أسباب العمل في خبر الواحد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..

فإن الله تعالى أرسل إلينا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم برسالة عظيمة، هي دين الله الحنيف، فبلّغها وأدّاها حقّ تأدية، حتى وصلتْ إلينا سالمة مكرمة، ومما وصل إلينا من رسالته صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة سنته العطرة، عبر أحاديثه المروية بطريق الصحابة الكرام ومن تبعهم، ومن هذه الأحاديث ما رواه عدد غفير من الصحابة جمع عن جمع فبلغ حدّ التواتر، فسميت بالأحاديث المتواترة، ومنها من رواه العدد القليل منهم فسميت بأحاديث الآحاد، فمن العلماء من أخذ بها بعد أن جرّد منها الضعيف وعمل بها، ومنهم من ردّها لظنيتها، وفي هذا البحث أسرد سبب الأخذ بحديث الآحاد رغم أنّه ظنّي، والله تعالى هو الموفق أولاً وآخراً.

تعريف الخبر:

الخبر: النبأ، قال الليث: الخبر ما أتاك من نبإ عمن تستخبر،(1) قال تعالى: يومئذ تحدث أخبارها [الزلزلة:4]. أي يوم تخبر بما عمل عليها.

أقسام الخبر(2):

باعتبار ما عُلم كذبه، وما لا يُعلم صدقه ولا كذبه.

الأول: ما عُلم صدقه وهو نوعان: متفق عليه، ومختلف فيه.

المتفق عليه وهو:

1- ما عُلم صدقه بالضرورة، مثل: الواحد نصف الاثنين، والكلّ أعظم من الجزء.

2- خبر الله تعالى، لأن الصدق صفة كمال، والكمال واجب له، والكذب صفة نقص، وهو محال عليه سبحانه.

3- خبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخبر به عن الله لدلالة المعجزة على صدقه.

4- خبر كلّ الأمة، لأنّها لا تجتمع على ضلالة، لثبوت عصمتها.

5- كلّ خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه، أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو الأمّة.

6- الخبر المتواتر، وسيأتي الكلام عليه.

وأمّا المختلف فيه، فمنه:

خبر من أخبر بحضرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر عليه، فقيل عدم إنكاره دليل صدقه، وقد عدّه الغزالي من المعلوم صدقة، فقال: كلّ خبر صحّ أنّه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن غافلاً عنه فسكت عليه، لأنّه لو كان كذباً لما سكت عنه. ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين(3).

الثاني: ما عُلم كذبه:

1. ما يُعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس المشاهد أو أخبار التواتر.

2. ما يُخالف النصّ القاطع من الكتاب والسنّة المتواترة وإجماع الأمّة.

3. ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب.

4. ما سكت الجمع الكثير عن نقله، والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلد قتل في السوق على ملأ من الناس، ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه، إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته(4).

الثالث: ما لم يُعلم صدقه ولا كذبه: وهو ثلاثة أقسام:

الأول: ما ترجح احتمال صدقه كخبر العدل.

الثاني: ما ترجح احتمال كذبه كخبر الفاسق.

الثالث: أن يتساوى الأمران كخبر مجهول الحال(5).

معنى كلمة آحاد:

لغة: أح د: (الْأَحَدُ) بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْعَدَدِ تَقُولُ: أَحَدٌ وَاثْنَانِ وَأَحَدَ عَشَرَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ(6). واصطلاحاً: عند الأصوليين: ما عدا المتواتر.فيشمل كلّ خبر لم تتوفر فيه شروط المتواتر(7).

تعريف خبر الآحاد:

لغة: خبر الواحد في اللغة: ما يرويه شخص واحد(8). عند المحدثين: خبر الواحد كلّ ما لم ينته إلى التواتر، وقيل هو ما يفيد الظن(9). عند الأصوليين: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من انتهى به إليه دونه(10). وخبر الواحد هو ما نقله واحد عن واحد، أو واحد عن جماعة، أو جماعة عن واحد، ولا عبرة للعدد إذا لم تبلغ حد المشهور(11). وقال المروزي السمعاني: أخبار الآحاد ما أخبر به الواحد والعدد القليل الذى لا يجوز عليهم المواطأة على الكذب(12).

أقسام خبر الواحد:

وينقسم خبر الآحاد من ناحية العدد إلى: غريب، وعزيز، ومشهور، ومستفيض.

فالغريب: ما انفرد به واحد في طبقة من الطبقات ويسمى فرداً.

والعزيز: ما انفرد به اثنان في طبقة من الطبقات.

والمشهور: ما انفرد به ثلاثة إلى تسعة في طبقة من الطبقات.

والمستفيض: ما انفرد به عشرة فصاعداً ولم يصل حد التواتر.

بما يفيده خبر الواحد(13):

اختلف العلماء فيما يفيده خبر الواحد العدل الضابط عن مثله إلى صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا:

• إنه يفيد العلم، وهؤلاء منهم من قال: يفيد العلم على اطراد، ومنهم من قال: يفيده لا على اطراد.

• وذهب البعض أنه إنما يفيد العلم بانضمام القرائن غير اللازمة للتعريف.

• وقالت طائفة: إنه إنما يفيد الظن.

قول جمهور الأصوليين:

أن خبر الواحد العدل، لا يفيد إلا الظن، واستدلوا على ذلك بأدلة، أهمها:

1. نعلم ضرورة أنا لا نصدق كلّ خبر نسمعه.

2. لو أفاد العلم لأدى إلى تناقض المعلومين، فيما لو أخبر ثقة آخر بضد ما أخبر به الأول.

3. لو أفاد العلم، لحصل العلم بنبوة من يخبر بكونه نبياً من غير حاجة إلى معجزة دالة على صدقه.

4. لو أفاد العلم، لجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به، لكونه بمنزلتها في إفادة العلم.

5. لو أفاد العلم، لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد، وتفسيقه وتبديعه.

6. لو أفاد العلم، لوجب الحكم بالشاهد الواحد من غير حاجة إلى شاهد آخر، ومن غير افتقار إلى تزكية.

7. لجواز الكذب والغلط على الراوي، لكونه غير معصوم فصفة خبر الواحد أنه يجور عليه الكذب والوهم.

معنى الظن:

لغة: قال: الظن يقين وشك: يقول: اليقين منهم كعسى، وعسى شك. وقال شمر: قال أبو عمرو: معناه ما يظن بهم من الخير فهو واجب، وعسى من الله واجب. وقال الله جلّ وعزّ حكاية عن الإنسان: إنى ظننت أنّى مُلاق حسابيه [الحاقة:20] أي علمتُ(14).

اصطلاحاً: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر(15).

في إفادة خبر الواحد العلم:

ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أنّ خبر الواحد العدل يفيد القطع إذا صحّ، واختارها جماعة من أصحابه. واختار هذا القول الحارث المحاسبي، وهو قول جمهور أهل الظاهر، وجمهور أهل الحديث.

وقال ابن القيم: "فممن نصّ على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه، كأبي محمد بن حزم، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، قال ابن خويز ويقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري، نصّ على ذلك مالك. وقال أحمد: نعلم أنّها حق، ونقطع على العلم بها(16).

أسباب العمل بخبر الواحد:

إننا في هذا البحث لا نتكلم عن الخبر الضعيف، ولكن بحثنا محصور في الخبر الصحيح المتصل الذي نقله العدل، ومع أنّه سلم من الضعف والانقطاع والاتهام فهناك من يحكي تركه، وفي الطرف النقيض اتفق جمهور العلماء على الأخذ بخبر الواحد والعمل به على الرغم من أنّه ظنّي، وأسباب الأخذ به يعود إلى:

1) وجوب العمل به مع شبهه، لأنّ شبهته ضعيفة ومردودة: (إنّ خبر الآحاد وإن كان رواته اثنين فأكثر: وصحّ سنداً ولم يكن له علّة، ولم يعارضه ما هو أقوى منه، أفاد الظنّ الراجح، ووجب العمل به اتفاقاً مع ما فيه من الشبهة، لأنّها شبهة ضعيفة مردودة)(17).

2) استحالة جعل السنّة النبويّة كلّها منقولة إلينا بالتواتر: (يقول الغزالي: وقد ثبت باتفاق أهل السير أنّه كان صلى الله عليه وآله وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه، ولو احتاج في كلّ رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يفِ بذلك جميع أصحابه، وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم، وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعاً)(18).

3) كذلك كثرة العمل به في عصر الصحابة رضي الله عنهم دون نكير: (ومنها ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن، وإلى فاطمة بنت أسد وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة، وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم قال الشافعي: وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنهما يعول على أخبار الآحاد، وكذلك محمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار. وكذلك كان حال طاووس وعطاء ومجاهد وكان سعيد بن المسيب يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصرف، فيثبت حديثه سنة، ويقول: حدثني أبو هريرة. وعروة بن الزبير يقول: حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «قضى أن الخراج بالضمان» ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز، فينقض عمر قضاءه لأجل ذلك. وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين، وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق، وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر، ولو كان نكير لنقل ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف، وإنما الخلاف حدث بعدهم) (19).

4) كثرة أخبار الآحاد في السنّة المعطرة والحاجة إلى معرفة الأحكام: (إن كون الأمر الذي جاءت به السنّة كثير الوقوع لا تأثير له في قبول أو ردّ أخبار الآحاد، لأنّ الحاجة لمعرفة حكم ما يقل وقوعه كالحاجة لمعرفة حكم ما يكثر وقوعه، وكلاهما قد ينقل الآحاد، فضلاً عن أن الكثرة أو القلة لا ضابط لها في هذا الباب)(20).

5) عدم القناعة بمخالفة سنّة الآحاد للأصول: (أما التشبث بمخالفة سنّة الآحاد للأصول فغير مقنع، لأنّ السنّة هي التي تؤصل الأصول، فإذا جاءت بحكم يخالف الأصول الثابتة، فإنّها تعتبر أصلاً قائماً بنفسه يعمل في دائرته، كما في السلم، مع أنّه بيع معدوم، ودلّ على أن المردود من سنة الآحاد الصحيحة السند، بحجة المخالفة للأصول، إنّه في الحقيقة موافق للأصول لا مخالف له)(21).

6) لأنّ العمل به يقتضي دفع الضرر: (أنّ العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجباً؛ لأنّ العدل إذا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أمر بكذا، حصل ظنّ أنّه وجد الأمر، وأنّا لو تركناه لصرنا إلى العذاب)(22).

7) لأنّ الظنّ في اللغة يفيد الاحتمال الراجح: (الظَّنُّ: التَّرَدُّدُ الَّراجِحُ بَين طَرَفَي الاعْتِقادِ الغيرِ الجازِمِ). وَفِي المُحْكَم: هُوَ شَكٌّ ويَقِينٌ إلاَّ أَنه ليسَ بيَقِينِ عِيانٍ، إنَّما هُوَ يَقِينُ تَدَبُّرٍ، فَأَمَّا يَقِينُ العِيانِ فَلَا يُقالُ فِيهِ إلاَّ عَلَم. وَفِي التَّهْذِيبِ؛ الظَّنُّ: يَقِينٌ وشَكٌّ. وقالَ المَناوِيُّ: الظَّنُّ الاعْتِقادُ الراجِحُ احْتِمالِ النَّقِيضِ، ويُسْتَعْمل فِي اليَقِينِ والشَّكِّ. وقالَ الرَّاغبُ: الظنُّ اسمٌ لمَا يَحْصَل مِن أَمارَةٍ، وَمَتى قَوِيَتْ أَدَّتْ إلى العِلْم، وَمَتى ضَعُفَتْ لم تُجاوِز حَدّ الوَهْمِ، وَمَتى قَوِي أَو تَصَوَّرَ بصورَةِ القَويّ اسْتعْمل مَعَه أنَّ المُشَدَّدَة أَو المُخَفَّفَة، وَمَتى ضَعُفَ اسْتُعْمل مَعَه أَن المُخْتصَّة بالمَعْدُومِين مِن القَوْلِ والفِعْل، وَهُوَ يكونُ اسْماً ومَصْدراً)(23).

8) لضرورة العمل به في الشهادات والفتاوى: (سبب الاضطرار إلى العمل به، أمّا في الشهادات والفتوى والأمور الدنيوية كالإذن في دخول الدار ونحوها فظاهر، فإنّه يشقّ على النّاس الرجوع في ذلك ونحوه إلى الأخبار المتواترة ووقوفهم عندها، وقد وقع الاتفاق على ذلك بين جميع العلماء) (24).

9) اعتبار الظنّ الراجح في الشريعة: (الراجح معتبر في أحكام الشريعة العملية، فلا يشترط لثبوتها اليقين، وقد مثلنا بما شرعه الشارع من أحكام بناء على الظن الغالب كما في خبر الواحد والشهادة، وخبر المرأة عن انقضاء عدتها. وهذه أحكام شرعت لتحقيق مصالح راجحة، وإن كانت فيها مفاسد مرجوحة، نظراً لاحتمال كذب المخبر أو الشهود أو المرأة)(25).

10) لضرورة الدعوة إلى ذلك: (وأمّا في الأحكام الشرعية فلأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث ليعلمها الناس، وهو صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث لجميع الناس، مضطر إلى تبليغ الناس كلهم تلك الأحكام، وليس يمكنه ذلك بمشافهة الجميع، فلا بدّ من بعث الرسل إليهم بالتبليغ، وليس عليه أن يُسيّر إلى كلّ بقعة عدداً متواتراً، فلزم بالضرورة أن التبليغ يكون بأخبار الآحاد)(26).

11) من معاني الظن "اليقين": (ظَنَّ: الظَّاءُ وَالنُّونُ أُصَيْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: يَقِينٍ وَشَكٍّ. فَأَمَّا الْيَقِينُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: ظَنَنْتُ ظَنًّا، أَيْ أَيْقَنْتُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ [البقرة: 249]. أَرَادَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يُوقِنُونَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ وَتَعْرِفُهُ. قَالَ شَاعِرُهُمْ:

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ... سُرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ

أَرَادَ: أَيْقِنُوا. وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ)(27).

12) الدلالة على الله وصفاته بطريق البرهان العقلي: (أمّا ما يُطلب فيه اليقين كالعلم بالله وصفاته، فإنّ ذلك لا يجوز العمل فيه بهذه الأخبار لأنّها لا تفيد العلم، والظنّ في ذلك غير جائز. فكيف يمكن تبليغ هذه إلى النّاس كلهم؟ فنقول: إنّ ذلك يمكن بأن يرسل فيها الآحاد أيضاً، ولكنّه يشير في كلامه إلى البرهان العقلي مما يخبرهم به ممن يكون له فطانة، فيتنبه بذلك الخبر إلى ذلك البرهان بطريق العقل، ومن لا فطانة له فقد يتعلم على الطول، وقد يسافر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستقصي به ذهنه شرعاً)(28).

13) لأنّ كثير من العلماء حكى الإجماع في حجيّة الظن. قال إمام الحرمين: (فقد تبين بمجموع ما ذكرناه إجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم على العمل بالرأي والنظر في مواقع الظن ومن أنصف من نفسه لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض والاستنباط ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر)(29). وقال الإمام الغزالي: (وقد ثبت بإجماع الصحابة إتباع الظن الغالب)(30).

14) عدم تكليف النّاس ما يشقّ عليهم: (أمّا إذا قلنا: إن الأحكام لا تعرف إلا بالشرع فظاهر، وإن قلنا بالعقل، فتكليف النّاس الوقوف على براهين جميع الأحكام الشرعيّة مما يشق جداً، ويشغلهم عن الأعمال التي لا بدّ منها في عمارة البلد، فلذلك اكتفى الشارع في هذه الأحكام بالظن. فكفت فيها أخبار الآحاد، وإشارات البراهين العقلية في الأحكام التي لابدّ فيها من اليقين، وهي التي يتوقف عليها الإيمان فيتم بذلك تبليغه النّاس كلهم جميع الأحكام)(31).

15) حتى لا يكون ذريعة إلى إبطال السنن: (لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد, إذا عدلت نقلته وسلم من النسخ حكمه, وإن كانوا متنازعين في شرط ذلك, وإنما دفع خبر الآحاد بعض أهل الكلام لعجزه والله أعلم عن علم السنن, زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تواترت به أخبار من لا يجوز عليه الغلط والنسيان, وهذا عندنا منه ذريعة إلى إبطال سنن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لوجهين: أحدهما: أن ما شرط من ذلك صفة الأمة المعصومة, والأمّة إذا تطابقت على شيء وجب القول به وإن لم يأت خبر. والثاني: أنه لو طُولب بسنّة يتحاكم إليها المتنازعان تواترت عليها أخبار نقلتها وسلمت من خوف النسيان طرقها لم يجد إليها سبيلاً..)(32).

16) لعدم التسليم للمفسدة النادرة: (حجّة المنع من جواز التعبد به، أن التكاليف تعتمد تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وذلك يقتضي أن تكون المصلحة أو المفسدة معلومة، وخبر الواحد لا يفيد إلاّ الظن، وهو يجوز خطؤه فيقع المكلف في الجهل والفساد وهو غير جائز، وهذه الحجّة باطلة إمّا لأنّها مبنية على قاعدة الحسن والقبح ونحن نمنعها، أو لأنّ الظنّ إصابته غالبة وخطؤه نادر، ومقتضى القواعد أن لا تترك المصالح الغالبة للمفسدة النادرة، فلذلك أقام صاحب الشرع الظنّ مقام العلم لغلبة صوابه وندرة خطئه)(33).

نتائج البحث:

1. علينا ألا نتساهل في الأخذ بالأحاديث التي دون التواتر، وبنفس الوقت علينا ألا نهمل الكمّ الأكبر من أحاديث الآحاد التي تشكل غالب السنّة النبوية.

2. لقد اهتم علماء الحديث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعوا القواعد في الأخذ بها أو تركها، وهذا عمل يجب ألا نهمله ونتناساه.

3. إن أحاديث الآحاد تفيد الظنّ، ولكن هذا لا يعني تركها لظنيتها، فالظن هنا راجح، لذا علينا العمل بمقتضاه لا سيما أن كثير من العلماء أوجبوا العمل به.

4. إن العمل بحديث الآحاد أجمع عليه جمهور العلماء.

5. إن إفساد العمل بحجة أن الأحاديث ظنية يجعلنا نترك السنّة برمّتها، لذلك علينا الأخذ بها.

والحمد لله رب العالمين

(1) الهروي، تهذيب اللغة، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001) ج7/ص157.

(2) الشنقيطي، أحمد عبد الوهاب، خبر الواحد وحجيته، (المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية، ط1، 2002)، ص40.

(3) الغزالي، أبو حامد، المستصفى، (دار الكتب العلمية، ط1، 1993) ج1/ص113.

(4) الآمدي، أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، (بيروت، المكتب الإسلامي)، ج2/ص11.

(5) الإسنوي، عبد الرحيم، نهاية السول شرح منهاج الوصول، (بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1999)، ج1/ص264.

(6) الرازي، محمد بن أبي بكر، مختار الصحاح، (بيروت، المكتبة العصرية، ط5، 1999) ج1/ص14.

(7) الجيزاني، محمد بن حسين، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، (دار ابن الجوزي، ط5، 1427ه)، ج1/ص141.

(8) الهروي القاري، علي بن سلطان، شرح نخبة الفكر، (بيروت، دار الأرقم)، ج1/ص209.

(9) بن جماعة الحموي الشافعي، بدر الدين، المنهل الروي في مختصر علوم الحديث، (دمشق، دار الفكر، ط2، 1406ه)، ج1/ص32.

(10) الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة (مصر، مكتبة الحلبي، ط1، 1940) – ج1/ص369.

(11) الشاشي، أحمد بن محمد، أصول الشاشي، (بيروت، دار الكتاب العربي) ج1/ص272.

(12) المروزي السمعاني، منصور بن محمد، قواطع الأدلة في الأصول، (بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1999)، ج1/ص332.

(13) الشنقيطي، أحمد، خبر الواحد وحجيته، ج1/ص117

(14) الهروي، تهذيب اللغة، ج14/ص260.

(15) ابن فورك، محمد بن الحسن، الحدود في الأصول (بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1999)، ص148.

(16) الشنقيطي، أحمد عبد الوهاب، خبر الواحد وحجيته، ص147.

(17) الأشقر، محمد سليمان بن عبد الله، الواضح في أصول الفقه، (عمان، دار النفائس، ط7، 2016) ص109.

(18) الغزالي، المستصفى، ج1/ص120.

(19) الغزالي، المستصفى، ج1/ص119.

(20) زيدان، عبد الكريم، الوجيز في أصول الفقه، (دمشق، مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، 2015)، ص164.

(21) زيدان، عبد الكريم، الوجيز في أصول الفقه، ص165.

(22) الزركشي، محمد بن عبد الله، البحر المحيط في أصول الفقه، (دار الكتبي، 1994)، ج6/ص131.

(23) الزبيدي، محمد بن محمد، تاج العروس، (دار الهداية)، ج35/ص365.

(24) الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج6/ص131.

(25) زيدان، عبد الكريم، الوجيز في أصول الفقه، ص233.

(26) الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج6/ص131.

(27) القزويني الرازي، أحمد ابن فارس، مقاييس اللغة، (دار الفكر، 1979)، ج3/ص462.

(28) الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج6/ص132.

(29) الجويني، إمام الحرمين، عبد الملك بن عبد الله، البرهان، (بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1997)، ج2/ص15.

(30) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، (بغداد، مطبعة الإرشاد، ط1، 1971) ج1/ص202.

(31) الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج6/ص132.

(32) البغدادي، أحمد بن علي، الفقيه والمتفقه، ج1/ص281.

(33) القرافي، أحمد بن إدريس، شرح تنقيح الفصول، (شركة الطباعة الفنية المتحدة، ط1، 1973)، ج1/ص356.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين