أدب المسلم في اليوم والليلة (1)

اعلم ـ وفقك الله للصواب ـ أنَّ الآدميَّ لم يتميز بالعقل إلا ليعمل بمقتضاه، فأعمِل فكرَك، واخلُ بنفسك؛ تعلمْ بالدليل أنك مخلوقٌ مكلَّفٌ، وأن عليك فرائض أنت مطالبٌ بها، وأن الملكين يحصيان ألفاظك، وأن أنفاس الحي خُطاه إلى أجله، وتذكرْ أن مقدار اللبث في الدنيا قليلٌ، والحبس في القبور طويلٌ، والعذاب على موافقة الهوى وبيلٌ.

فأين لذة أمس؟ رحلت وأبقت ندمًا، وأين شهوة النفس؟ كم نكّست رأسًا، وأزلَّت قدمًا.

وما سعِد من سعِد إلا بخلاف هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دُنياه، فاعتبر بمن مضى من الملوك، والزهاد، أين لذة هؤلاء؟ وأين تعب أولئك؟ بقي الثواب الجزيل، والذكر الجميل للطائعين، والذكر القبيح، والعقاب الوبيل للعاصين، وكأنه ما جاع من جاع، ولا شبع من شبع.

والكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذةٍ، فانتبه، واتعبْ لنفسك.

واعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين، وليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم، والعمل، فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق (سبحانه وتعالى)، وحرّكاه إلى محبته، وخشيته، والشوق إليه، فتلك الغاية المقصودة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ثم تأمُّلُ دليل صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأكبر الدلائل القرآن، الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله، ثم يجب عليك أن تعرف ما يجب عليك من الوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك من الواجبات؛ فإذا عرفت قدر الواجب قمتَ به.

وينبغي لذي الهمة أن يترقّى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرآن، وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبمعرفة سير أصحابه، والعلماء من بعدهم، ولا بد من معرفة ما يقيم به لسانه من النحو، ومعرفة طرفٍ مستعملٍ من اللغة، والفقهُ أصلُ العلوم.

ولا يشبع المؤمن من العلم، وما تقف همةٌ إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة، فلا تقنع بالدُّون.

والهمة مولودةٌ مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثَّت سارت، ومتى رأيتَ في نفسك عجزًا فسلِ المنعم، أو كسلًا فالجأ إلى الموفِّق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك خيرٌ إلا بمعصيته، فمن الذي أقبل عليه فخاب؟ ومن الذي أعرض عنه فأفلح؟ وانظر إلى نفسك عند حدود الله، فتلمَّحْ كيف حفظك لها، فإنه من راعى روعي، ومن أهمل تُرك.

وانتبهْ لنفسك، واندمْ على ما مضى من تفريطك، واجتهدْ في اللحاق بالأخيار، ما دام في الوقت سعة، واذكر سنواتك التي ضاعت، فكفى بها عظةً، فقد ذهبت لذة الكسل فيها، وفاتت مراتب الفضائل.

وقد كان السلف الصالح يحبون جمع كل فضيلة، ويبكون على فوات واحدةٍ منها، قال إبراهيم بن أدهم (رحمه الله) : دخلنا على عابدٍ مريضٍ، وهو ينظر إلى رجليه، ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: « ما اغبرَّتا في سبيل الله ». وبكى آخر، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: « على يومٍ مضى ما صمته، وعلى ليلةٍ ذهبت ما قمتها ».

واعلم أن كل يومٍ خزانة، فاحذر أن يذهب يومٌ بغير شيءٍ، فترى في القيامة خزانةً فارغةً، فتندم، وقد قال رجلٌ لعامر بن عبد قيس: قفْ أكلمك، فقال: أمْسِكِ الشَّمْسَ. وفي الحديث: « مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ ». فانظر إلى مضيِّع الساعات كم يفوته من النخيل؟ وقد كان السلف يغتنمون اللحظات، فكان أربعون رجلًا من السلف يصلون الصبح بوضوء العشاء.

ومن تفكّر في الدنيا وقصرها، والآخرة وامتدادها، وتفكّر في اللبث في الجنة والنار؛ علم أنه لا نهاية له، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا ـ فرضنا ستين سنة مثلًا ـ فإنه يمضي منها ثلاثون سنة في النوم، ونحو من خمس عشرة في الصبا، فإذا حسب الباقي كان أكثره الشهوات، والمطاعم، والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء، والغفلة كثيرًا، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟

واعلم أنَّ العلمَ يرفع صاحبه، فقد كان خلقٌ كثيرٌ من العلماء لا نسب لهم يُذكر، ولا صورة تستحسن، فكان عطاء بن أبي رباح أسود اللون، مستوحش الخلقة، وجاء إليه أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ومعه ولداه، فجلسوا يسألونه عن المناسك، فحدَّثهم، وهو معرِضٌ عنهم بوجهه، فقال الخليفة لولديه: « قومَا، ولا تَنِيا، ولا تكاسلا في طلب العلم، فما أنسى ذلَّنا بين يدي ذلك العبد الأسود ».

وكان الحسن مولى ـ أي: مملوكًا ـ وكذا ابن سيرين، ومكحول، وخلقٌ كثيرٌ، وإنما شرفوا بالعلم، والتقوى.

إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا=لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي

واعلم أن العلم على قدر الحفظ، فالعلم ما في صدرك، لا ما حوته كتبك، فعليك بالحفظ، واصدق في الالتجاء إلى الحق سبحانه، فراعِ حدوده.

وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به، فإن الذين أعرضوا عن العمل بالعلم مُنِعوا بركته، ونفعه، وإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علمٍ.

وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السامعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلّت موعظته عن القلوب، كما يزل الماء عن الحجر، فلا تعظِنّ إلا بنيةٍ، ولا تمشينّ إلا بنيةٍ، ولا تأكلنّ لقمةً إلا بنيةٍ، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر.

واعلم ـ أيها الحريص على اقتباس العلم ـ أنك إن قصدت بالعلم المنافسة، والمباهاة، والتقدّم على الأقران، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا؛ فأنت ساعٍ في هدم دِينك، وإهلاك نفسك، وبيع آخرتك بدنياك، وإن كانت نيتك وقصدك من طلب العلم الهداية، فأبشِرْ؛ فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت، وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت.

واعلم أنَّ أوامرَ الله تعالى فرائض ونوافل؛ فالفرض رأس المال، وهو أصل التجارة، وبه تحصل النجاة، والنفل هو الربح، وبه الفوز بالدرجات.

ولن تصل إلى القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك، وجوارحك في لحظاتك، وأنفاسك، حين تصبح إلى حين تمسي.

واعلم أنَّ الله تعالى مطّلِعٌ على ضميرك، ومشرِفٌ على ظاهرك وباطنك، ومحيطٌ بجميع لحظاتك، وخَطَراتك، وخَطَواتك، وسائر سكناتك، وحركاتك؛ فتأدَّبْ ـ أيها المسكين ـ ظاهرًا، وباطنًا بين يدي الله تعالى تأدّبَ العبد الذليل المذنب في حضرة الملك الجبّار القهّار، واجتهدْ ألا يراك مولاك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.

ولن تقدر على ذلك إلا بأن توزع أوقاتك، وترتِّب أورادك من صباحك إلى مسائك، فأصغِ إلى ما يُلقى إليك من أوامر الله تعالى عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك.

فإذا استيقظت من النوم، فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر، وليكن أول ما يجري على قلبك، ولسانك ذِكْر الله تعالى؛ وقل عند ذلك: « الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ».

فإذا لبستَ ثيابَك فانوِ به امتثال أمر الله في ستر عورتك.

وإذا قصدتَ بيت الخلاء لقضاء الحاجة، فقدّم في الدخول رِجْلك اليسرى، وقل ما ورد، وقدِّم في الخروج رِجْلك اليمنى، وقل ما ورد.

ولا تترك السواك؛ فإنه مطهرةٌ للفم، ومرضاةٌ للرب.

فإذا فرغتَ من طهارتك فصلِّ في بيتك ركعتي الصبح، ولا تدعِ الصلاة في الجماعة، لا سيما الصبح، فإن كنت تتساهل في مثل هذا الرِّبْح، فأي فائدةٌ لك في طلب العلم؟ وإنما ثمرة العلم العمل به.

فإذا سعيتَ للمسجد، فامشِ في تؤدةٍ، وسكينةٍ، ولا تعجل، وقل دعاء الذهاب للمسجد.

فإذا أردت دخول المسجد، فقدِّم رِجْلك اليمنى، وقل دعاء الدخول، ولا تجلسْ حتى تصلي ركعتي التحية، فإذا فرغت من الركعتين، فانوِ الاعتكاف، ولا تشتغلْ إلى وقت الفرض إلا بذِكْرٍ، وتسبيحٍ، أو قراءة قرآنٍ.

فإذا سمعت الأذان في أثناء ذلك، فاقطع ما أنت فيه، واشتغلْ بإجابة المؤذن، ثم اذكر الدعاء بعد الأذان.

فإذا صليت ففرِّغْ قلبك من الوسواس، وانظر بين يدي من تقوم، ومن تناجي، واستحِ أن تناجي مولاك بقلبٍ غافلٍ، وصدرٍ مشحونٍ بوساوس الدنيا، وخبائث الشهوات.

واعلم أنه تعالى مطلِعٌ على سريرتك، وناظرٌ إلى قلبك، وإنما يتقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك، وخضوعك، وتضرعك، واعبده في صلاتك كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فإن لم يحضرْ قلبك، ولم تسكنْ جوارحك لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فقدِّر أن رجلًا صالحًا من وجوه أهل بيتك ينظر إليك ليعلم كيف صلاتك، فعند ذلك يحضر قلبك، وتسكن جوارحك، ثم ارجع إلى نفسك، وقل: يا نفس السوء، ألا تستحين من خالقك، ومولاك؛ إذ قدَّرْتِ اطّلاع عبدٍ ذليلٍ من عباده عليك ـ وليس بيده ضرك، ولا نفعك ـ فخشعتْ جوارحك، وحسنتْ صلاتك، ثم إنك تعلمين أنه مطّلِعٌ عليك، ولا تخشعين لعظمته، أهو تعالى عندك أقلّ من عباده؟ وعالج قلبك بهذه الحيل، فعسى أن يحضر معك في صلاتك؛ فإنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.

وكن في جميع قيامك مطرِقًا، قاصِرًا نظرك على مصلّاك؛ فذلك أجدر لحضور قلبك.

واعلم أن عماد الصلاة الخشوع، وحضور القلب مع القراءة، والذِّكْر، ثم اذكر الأذكار بعد الصلاة.

ولا تنس أذكار الصباح ففضائلها عظيمةٌ، وامكث في المسجد إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس وارتفعت قدْر رمحٍ، فصلِّ ركعتين، فإذا أضحى النهار، فصلِّ صلاة الضحى ـ واعلم أن الصلاة خيرٌ كلها، فمن شاء فليستكثرْ، ومن شاء فليستقلّ ـ وما فَضَل من أوقاتك فاصرفْه في طلب العلم النافع، وهو ما يزيد خوفك من الله تعالى، ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك، ويزيد في معرفتك بعبادة ربك.

وإن لم تقدِرْ على تحصيل العلم النافع، فاشتغلْ بالذِّكْر، والتسبيح، والقراءة، والصلاة، واشتغلْ بما يصل منه خير إلى المسلمين، وتدخل به السرور على قلوب المؤمنين.

فإن لم تقوَ على ذلك، فاشتغل بحاجاتك اكتسابًا على نفسك، أو على عيالك، وقد سَلِم المسلمون منك، وأمِنوا من لسانك، ويدك، وسَلِم لك دِينك، إذا لم ترتكب معصيةً؛ وهذا أقلّ الدرجات في مقامات الدِّين، وما بعد هذا فهو من مراتع الشياطين؛ وذلك بأن تشتغل ـ والعياذ بالله ـ بما يهدم دِينك، أو تؤذي به عبدًا من عباد الله تعالى؛ فهذه رتبة الهالكين؛ فإياك أن تكون في هذه الطبقة.

وانوِ الخير لجميع المسلمين، واعزمْ ألا تشتغل في جميع نهارك إلا بطاعة الله تعالى، واقصِدْ في قلبك الطاعات التي تقدر عليها، ولا تدع عنك التفكّر في قرب الأجل، والموت القاطع للأمل.

وإن كانت الوساوس في العزلة تجاذبك إلى ما لا يرضي الله تعالى، ولم تقدر على قمعها بوظائف العبادات، فعليك بالنوم، فهو أحسن أحوالك، وأحوالنا، وإذا عجزنا عن الغنيمة رضينا بالسلامة في الهزيمة.

وينبغي لك أن تستعد لصلاة الظهر قبل الزوال، ثم صلِّ أربع ركعات قبل الظهر، ثم صلِّ الفرض مع الإمام، ثم صلِّ بعد الفرض ركعتين.

ولا تشتغل إلى العصر إلا بتعلم علمٍ، أو إعانة مسلمٍ، أو قراءة قرآنٍ، أو سعيٍ في معاشٍ لتستعين به على دينك، ثم صلِّ أربع ركعاتٍ قبل العصر؛ فهي سنةٌ، ولا تشتغلْ بعد العصر إلا بمثل ما سبق.

ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة، فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق، بل ينبغي أن تحاسب نفسك، وترتِّب وقتك، وتعيِّن لكل وقت شغلًا لا تتعداه، ولا تؤثر فيه سواه، فبذلك تظهر بركة الأوقات.

فأمَّا إذا تركت نفسك سدىً، لا تدري بماذا تشتغل في كل وقتٍ، فينقضي أكثر أوقاتك ضائعًا، وأوقاتُك عمرُك، وعمرُك رأسُ مالك، وعليه تجارتك، وبه وصولك إلى نعيم دار الأبد، في جِوارِ الله تعالى؛ فكل نَفَسٍ من أنفاسك جوهرةٌ، وإذا فات فلا عَود له، ولا تفرحْ إلا بزيادةِ علمٍ، أو عملٍ صالحٍ؛ فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلّف عنك أهلُك، ومالُك، وولدُك، وأصدقاؤك.

ثم قلْ أذكار المساء، فإذا اصفرّت الشمس فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب، واشتغل بالتسبيح، والاستغفار؛ ثم صلِّ الفرض وصلِّ بعده ركعتين، وإن أمكنك أن تنوي الاعتكاف إلى العشاء، وتحيي ما بين العشاءين بالصلاة فافعل.

فإذا دخل وقت العشاء، فصلِّ ركعتين قبل الفرض، ثم صلِّ الفرض، وصلِّ الراتبة ركعتين، ثم صلِّ الوتر بعدها ثلاثًا بتسليمتين، أو بتسليمةٍ واحدةٍ، واقرأ فيها سورة الأعلى، والكافرون، والإخلاص، وإن كنت عازمًا على قيام الليل، فأخِّر الوتر، ليكون آخر صلاتك.

ثم اشتغل بعد ذلك بمذاكرة علمٍ، أو مطالعة كتابٍ، ولا تشتغل باللهو، واللعب، فيكون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك؛ فإنما الأعمال بخواتيمها.

فإذا أردتَ النومَ، فنَمْ على يمينك، واعلم أن النوم مثل الموت، فكن مستعدًّا للقاء الله، بأن تنام على طهارة، وتكون وصيتك مكتوبةً تحت رأسك، وتنام تائبًا من الذنوب، مستغفرًا، عازمًا على ألا تعود إلى معصيةٍ، واعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك الله تعالى.

واعلم أنَّ الليل والنهار أربعٌ وعشرون ساعةً، فلا يكن نومك بالليل والنهار أكثر من ثماني ساعات، فيكفيك إن عشت مثلًا ستين سنة أن يضيع منها عشرون سنةً، وهو ثلث عمرك.

واعزم على قيام الليل، أو على القيام قبل الصبح، فركعتان في جوف الليل كنزٌ من كنوز البِرّ؛ فاستكثرْ من كنوزك ليوم فقرك، فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا متَّ، وقل عند نومك أذكار النوم.

فإذا استيقظتَ، فارجع إلى ما عرَّفتك أولًا، وداومْ على هذا الترتيب بقية عمرك.

فإن شقَّتْ عليك المداومة، فاصبرْ صبر المريض على مرارة الدواء انتظارًا للشفاء، وتفكَّرْ في قِصَر عمرك، وإن عشت مثلًا مائة سنةٍ، فهي قليلةٌ بالإضافة إلى مقامك في الدار الآخرة، وهي أبد الآباد، وتأملْ حالك كيف تتحمل المشقة، والذلّ في طلب الدنيا شهرًا، أو سنةً رجاء أن تستريح بها عشرين سنةً مثلًا، فكيف لا تتحمل ذلك أيام قلائل رجاء الاستراحة أبد الآباد؟!

ولا تطوِّلْ أملك، فيثقل عليك عملك، واعلم أن الموت لا يهجم في وقتٍ مخصوصٍ، وحالٍ مخصوصٍ، فاستعدَّ له، ولعله لم يبق من أجلك إلا يومٌ واحدٌ، أو نفَسٌ واحدٌ؛ فقدِّر هذا في قلبك كل يومٍ.

واعلم أنَّ الجمعةَ عيد المؤمنين، وهو يومٌ شريفٌ خصّ الله (عزّ وجلّ) به هذه الأمة، وفيه ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها حاجةً إلا أعطاه إياها، وهي آخر ساعةٍ بعد العصر، فاستعدَّ لها من يوم الخميس؛ بتنظيف الثياب، وبكثرة التسبيح، والاستغفار عشية الخميس، وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واغتسلْ، وتزيّنْ بالثياب البِيض، واستعملْ من الطِّيب أطيب ما عندك، وبالِغْ في تنظيف بدنك بالحلق، والقصّ، والسواك، وسائر أنواع النظافة، وتطييب الرائحة، ثم بكِّر إلى الجامع، واسعَ إليها بالسكينة.

فإذا دخلت الجامع، فاطلب الصف الأول، فإذا اجتمع الناس فلا تتخطَّ رِقابهم، ولا تمر بين أيديهم وهم يصلون، ولا تقعدْ حتى تصلي التحية، وإن كان الإمام يخطب، ولا تدعْ قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؛ ففيها فضل كثير، وأكثِرْ من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا اليوم خاصةً.

ومتى خرج الإمام، فاقطع الكلام، واشتغل بجواب المؤذن، ثم استماع الخطبة، والاتّعاظ بها، ثم اقتدِ بالإمام، فإذا فرغتَ وسلَّمتَ، فصلِّ بعد الجمعة ركعتين، أو أربعًا مثنىً، مثنىً، وأكثِرْ من الدعاء عند صعود الخطيب المنبرَ، وعند قيام الناس إلى الصلاة، فيوشك أن تكون الساعة الشريفة في بعض هذه الأوقات، واجتهدْ أن تتصدق في هذا اليوم بما تقدر عليه، وإن قلّ، فتجمع بين الصلاة، والصدقة، والقراءة، والذِّكْر، والاعتكاف.

واعلم ـ أيها اللبيب ـ أنه لا ينبغي لك أن تقتصر على صوم رمضان، فتترك التجارة بالنوافل، وكسب الدرجات العالية في الفردوس؛ فتتحسر إذا نظرت إلى منازل الصائمين، كما تنظر إلى الكواكب الدُّرِيَّة، وهم في أعلى عليين.

ولا تظننّ إذا صمتَ أن الصوم هو ترك الطعام، والشراب، والوقاع فقط، بل تمام الصوم بكفِّ الجوارح كلها عما يكرهه الله تعالى، فينبغي أن تحفظ العين عن النظر إلى المحارم، واللسان عن النطق بما لا يعنيك، والأذن عن الاستماع إلى ما حرّمه الله؛ فإن المستمع شريك القائل، وكذلك تكفّ جميع الجوارح كما تكفّ البطن، والفرج، ثم اجتهد أن تفطر على طعاٍم حلالٍ، ولا تستكثرْ، فتزيد على ما تأكله كل ليلةٍ، فلا فرق إذا استوفيت ما تعتاد أن تأكله دفعتين في دفعةٍ واحدةٍ.

واعلم أنَّ المقصود بالصيام هو كسر شهوتك، وتضعيف قوتك لتقوى بها على التقوى، فإذا أكلت عشية ما تداركت به ما فاتك ضحوة، فلا فائدة في صومك، وقد ثقلت عليك معدتك، فإذا عرفت معنى الصوم فاستكثر منه ما استطعت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين