتها كالمعاني والبيان والبديع، كما توافر له معرفةُ القراءاتِ والناسخِ والمنسوخ وأصول العقائد والفقه وأصوله، ومعرفةُ الأحاديث المبينة للتفسير وأقوال الصحابة والتابعين ومن قاربهم في تفسير الآيات، ويضاف إلى هذا كله أن يتوافر له معرفة أسباب النزول.
ويمكن أن نقول: إن العلم بأسباب النزول هو أوَّلُ ما يبحث عنه المفسر، لأنه بمنزلة التاريخ للآية والأسباب الداعية إلى نزولها، ومن أجل هذا كان المفسرون من الصحابة يهتمون كل الاهتمام بمعرفة أسباب النزول للآية، حتى قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو من كبار فقهاء الصحابة ومفسريهم فيما رواه البخاري عنه: والذي لا إله غيره، ما أُنزِلَت سورةٌ من كتاب الله تعالى إلا أنا أعلمُ أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله تعالى إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أني أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تعالى تُبَلِّغُه الإبلُ لركبتُ إليه.
وجاء في صحيح البخاري وسنن الترمذي وغيرها أنه كان لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجلس استشاري يَجمعُ فيه أشياخَ المهاجرين والأنصار وكُبراءَهم، وكان يجمع إليهم الفتى الشاب العالم سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي لُقِّبَ بتُرجمان القرآن لعلمه بمعاني القرآن وأسباب نزوله، فكان الأشياخ يجدون في أنفسهم شيئاً من حضور الفتى ابن عباس معهم، حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لم تُدْخِلُ هذا الفتى معنا ولنا أبناءٌ مثلُه؟ فقال عمر: إنه مَن قد علمتم. قال ابن عباس: ثم دعاهم ذات يوم ودعاني معهم، وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾؟ فقال بعضهم: أمرنا الله أن نحمده ونستغفره إذا جاء نصر الله وفتح علينا. وقال بعضهم: لا ندري. وبعضهم لم يقل شيئاً، فقال لي عمر: يا ابن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَهُ اللهُ لَهُ. فقال عمر: ما أعلمُ منها إلا ما تقول. فتبين للأشياخ بهذه المساءلة فضلُ الفتى ابن عباس الذي أدرك من تأخر نزول هذه السورة أنها علامة على قرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال عبد الله بن عمر: نزلت هذه السورة بمِنى في حِجَّة الوداع فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً.
ولمّا كان لمعرفة سبب النزول هذه المنزلة العظيمة ألَّفَ فيه العلماء كتباً خاصة بأسباب النزول، فألَّفَ فيه الأئمة الأعلام: عليُّ بن المديني شيخ البخاري، وأبو المُطَرِّف عبد الرحمن بن محمد ابن فُطيس الأندلسي، ومحمد بن أسعد بن الحليم العراقي، وأبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، وأبو جعفر المازندراني، وأبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، وبرهان الدين الجعبري، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام السيوطي، وخَلْقٌ سواهم، والمطبوع من كتب أولئك الأئمة اليوم كتاب الواحدي المسمى أسباب النزول، وكتاب السيوطي المسمى لباب النقول في أسباب النزول.
وقد تظاهَرَتْ أقوالُ العلماء في لزوم الاعتناء بأسباب النزول وبيان أهميته لفهم القرآن الكريم، فقال بعضهم: من عرف سبب نزول الآية فقد أصاب منها نصف المعنى. وقال الإمام الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال الشيخ ابن تيمية: معرفة سبب النزول تُعِينُ على فهم الآية، فإنَّ العِلمَ بالسبب يورث العلم بالمُسَبِّب.
وها أنا ذا أورد بعض الآيات التي يتوقف فهم معناها على معرفة سبب نزولها لتكون بمثابة نماذج توضح أهمية أسباب النزول في فهم القرآن الكريم.
قال تعالى في مبتدأ سورة النساء: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾.
يلاحظ القارئ والمستمعُ المتأملُ في هاتين الآيتين أن الآية الأولى يأمر الله فيها الأوصياءَ على اليتامى بأن يعطوا اليتامى بعد بلوغهم سِنَّ الرُّشْدِ أموالَـهم، كما نهى الله فيها الأوصياء أيضاً أن يبدلوا مال اليتيم أو يأكلوه، فإن ذلك يُعَدُّ عند الله حُوباً كبيراً أي حراماً عظيماً، ثم تأتي الآية الثانية فتقول: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾.
فيرى القارئ والمستمع أن الخطاب في صدر هذه الآية الثانية لا يزال متوجهاً إلى الأوصياء على اليتامى، ولكن جاءت تتمة الخطاب في الآية تأمر الأوصياء على اليتامى أن يتزوجوا ما شاؤوا من النساء اللواتي يَطِبْنَ لهم؛ واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع، إذا خافوا أن لا يُقسِطوا في اليتامى ويعدلوا فيهم، ويبدو للناظر أنه لا ترابط بين خوف الأوصياء من ظلم اليتامى وبين أن يؤمروا بالزواج بواحدة أو أكثر من النساء اللائي يطبن لهم.
هذا ما قد يلحظه القارئ أوَّلَ وهلة فيتساءل ما وجه الارتباط بين أول الآية وآخرها؟ وقد وقع هذا التساؤل لإمام تابعي جليل هو عُروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة الأئمة، فجاء إلى خالته عائشة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمِ النساء بكتاب الله تعالى، فسألها عن هذه الآية فقالت له مبينة سبب نزول الآية: يا ابن أختي، هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حِجْرِ ولِّيها - أي في عُهدة وليها - فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن يتزوجها بغير أن يُقْسِطَ لها في صَداقها - أي بغير أن يعدل لها في مهرها - ويُعطِيَها مثل ما يعطيها غيره، فنهى الله الأوصياء على اليتيمات أن يتزوجوا اليتيمات إلا إذا أعطوهن أتمَّ المهر الذي يعطيه الناسُ لهن، فإذا كانوا يخافون أن لا يعدلوا في مهور اليتيمات، فلينكحوا ما طاب لهم من النساء غير اليتيمات واحدةً أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً. فكان في سبب النزول الذي بينته السيدة عائشة أوضحُ تفسير للآية وفهمها وبيان وجه الترابط بينها، بحيث لا يبقى في نفس القارئ أو المستمع أي تساؤل.
وإليكم نموذجاً آخر من الآيات التي يتوقف تمام فهمها على معرفة سبب نزولها، قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلِله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلي إلى أي جهة شاء، ولا يجب عليه أن يتوجه إلى الكعبة المعظمة والبيت الحرام لا في سفر ولا في حضر.
لكن إذا علمنا أن هذه الآية نزلت في المسافر إذا أراد أن يصلي نافلة غير فريضة، فله أن يصلي حيث توجهت به وسيلة ركوبه دابة كانت أو سيارة أو طيارة أو قطاراً، وذلك رخصة للمسافر وتيسيراً للعبادة.
إذا علمنا ذلك تبين لنا أن ما يُفهَمُ من ظاهر الآية غير مُراد، ويشهد لذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مُقبِلٌ من مكة إلى المدينة على راحلته حيثما توجهت به ناقته وحيث كان وجهه، وفي هذا نزل قوله تعالى: ﴿وَلِله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. وإذ عرفنا هذا أدركنا ما لأسباب النزول من موقع في فهم كلام الله تعالى على وجهه الصحيح.
وكنت أود أن أورد نماذج أخرى تؤكد أهمية معرفة سبب النزول لفهم القرآن الكريم، ولكن الوقت المحدد لا يتسع لذلك، فأرجو أن أوفق للحديث عن نماذج أخرى في أسباب النزول مساء يوم الأربعاء من هذا الأسبوع إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول